- ضياف البراق
أمس انتحر الشاب اللطيف فيصل فهد المخلافي، انتحر من القهر والتعب والرعب اليومي، لقد حاول في حياته أن يكون ما يُريد، حاول أن يحقق ولو بعضَ أحلامه الجميلة، وحاول أن يجعل لحياته معنى لكن عبثًا، فحاول ثانيةً، وحاول مِرارًا وتكرارًا لكن عبثًا، بل وحاول أن يكون أي شيء فلمْ يستطع حتى هذا، فانتحرَ، وتحرَّرَ.
وُلِدَ سليمًا فأنهكه المجتمعُ المأزوم، وشحنه بأمراضه السامّة، حتى وهنت إرادته، وانطفأت شهوةُ الحياة في أعماقه، فكانت النتيجة فاجعةً، قاسيةً مريرةً، كما رأينا.
في مجتمعٍ كهذا، وهو في الواقع ليس مجتمعًا وإنما هو جرثومة لا حدود لها، لا شيء يبقى سليمًا. أجل، لا أحد ينجو من العذاب المتواصل في مجتمعٍ جحيميّ كهذا.
كان انتحاره صادمًا، باعثًا للخوف والحزن واليأس، وكانت هذه النهاية المأساوية هي صرخته الأخيرة الصادقة.
إنها صرخته القصوى التي أراد بها فضْح قسوة وغلاظة وفجاجة مجتمعنا القاسي عديم الإحساس واليقظة والجمال.
إن مجتمعنا يقتلك بجهالاته وأغلاله وادّعاءاته وخرافاته، خاصةً إذا كنتَ إنسانًا مبدعًا أو حُرًّا طموحًا، ثم يهرول وراء جنازتك يهذي ويبكي، ويوزِّع التعازي هنا وهناك، وينساك بعد سويعات من دفن جسدك الميت.
أيُّ مجتمعٍ هذا الذي يبكي عليك يوم تموت، ولا يعيرك أي اهتمام حين تكون حيًّا؟!
كلنا مصابون وضحايا، وهذه الجراح والأمراض النفسية والمآسي الكثيرة فالمجتمع هو المسؤول الأول عنها؛ إذ هو الذي يخلقها فينا باستمرار.
نحن أشباه موتى لأننا أبناء مجتمع بلا روح.
بالطبع، أنا لست مع فكرة الانتحار، فهذه طريقة للخلاص لا تخلو من عبثية وشناعة، لا أستسيغها البتة، ولكنّي لا أجرؤ على احتقار اللائذِين بها، ولا عندي كذلك أي استعداد للدفاع عن أفكار تجرف الحياة أو تنفي قيمتها.
عندما علموا أنك فعلًا اِنتحرتَ، ورأوا صورتك منتحِرًا، تباكوا عليك، وثرثروا من وراء الأقنعة الزائفة، معبِّرين عن أنهم حزانى لموتك الفاجع الغريب، وربما سخروا منه بعبارات ملأى بالجهل والفظاظة لا تدل إلَّا على انحطاط أصحابها.
سيول من الهُراء اللزِج انطلقتْ تجري وراءك يا فيصل، بعد قليل من انتحارك، فلا تأبه للهراء الكاذب؛ تركناك تعاني وحدك، لم نكن نُحِسّ بآلامك الداخلية، فيما أنت تتألم بشدة بيننا، لمْ نسندك ولا مرّةً حين كنت تنهار من التعب، وها نحن نذرف عليك الدموع الباردة، بهذا الشكل نستعرض عضلاتنا الإنسانية الهشة، فحقيقتنا أننا أدعياء في كل شيء!
حياتنا رخيصة لدرجة الخزي والمذلة، إنها مجرد كرة مرمية عند أقدام الموت يلعب بها متى شاء، وكيفما شاء، مجتمعنا هذا لا يُقيم وزنًا للإنسان.
بكل صدق قالها يومًا المفكر المرموق أدونيس: الإنسان، حقوقه وحرياته، أو الهاوية!
نحن جميعًا في الهاوية يا أدونيس!
أنا اليومَ حاقد على مجتمعي بشدة، أهذا مجتمع يستحق أن أحترمه؟
إذا كان هو يحتقرني طيلة حياتي، فلماذا عليَّ أن أقدِّسه؟
هذا الساحِق وهو يسحقني، أيستحق أن أكون مطيعًا له؟
أليس من العدل أن أرفض بشاعاته، وأحارب أمراضه، وأفضح فساده الجارف؟
أليس من حقي الانتفاض ثائرًا في وجه هذه الانحطاطات والسموم التي يقدّسها مجتمعي، ويحافظ عليها، ويسمح لها بأن تقتل أبناءه؟
أنا هنا أثور بكل حب على مجتمعٍ لا يعرف الحب، مريض من ساسهِ إلى رأسهِ، مليء بالأسباب التي تجعله سجنًا كبيرًا يخنق حياتنا، ويسحق مستقبلَنا بخشونة حيطانه، أو جحيمًا هائلًا يلتهم كل شيء.
فهذا مجتمع النفاق والكذب والدجل والانحطاط بعديد أنواعه وأشكاله وألوانه، تلك حقيقته، فخذوها أو لا تقبلوها، فلا شك من أن الاعتراف بالحقيقة يحتاج إلى شجعان، والشجعان نادرون قليلون في هذا الزمن الجبان.
أعود لطرح سؤالي الصميمي: هل مجتمعنا إنسانيّ؟
التراث الذي تشكّل منه هذا المجتمع، ولا يزال يتشرّبه، ويخضع لسلطانه خضوعًا كاملًا وشاملًا.. إنه غُبارٌ كارثيّ، أو لمْ يعد هذا التراث القديم إنسانيًا بمعيار ضمير هذا العصر العظيم.
ها هو مجتمعنا مأخوذ حدَّ العمى بتراثٍ رجعيّ يرجع بنا إلى الوراء فحسب، وهذا انتحار جماعي!
الجنون عندما يحكم مجتمعًا ما، حينئذٍ لا يعود هذا المجتمع المجنون ينجب سوى المجانين والانتحاريين، وهذا الحاصل عندنا.
وعندي، فإنّ المجتمع الإنسانيّ هو المجتمع الذي يتغيّر إلى الأفضل، شيئًا فشيئًا مع الوقت، ولكن مجتمعنا لا يتغيّر إلّا إلى الأسوأ.
إنّ مجتمعًا لا يتقدم، لا يتأنسن أبدًا.
وهذا الكاتب والمفكر المصري سلامة موسى قد قال لنا فيما مضى بأنّ النفس السليمة في المجتمع السليم.
وهذه حقيقة واضحة كالشمس في عز الظهيرة الصافية.
ونحن جميعًا مرضى من الناحية النفسية، بل ومن جميع النواحي؛ ذلك لأن مجتمعنا سليم حد الكمال!
كلنا إذَنْ في مهبّ الانتحار العاصف بلا انقطاع..
قبل كل شيء، لا بد علينا من إعادة النظر جذريًا في حقيقة هذا المجتمع المخيف. من هنا حقًّا يبدأ إيقاف العبث الذي ننتحر به كل يوم.