- عبدالكريم الرازحي
كان صندوق العم فرحان قد اعاد ذاكرة اهل القرية سنوات الى الوراء وذكّرهم بنبوءة سمعوها من المنجم مسعود الضَرَّاب ( واحدمن اشهر المنجمين العابرين للقرى) وتذكروا انهم عندمروره بالقرية في (سنة الطاعون )سألوه عمااذا كان الطاعون علامة من علامات قرب قيام الساعة!! فكان جوابه هوان القيامة سوف تقوم عندما يظهر
(صندوق الفتن وصندوق الشيطان )
وعندما سالوه عن (صندوق الفتن وصندوق الشيطان ) وكيف يمكنهم معرفته وتمييزه عن بقية الصناديق !!
قال لهم :
“صندوق مُقْرِن
قرنه مسمار
كذاب دجّال
يعرف يفتن
ينقل اخبار
صوته مزمار “
وحين راح الفتى احمد الميدمة يصف لهم الراديو وجدوا تطابقا بين ماقاله المنجم
“مسعود الضراب” عن صندوق الفتن وصندوق الشيطان وبين كلام الميدمة عن الراديو ومن حينها صار الاسم المتداول للراديو هو (صندوق الفتن وصندوق الشيطان ) وكانوا يعزون اليه كل المشاكل التي تحدث في القرية ويحملونه المسئولية ويفسرون الاحداث من خلاله فعندما طلق عبده قاسم زوجته نبات القوا باللوم عليه وقالوا انه السبب
و عندما تناهى الى اسماعهم بان الحمَّار” سيف انعم “قتل زوجته “راقية” واختفى هو وحماره. شعر الجميع بالالم وبالغضب والقوا باللوم على الراديو واجمعوا على انه اخطر من الجدري ومن الطاعون ولشدة تأثرهم لمقتل “راقية” كانوا على استعداد يومها للانتقام من الراديو ولفعل اي شيئ يشفي غليلهم ويهدئ من شعورهم بالذنب ذلك ان شعورا بالذنب كان قدتملَّكهم بسبب تساهلهم مع العقوبات المفروضة على العم فرحان وتسامحهم مع كل اولئك الذين كسروا الحظر وفكوا الحصار .
وفي عصر ذلك اليوم الذي شيَّعوا فيه راقية عادوا من المقبرة مباشرة الى الساحة وهم اكثر غضبا واكثر تحفُّزا واكثر احتشادا حتى ان الفقيه حين ابصرهم محتشدين في الساحة وغاضبين ومتحفزين ومستعدين لعمل اي شيئ استعاد ثقته بنفسه وبصحةِ وسلامةِ موقفه. وكان ان ارتفعت معنوياته وراح يستحضراحداثا من التاريخ ويتماهى معها وقد ذكرته تلك الجموع المحتشدة والغاضبة والمتحفِّزة بجموع المسلمين وهم يزحفون صوب مكة لفتحها وتحطيم كل تلك الاصنام التي ماانفك مشركوقريش يعبدونها .
وبمجرد ان استرجع تلك اللحظة حتى شعر بالزهو وراح يخطب فيهم قائلا وهو في ذروة حماسه وزهوه :
- “المكائن ياعكابر. مثلها مثل الاصنام والراديو مثله مثل هُبَل كبير الاصنام ولايوجد فرق بين المشركين في الزمن الغابر الذين عبدوا هُبَل وبين المشركين في الزمن الحاضر الذين يعبدون الراديو”
قال لهم ذلك وطلب منهم ان يقتحموا بيت العم فرحان ويحطموا مكائن الشيطان .
لكن اهالي القرية لم يكونوا يفكرون بنفس طريقته بمافي ذلك انصاره ولم يخطر في بالهم ان المكائن اصنام اوانهم يخوضون معركة ضد الاصنام وانما كان وجود المكائن يشعرهم بالخطر وبالتهديد وكان مقتل راقية قد جعلهم يربطون بين الراديو وبين مقتلها ولانها اول جريمة قتل تحدث في قريتهم فقد اعتبروا الراديو هو المجرم وهو القاتل وهو السبب وتملّكتهم رغبة في تحطيمه والثأرمنه ولم يكن ينقصهم سوى بضعة كلمات تشعل قش غضبهم .وقدبدت لهم يومها كلمات الفقيه عن الاصنام باردة ومفتعلة وفي غير محلها لكن الفقيه سرعان ما استعاد ثقته بنفسه وبكلماته وراح صوته يرتفع عاليا مرددا التلبية :
(لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك , ان الحمد والنعمة لك والملك , لآشريك لك). …
وكان صوته وهو يردد التلبية بمثابة الشرارة التي اشعلت الفتيل ولحظتها هاج المحتشدون في الساحة وراحوا يرددون التلبية بعد الفقيه ويزحفون باتجاه بيت العم فرحان لتحطيم (صندوق الفتن وصندوق الشيطان )لكن الفتيان المناصرين للراديو تصدوا لهم وحاولوا منعهم من التقدم واشتبكوا معهم وعندها بدات المعركة بالايدي وبالحجارة والعصي بين الفتيان المناصرين للراديو وبين المعادين له وغيرهم من المتألمين لمقتل راقيةومالبثت المعركة ان احتدمت واشتداوارها وشارك الكل فيهابمافي ذلك الاطفال والنساء وكان الاطفال قدانحازوا الى صف الراديو وصف انصاره وراحوا بمقالعهم يرمون اعداء الراديو بالحجارة وكانت النساء قد انقسمن الى فريقين فريق مع الراديو وانصاره وعلى راسهن
فازعة وفريق ضده وضد الانصار وعلى راسهن النوري( صندوق حكايات القرية ) .
ومن سطوح بيوتهن رحن يتراشقن بالكلمات وباللعنات ويتبادلن الاتهامات وعندما كن يخرجن لجلب الماء من النبع او يلتقين في درب من درب من دروب القرية يتحول التراشق بالكلمات الى اشتباك بالأيدي وكانت الغلبة ليس لمن تغلب وانما لمن تتمكن من تعرية الاخرى وفي اليوم السابق لمعركة الراديو وفيما الاطفال والصبيان يلعبون في الساحة حدث اشتباك بالكلمات بين الارملة نجود وبين الفاتنة شموس التي كانت في طريقها الى النبع
كانت الارملة نجود قد استوقفت شُمُوس وقالت تتحرش بها : - “مُوْتروحي تعملي ببيت الراديو ياشموس !!”
قالت لها شموس : وانتي مودخلك يانجود !!
قالت الارملة نجود وقد استفزها رد شموس : “اني داري تروحي تقحبي ياقحبة”
وعندها وضعت شموس تنكتها جانبا ووثبت مثل نمرة فوق الارملة نجود مسكتها من شعرها والقتها ارضا وراحت تمرغها بالتراب وتنشب فيها مخالبها وكانت الغلبة لها لكن الارملة نجود بحكم خبرتها كانت تعرف كيف تحول الهزيمة الى نصر وكيف تذل تلك النمرة التي اسقطتها ارضا ومرغتها بالتراب امام اطفال وصبيان القرية وفي تلك للحظة التي كانت فيها شموس في ذروة انتصارها وزهوها تسللت يدالارملة نجود الى نحر ها وشقت قميصها نصفين وعرت صدرها امام اطفال وصبيان القرية الذين راحو ينظرون بشراهة الى نهديها وافواههم فاغرة من شدة الذهول .لحظتها شعرت شموس كمالوان الارملة نجود قد نحرتها واجهزت عليها ولشدة خجلها من نظرات الاطفال والصبيان غطت نهديها بكفيها وبدلا من ان تأخذ تنكتها وتذهب الى النبع لتملأها بالماء تركتها في مكانها واستدارت تجري عائدة الى بيتها وهي ممتلئة بالخجل والخزي من نفسها ولم يكن اطفال وصبيان القرية يومها يعرفون بانها تحب الميدمة والميدمة يحبها لكنهم شعروا بحب نحوها وبتعاطف معها وفي اليوم التالي حين شبت معركة الراديو كان نهدا شموس هما الراية التي يقاتلون تحتها دفاعا عن الراديو. كان كل واحد منهم يضع الحجر في مقلاعه ويصوبه باتجاه اعداء الراديو ثم يستدير ملتفتا الى الجميلة شموس الواقفة في سطح بيتها معتقدا انها تبصره فيما الحقيقة هي ان البنت الحلوة شموس لم تكن تبصر سوى فارسها احمد الميدمة وكان قلبها عليه حتى ان وجهها اغتسل بدموعها لحظة ابصرت وجهه وقد اغتسل بالدم جراء ضربة بالعصا وجهها له وكيل الشريعة حمود السلتوم وشدخ بها راسه.
كانت عجائز القرية جميعهن ضد الراديو (صندوق الفتن وصندوق الشيطان) وكن قد رحن يقصفنه بوابل من لعناتهن ويضرعن للأ ولياء ان يسكتوه ويخرسوه ويخرجوه من القرية
وفي الجانب الآخر كانت فازعة تبرئ الراديو من كل التهم وتقول عنه بانه ولي :
- “الراديويانسوان ولي من اولياء الله وهو اكبر من الاولياء حقنا “
كان دليلها على انه ولي هو انه يعلم الغيب ويأتي باخبار الدنيا والدول وهو جالس مكانه :
-” جالس بالطاقة ويدري بكل حاجة”
وحين يقلن لها بان الراديو صندوق الفتن ترد عليهن قائلة : - الفقيه هو صندوق الفتن وهو راس الفتنة
كانت يوم معركة الراديو قد تنبأت بانتصار الانصار وكانت حجتها هي انه مادام (ولي الله الكدومة) يقاتل معهم فسوف يكون النصر حليفهم.
ومن بين جميع نساء القرية كانت شجون ناشر اكثر عشقا للراديو وكان الراديو قد صقل موهبتها والهمها الكثير من الاغاني وفي يوم المعركة كانت تغني للراديو في سطح بيتها وتثير بأغانيها حماس الانصار وتلهب مشاعرهم :
ياراديو لندن
ياعالي الصوت
قل للحبيب يرجع
قبل مايجي الموت
ياراديو
اقبلت بالبشاير
من يوم وصلت
لا قرية العكابر
اهل القبور
قاموا من المقابر
جمال يذيع
واحمد سعيد يعلِّق
والطائرة
فوق بور سعيد تحلِّق
ومثلما فعلت التلبية ( لبيك اللهم لبيك )فعلها في نفوس اعداء الراديو فعلت الاغنية الاخيرة فعلها في نفوس الانصار وشعروا كما لوانهم بدفاعهم عن الراديو يدافعون عن الرئيس جمال عبد الناصر وعن المعلق احمد سعيد .
كانوا قد سمعوا من الراديو اكثر من خطبة للرئيس جمال عبد الناصر واكثر من تعليق للمعلق احمد سعيد وربطوا بين الراديو وبينهما حتى لقد خامرهم شعور بان من يعادي الراديو يعادي في نفس الوقت الزعيم جمال عبدالناصر والمعلق احمد سعيد.
ومن قلب المعركة راح الانصار يرددون اغنية شجون ناشر :
جمال يذيع
واحمد سعيد يعلق
والطائرة
فوق بور سعيد تحلق
وسرعان ماراحت قذائف الكدومة تحلِّقً فوق رؤوس اعداء الراديو الذين كانوا اكثر بكثير من الانصار وبسبب كثرة عددهم كانوا قد الحقوا بالانصار اصابات كثيرة وجسيمة .
لكن الانصار وبالرغم من كثرة الاصابات في صفوفهم راحوا يستبسلون ويستميتون دفاعا عن الراديو وكان عبده الكدومة ابله القرية يصرخ بكل صوته :
-” والله لانكسِّر رؤوسكم لوتقربوا من الصندوق “
كانت يده التي تشبه المجرفة تتحول الى منجنيق وبمنجنيق يده كان يقذف الحجارة ويشدخ بها رؤوس الاعداء كان قد شدخ راس وكيل الشريعة حمود السلتوم وشدخ اكثر من راس واسال من رؤوس اعداء الراديو مايكفي لملء دلو ين من الدم. كانت قذائفه تصيب هدفها بدقة ولاتخطئ حتى لقد صدّقوا يومها تلك الاسطورة التي حكتها القابلة سحابه عن مولده وكيف ان امه وهي تتمخض به كانت كأنها تتمخض بصخرة او بقطعة من جبل وكيف انها – اي القابلة سحابة -بعدموت امه وقد راح يصرخ من الجوع اشفقت عليه والقمته ثديها العجوز الضامر واليابس مثل قطعة خشب وفي نيتها ان تغالطه وتكذب عليه لكنه وقدلصق بثديها مثل القُرَّاد” البُرَّام “راح يمصُّ ويمصُّ بقوة الى ان انبجس اللبن غزيرا من ثديها العجوز والمتخشب .ثم سرعان ما انتشر خبر الولي اليتيم ( ولي الله الكدومة )الذي يعيد الخصوبة الى النساء .
كان السروري مجذوب ابن علوان قدراح يبشر اعداء الراديو بان الاولياء معهم وفي صفهم وكان قد اعتلى قبة الولي شعلان ومن فوق القبة راح يحرضهم ويقول لهم :
-“الباهوت معكم.. الباهوت بينكم .. الباهوت ناصركم ..الباهوت يقول لكم:
- كسِّروا المكائن.. كسِّروا صندوق الشيطان .ثم صاح بكل صوته :
- “مدد ياابن علوان مدد “
ولحظتها صاروا على يقين بأن كبير الاولياء احمد ابن علوان وكل الاولياء معهم فكان ان ارتفعت معنوياتهم ومالت الكفة لصالحهم و مثل الاعصار راحوا يكنسون الانصار من امامهم يضربونهم بقبضات ايديهم ويشدخون رؤوسهم بالعصي وبالحجارة ويجندلونهم ويدوسون فوقهم ويتقدمون باتجاه بيت العم فرحان وفي تلك اللحظة وقد اوشك اعداء الراديو ان يسحقوا الانصار ويلحقوا بهم هزيمة مذلة التقط ابله القرية عبده الكدومة حجرا من الارض وقذفه باتجاه مجذوب ابن علوان ومن فوق قبة الولي شعلان سقط المجذوب مضرجا بدمه ولحظتها ارتفعت معنويات انصار الراديو واعتراهم شعور بالزهو وراحوا يهتفون لولي الله الكدومة الذي حبَّل (شمس الحكومة )
ومثل (ثور احمد جابر )اندفع الكدومة خلف اعداء الراديو وكان كلما التقط حجرا تحول الحجر في يده الى قذيفة ولشدة خوفهم من قذائف ولي الله الكدومة ابتعدوا من طريقه وراحوا يفتحون لهم معركة جانبية لكن الفقيه والسيد عبد القادر راحوا يصرخون في انصارهما ان يحاصروا الكدومة ويحكموا الحصار حوله وكان الفقيه لشدة ثقته بالنصر قد صعد الى سقف المسجد وراح يوجه المعركة ويصرخ في انصاره قائلا :
-” الكدومة الزنوة عليكم بالكدومة “
وسرعان ماراح اعداء الراديو يلتفون حول الكدومة ويحاصرونه ويحكمون الحصار حوله ثم انقضوا عليه يضربونه بالعصي ضربا موجعا وهو يقاوم وبعد جهد تمكن احمد الميدمة مع مجموعة من الفتيان من كسر الحصار واخراج الكدومة وبخروجه عادت المعركة الى الانفجار وكان العم فرحان قدتمترس بجوار النافذة ومعه بندقيته الزاكي كرام وراح يراقب سير المعركة التي ازدادت احتداما وحمي وطيسها وكان على استعداد لأن يحسمها برصاصة من بندقيته لكنه آثر ان يعطي الراديو فرصة ليحسمها بطريقته ولحظتها ارتفع صوت الراديو فبُهِت الجميع وتجمدوا في اماكنهم ووقفوا مدهوشين غير مصدقين مايتناهى الى اسماعهم كان الراديو يقرا القرآن بصوت جميل خطف آذان وقلوب الاعداءقبل الانصار واثار في نفوسهم احساسا عميقا بالالوهية وكانت اول مرة في حياتهم يسمعون فيها من يقرا القران بتلك الطريقة التي تنسجم وتتناغم مع قداسته والوهيته ولحظتها قال ابله القرية عبده الكدومة والدم ينبجس من نخره وفمه ومن كل انحاء جسده الشبيه بالصخرة : - “الراديو يقرا القرآن احسن من الفقيه”