- ضياف البراق
تخطرين على بالي، فتهتزُّ شجرةُ اللوز بداخلي، أقذف بك إلى كلماتي الجائعة، فتزدهر المعاني، وتحلو الصُّوَر، أنحتُ قلبكِ البنفسجي على خشب الطاولة، فينبتُ عُشْبُ العشقِ حولي، وتهبط العصافيرُ في زوايا روحي، يخلبني سِحْرُكِ في انقذاف الضوء إلى المجهول، يُسْكِرُني صوتُكِ الطازجُ عندما يقتحمني عَبْرَ زجاج النافذة كلما خطفني الشوقُ الهائج إلى شهوة الكتابة، هكذا ترقصين على مسرح نبضي الجديد، بأسلوب أخطر من الغواية، وهكذا تنكتبين على صفحات جنوني الذي قد يصير كتابًا مقدَّسًا..
تشبهين تلك اللحظة الفريدة التي يطلع منها الصباح الأنيق، يا أعذب من خشوعٍ طويلٍ في صلاتي الأخيرة، تخلعين عنّي كآبتي، بفَنٍّ غير مسبوق، أنتِ مؤثِّرة مثل “سافو” شاعرة اليونان في العصر القَبْميلادي، بل وتضاهين جمالَها، روحًا ونبضًا، وهي التي عاشت تتقن الرقص على إيقاع الطبيعة، فكانت المسافةَ الواصلة بين الكلمة والنبيذ، والقهوةَ الشهيّة بين الحقيقة والخرافة، وكانت تغتسل بماء النشوة الشِّعرية اللذيذ، وتخلق حُريَّتها باستمرار، وبقصائدها الشائقة الرشيقة كانت خطيرةً مثلكِ الآن، ومثلها أنتِ تخطفين ألواني غير العادية، تسرقين حتى خيالاتي بهمساتكِ الدافئة، تهزمينني في أحلامي المنفردة، تتملّكين أنفاسي، بأغنياتكِ وظلالكِ وبراعتكِ السَّلِيقيّة، بقناديلكِ الداخلية وانحناءاتكِ الجمالية ولمساتكِ الملائكية تتكاثرين داخل لغتي، تستحوذين على ذاكرتي اليومية، تصيرين كلَّ الفراشاتِ وأنا الربيعَ مطويًّا بين أجنحتكِ الملوَّنة بألوان الحياة.
منذُ نظرتي الأولى إلى وجهك القرمزي المختلِف، وجدتُنِي مخلوبًا بكِ، مدفوعًا إليكِ، بجميع جوارحي، كأني مثل هذا الطفل الذي سقط سهوًا في بئر من النور لا قرار لها. بالنسبة لي، ومنذُ أول لحظة، كنتِ أنتِ الطريقَ الوحيدةَ المؤدّيةَ إلى كَنْزٍ عظيم، إنك تشبهين التسامح الذي تكلم عنه مُعلّمي الهندي الحكيم المتصوِّف أوشو. فذلك الكتاب العظيم الذي يحمل عنوان “التسامح” هو أجمل ما أحببتُ في حياتي. إنّي إذ أنقل إليكِ صوتي هذا، إنما لكونكِ معجونةً بالجمال حتى لكأنّكِ روح التسامح النوراني الذي يزرع سنابل الضوء في جراح أعماقنا الممتلئة بالظلام. عندما ننطلق نحو الجمال، وننغمس فيه، ونتماهى به، فنحن إذَنْ نتحرر بعمق من ظلامنا الداخلي الكئيب. فأنتِ آسِرة حقًا، باهرة بامتياز، وأنا أنجرف نحوكِ بهذه الاندفاعة المُفرِطة، كمحاولة من شاعرٍ يائس للاختباء وراء جمالكِ الناضج؛ من سموم هذا القبح المنتشر حولي بشدة كثيفة.
بدافع عميق، ولأوّل مرة، وبكل صدق، هأنذا أجيئكِ بهذا النص المفتوح، كجرحي، بهذه الرسالة الصافية مثل روحكِ الهادئة. يا لي من مجنون، لكني لستُ مُراهِقًا مغرورًا. وهذا الدافع العميق، الذي يهوي بي فيكِ، بكل هذا الحماس الشاغِف، لا أستطيع تفسيره، ولا تجنُّبه، أو تحويله إلى شيء آخر، أو إلى فكرة غير خطيرة.
إنه الدافع الذي يشبه الحب من وراء ستارة شفّافة، بل يشبه المطر يهطل في قلب الحزن العاطش، بل ويشبه الثورة بعد صمت طويل. ثم إنني لم أعد أتذكر متى بالضبط لمحتُ وميضكِ لأوّل مرة. من الصعب على إنسانٍ مجنونٍ بالجمالِ، مثلي، أن يتذكّر تفاصيل لحظة جميلة عصفتْ به ذات صدفة عبرتْهُ بسرعة. ليست المشكلة هناك، إنها هنا في قلبي، في هذا القلبِ الذي لا يتماسك كلما وجدَ نفسه مأسورًا أمام جاذبية الجمال، أو أمام لوحة إلهية داهشة.. كلما عانقتُ الحياة، خذلني الحب، وكلما وقعتُ في الحب، قسَتْ عليّ فلسفةُ الحياة. بالطبع، أنا جربت الحب مرات كثيرة، أحببتُ فراشاتٍ كثيرات، غير أني فشلت في هذه التجارب جميعًا. وهذه الحرب التي تدور منذ بضع سنوات، لمْ تفتك بي أكثر من هذا الحب المجنون.. فخذيني من شتاتي، من كل هذا الضياع الفاجع، أَطلِقي سراحي من قبضة هذه الفوضى الكئيبة، التي تحيل وجهي عبثًا، عانِقِي وجعي بشفتيك، واصنعي خلاصي الضروري على يديك الطاهرتين أكثر من النقاء الكامل.
يا التي تتجلّى في أحلامي مثل شُرْفةٍ يطل منها اللهُ على طفل يبكي كي يحنوَ عليه ويمسحَ دموعه.. سأكتب إليكِ لا لكي أكتمِلَ، بل لكي تسمعَ الجبالُ صوتي، وتردِّدَ الأجيالُ صداه إلى ما لا نهاية.. سأقرؤكِ فيما أكتبك كي يرقُصَ معي المَوْجُ على السواحل، ويبتسِمَ رَذاذُ الهطول الصيفي، وهو يرشُّ شبابيكَ المنازل، وملامحَ المارّة، وأغصانَ الشجر، ويُبَلِّلُ حبّاتِ الترابِ والحصى على جنبات الطريق. لن أموت أبدًا، لأني سأتجه نحوكِ مهرولًا كلما عصفتْ بي رياحُ الأسى، وأرتمي في آفاقك دومًا، حتى يكتبني هذا الغيابُ الفاتِكُ، هذا العذابُ الحارِقُ، حضورًا سعيدًا بين عينيكِ ونهديك، فأصير معكِ نهرًا دافقًا، ممتدًا بينكِ وبيني، فقط، نهرًا متجدِّدًا بكِ يجري عزيرًا من حياة إلى حياة، دونما أي انقطاع.
بي رجفة هائلة من الحب ستظل تَرُجُّني باستمرار حتى بعد موتي. هناك، بل في كل مكان، سوف أظل أراكِ أمامي كبقعة من الضوء تنمو سريعًا في خيال طفل يبتسم نحو المستقبل، أو كدهشة زرقاء في لوحة رسمها بابلو بيكاسو ذات نشوة نورانية عاصفة. ها أنتِ تنحدرين، برشاقة جارِفة، من غيمةٍ في أقصى المُحَال الواقعي، وتهبطين على قلبي، على قمة شاهقة من العشق، تهبطين ضوءًا وسَلامًا بين ظلامي وجرحي، بين لحظةِ حزنٍ عابرة ولحظةِ فرحٍ أبدية.
عينانِ جميلتانِ كأنهما مثل زهرتين باسمتين متجاورتين في شجرة الذَّهَب. في عينيكِ الخالِبتَيْن، ما يشبه الخط الواصل بين العطر والشِّعْر. في العُمْق، تحديدًا في جوهركِ، ثمة ما يجعل البحرَ يرتجف أمام ورقة فارغة. لذيذة أنتِ كلدغةِ الأملِ المتطرِّف في قلبِ شاعرٍ متصوِّف. تزهرين فوق ضفاف الأشياء، ويذوب من ابتسامكِ صَخْرُ الوقت العابِس. تحت خطواتكِ الرهيفة، المتناسقة، عندما تقطعين الطريق، أو تذرعين الشارع مرورًا إلى ذهني، يصير الغبار عَسَلًا، والصدى ذَهَبًا، والماء ينبجس، والألوان تتلاقح، فتتعانق المشاعرُ المتناقضة، ويبدأ الرقص الجماعي البهيج بين الأعداء والأصدقاء، وتنبعث حلاوةُ الحياة من جديد.
تخلقين كلَّ هذا الأملِ الدافق، ترسمين من جميع الجهات معنى الوجود، وتواصلين صعودكِ الكرنفالي نحو الشاهق من التاريخ، تنقذين الكلامَ من عبثِ اللاهثين وراء الموت الغَبَائي، تنثرين سُكَّرَ الحُبِّ في حقول التعاسة، تنشرين هواءكِ النقي في آفاق عديدة، وتعالجين في مخيّلتي آلامَ المسافاتِ الطويلة.
سأكونُ هذا المسمارَ الملائكي الأخير، دقِّيهِ في جدار الوطن، أو في جداركِ الاستثنائي، أو في ناصية الكون، وعلّقي عليه صورتكِ الحقيقية الكاملة، ولا تستيقظي مِنّي، هيّا دقّيني في أي حائط، وتعلّقي بي إلى الأبد، فلن أتعب منك، ولن تسقطي من يَدِيْ، أنا كاتب الحب، مسمار الخلود، وأنتِ قصيدتي الوحيدة، معبودتي إلى الأبد.