- كتب: ماجد زايد
مرحبًا انجلينا جولي، أنتِ في اليمن، هذا عظيم وربما سيكون فعلك عقيم، لكنه يحدث الأن، تدرين يا عزيزتي، هذا صوت من بعيد، سيخبرك بتفاصيل الحكاية اليمنية، وكل ما يجري في ثناياها.. بمجرد أن تطئين التراب المشوة بالبارود، سيستقبلك السياسيون المتمظهرون، ليبتسمون لكٍ في كافة الأنحاء والأرجاء، آنى وليت وجهك ستجدينهم ينتظرونك بقاماتهم وأوزانهم وإرتفاعاتهم وهالاتهم المباركات، معطرون، أنيقون، مدججون بالحمايات القريبة والبعيدة، وبكامل هيئاتهم الفذة والطموحة، سيجاملونك، سيدورون حولك، سيلوحون نحوك بأيديهم الناعمة، كحمائم السلام البيضاء، كعصافير الفضاء، وكطيور الغناء، سيحاولون التحدث معك بأفواههم العاجزة، وخيالاتهم الطامحة، سيقولون لك: أهلًا بك في اليمن، نايس تو ميت يو، نايس تو ميت يو، نايس تو ميت يو، ولن يتوقفون عن قولها، ثم يهزون رؤوسهم بينما أعينهم تترجى منك أن تأخذين عنهم فكرة مسالمة، عن رجالات قيادية ناجحة، فكرة علها تصل الى العالم عن جمالهم ومرونتهم وأحقيتهم السلطوية..
هنا في اليمن، سيحاولون الإستفادة من وجودك، كلًا على حده، بضفتي الحرب والإقتتال، سيستفيدون منك، تمامًا كما ستستفيدين أنتِ من وجودك، وكما سيستفيد رعاياك ومن أوصلونك، هذه خلاصة الفوائد، ووحدهم اليمنيون، شعب الحروب والمقابر، اليمنيون الذين يقولون عنك تزورينهم وتواسينهم وتتوسلين لهم، لن يستفيدوا من وصولك ولن تتغير أحولهم، لهذا سيقوم القياديون ليحمونك بأجهزتهم بينما يريدونها أن تأخذك لما يريدون، أماكن الحرب الندمرة والمقصوفة بأسلحة أعداءهم، مخيمات النزوح من حرب الطرفين على أشكالهم. ستتجولين في أسوء مناطق الخيال الحزين، وبكل ثانية سيخبرونك عن جرائم الأخرين بحقهم، جرائم الفتات اللعين، في بلادنا ستجدين أجمل ديكورات الصور الإنسانية، وأعظم المناظر الحزينة.. لكنك لن تجدين المآسي الأدمية الحقيقية، وضحايا الإستغلال السلطوي المهين، فقراء الأزقة والحارات، طوابير السيارات، وأسعار الحياة المرتفعة، لن يخبرونك شيئًا عن ضحايا الجوع، وملامح الصغار، وخفايا السجون وملحقات التحقيق، وكواليس المقبورين، لن يخبرونك أي شيء عن فضاعات وشماتات الأيدي العامرة بالدمار..
سجعلون منك رسولة السلام، وجالبة الحظ والجوائز والوئام، سيجاملونك كأخر الأميرات في بلاد القتال على إرادة السلطان، بعدها بقليل، سيرسلون إليك الرسائل الحسان، يطلبون منك السعادة والسلام، ويتمنون لحضرتك الراحة والإطمئنان، مع رجاءاتهم العريضة لزياراتك بالنصر والإستحسان، وقبل أن تغادرين من ضفة الفوج الأول، سيطلبون منك الصدق في القول والإمتنان، علهم يحققون طموحاتهم بالقبول والإستحسان، سيعطونك هداياهم المعطرة بالورد والزعفران، شيلان وبخور وجنابي ومنقوشات ودروع ومعمولات يمنية تثبت عنهم إصالة التاريخ والزمان، وسيكتبون لك في رسائل وداعاتهم عن ذكرياتهم وسعاداتهم وحظوظهم الخيالية بالفوز والنصران، وسيتمنون منك أخر رجاءهم البسيطة، أن تشفعي لهم لدى الأخرين، أن تقولي عنهم رجال دولة ووئام، وقادة الوطن والشعب والسلام..
بعدها ستغادرين الى ضفة الوطن الأخرى، دون أن تمرين بنقاط الأمن وسجون المعتقلين، وحمامات الدم والخراب والمقتولين بالقأدام، وحينما تصلين لنقطة الموت في لحج الشهيرة سيرفع القتلة صوبك أيديهم ملوحين بالسعادة والأمان، أهلًا بالمرأة الشهيرة، من ستجلب المال من خزائن الداعمين العالمية، هناك ستمرين في كل نواحي الطريق الهزيلة لتجدين البائسين المتعبين، لكنهم لن يتركونك في طريقهم، لتواسينهم وتتصورين معهم، يا للأسف! لن يسمح لك أحد بمقابلاتهم، لتمضي الطريق وتتلاحق الجغرافيا المقسمة بالبراميل، عندها فقط، ستكونين في وطن أخر، ومكان لا يختلف بتاتًا عن وطن الأولين، سيتسقبلونك ببشاراتهم، تمامًا كما فعل السياسيون السابقون..
ستصلين إلينا يا جوليا، وسيحتكرونك لحضراتهم، ومخيماتهم وأماكنهم المقصوفة بأسلحة أعداءهم، وفي كل مرة سيجلبون إليك الضحايا الجاهزين، والأطفال المرتلين، ليخبرونك بفضاعة الجريمة، وهول السنوات المقيتة، لكنك لن تعرفين ما يجري في بلاد الخوف المهينة، صنعاء يا سيدتي مدينة حزينة وجميلة، عنيدة ومخيفة، وهي واجهة اليمنيين الوحيدة، لكنها مصادرة ومحتكرة ووجهها واحد لا يختلف، بعد أن كان الف لون من السعادة والجمال، الخوف في صنعاء يملئ الأرجاء، والحرية كأنها أوهام، والأزمات تغطي الشوارع، والسوق السوداء تسيطر على بورصة التجارة، والمشاة العابرين يسيرون كالمجانين، والأموات المستيقضين، اليمنيون هنا صاروا نوعان لا ثالث لهما، أغنياء يتطاولون بالبنيان، أو فقراء كادحون ومهزومون ولا يملكون سبل حياتهم وغذائهم، لا كهرباء لدينا بالمجان، لا ماء أيضًا، لا صحة ولا تعليم، ولا أمال أو أحلام، والمؤسسات مع الوزارات أصبحت جهات إيرادية وتحشيدية، صنعاء مدينتنا المكلومة، العيش فيها نعمة عظيمة، لكنها بلا حياة، وبلا مستقبل يلوح في الأفق، نعمة أخيرة مقابل جحيم المغادرة، حدود المدينة مغلقة وجوازاتها ممنوعة، والبقاء فيها إرغام حقيقي، وفيها تعود الناس على السكوت، كما تعودوا على المعاناة والخفوت، الناس هنا تعايشوا بالفعل مع كل ما يجري، وتغيروا بناءً على متغيراتها، البسطاء أكثر من وعى هذا وتعاملوا مع حياتهم على أساسه، السلفيون يعيشون هنا بكثرة، والإصلاحيون سكتوا وقرروا أن يمارسون حياتهم رغم كل شيء فيها، كدلك المؤتمريون والإشتراكيون، الناس مرغمون بالفعل على الحياة والعبور، لكنهم غير ملزمون بخوض معارك أحد، لا شأن لأحد منهم بخوض معارك الأخرين، لهذا هم يتجاهلون ما يجري وما يقال، كأنهم غير موجودون، ومن بقي من أصوات حقيقية لازالت تحاول إيصال ما يمكن وما يتاح، بتوازن وموضوعية، بلا صخب أو مغامرة، لم يعد بمتسع أحد ترك نفسه للمجهول، بعد أن أثبتت التجارب والمعطيات السابقة أن سعر الرأس اليمني هنا وهناك رخيص ولا يساوي بالنسبة للأخرين في قيمته ريال واحد.. الحياة هنا مستمرة، كذلك الشغف والحب والتعايش مع شيء من العقلانية، الجميع يحاولون خوض ما يمكنهم فعله، وأن فشلوا في لحظة عابرة، ليس من شأنهم تحمل عبئ الإتهامات والشتائم البعيدة، وليس عليهم قول ما يريده المهاجرون، الوضع مختلف، فمن يعيش في الخارج ليس كمن يعيش في باب اليمن، ومن يعيش حياته في رخاء ليس كمن يقاوم للبقاء..
هذه خلاصة مدينتنا يا #انجلينا_جولي، وفيها نحن نعلم جيدًا دوافع زيارتك البطولية، تريدين جمع المال، والمزيد منه، كما تريدين تخليد ذكرى مجدك الشخصي، أثق بهذا، ستحصلين عليه، وستحصل السلطات على ما تريده منك، وسنبقى نحن كما نعرف أنفسنا، مجرد هامش في جداول الزائرين..
أخيرًا، هل تعلمين شيئًا يا رسولة السلام والأمجاد..
هذا الوطن لم يكن وطننا.. ليس هذا ما يجب أن تعرفينه عنا.. ليس كل شيء عن حياتنا أو شكلنا، كل هذا ليس سوى قبح الأوغاد منا، الأوغاد الملعونين بينما يحولون حياة الملايين الى لعنة لا يمكننا التخلص منها، أنا لا أدري حجم العار الذي صنعوه لأنفسهم بالتآمر علينا..؟!
كان وطننا جميلًا ي انجلينا، كان برائحة البن والياقوت، سعيدًا وبهيًا ويشبه شكلنا البسيط في ملامحة المتلهفة للحياة والسعادة، كانت الدنيا في سلام ووئام، وكان العالم يعرف عن بلادنا ذكريات السياحة والسعادة والطيبين، كان الجميع يأتون إلينا من كل الدنيا، كانت قرانا مزارًا للمتجولين الهاربين من ضيق العالم وشقائه، كان الجميع يهربون الى سعادتنا، ويتجرعون منا سعادة لا تكاد تنتهي في حياتهم، كانوا يرقصون في حضرتنا، ومن لا يجيد الرقص يتعلمه من طريقتنا، كانوا يتحدثون عنا للعالم بعد أن يغادرن، ليأتي الأخرون بعدهم متلهفين لكأس بن وإرتشافة حياة، كان الجميع منهم يغادرون ثم يعودون، لم يكونوا يستطيعون نسياننا من بعدنا، كنا نبتسم للجميع، ونرحب بالجميع، ونطعم الجميع، ونفرح مع الجميع، كانت قرانا المعلقة في الجبال البعيدة مزارًا للسعادة والحياة، كانت جميعها تتحدث لغات العالم بحذافيرها، كنا نحب الحياة ونمنحها للملايين من العالمين، كتا شعبًا باعثًا للتفاؤل والأمل، لكنهم خانونا وخدعونا وأوقعونا في فخ المؤامرة والخداع ثم هربوا وتركوا الشعب يتجرع من خلفهم ألة الحرب والدمار، هربوا وزاد العار في ذاكرة اليمنيين عنهم، لقد صرنا قطعيًا من الميليشيات المتدينة والمنتقمة، هكذا صرنا بلمحة عين، وطرفة زمن، والتفاتت خائن وجبان لم ندرك ذلك حينها، لكننا تجرعناه يومًا بعد يوم من قلوبنا ودماءنا وحياتنا، وما زلنا نموت ونبكي على أطلال السعادة بينما تعود في ذكرياتنا وأحلامنا، أطلال الحياة بينما تعود في ملامحنا المكابرة للبقاء والعودة.. ولو تأملت جيدًا لوجدت الشعب اليمني عن بكرة أبيه، يقول لك بوعي قلبه وعينيه ليخبرك بأن هذا الموت ليس منا، وليس من عاداتنا، ولم نخلقه بإرادتنا، لقد صنعه الأوغاد فينا، وذهبوا يتقاسمون تفاصيله من دماءنا، لقد أهلكونا وأعدموا رغبتنا في البقاء أكثر، لقد جعلونا عالة على أنفسنا وبيوتنا، عالة تائهون بلا أمل، وبلا عمل، وبلا غاية ولقمة عيش أو وطن.. مجرد قطيع يموت كل يوم من الحرب والجوع والخدلان والكثير من الموت المصنوع بعناية بالغة الدهاء..!
كل الحب إليك انجلينا جولي.. كل الأمنيات والدعوات، الوطن عن بكرة أبيه يرجوك بقلبه وبشعبه وبروح الطيبين فيه.. كوني بخير لأجلنا، وأهلًا بك في بلادنا، وحين ترحلين أتمنى أن تتذكري ما فعلته الحرب فينا..