- عبدالكريم الرازحي
قبل دخول صندوق العم فرحان كانت النُّورِي هي صندوق حكايات القرية وكانت حكاياتها لاتُمل وحتى تلك التي سبق وحكتها تحكيها بتفاصيل جديدة وتدخل عليها تعديلات وتحسينات وتحقنها بمواقف مثيرة واكثر اثارة وكانت في ذروة نشوتها تشق
بخيالها الجامح دروبا ومسارات جديدة للحكاية الاصل واحيانا تبتكر نهايات من وحي اللحظة اجمل واكثر ادهاشا من تلك النهايات المحفوظة في صندوق ذاكرتها .
وكان مايميزها عن غيرها من الحكائين هو انها كانت موهوبة في تلوين حكاياتها فتعطي للفرح لونا مفرحا وللحزن لونا حزينا وتعطي لغيرهما من المشاعر والانفعالات كالغضب والحب والخوف والشجاعة والرغبة في الانتقام والغيرة الالوان التي تظهرها وتبرزها للعيان وكانت ترفق حكيها بالايماءات والحركات تحكي وتمثل في نفس الوقت وتجعل مستمعيها يرون باعينهم مايسمعونه بآذانهم وكان ذلك هو السبب في نجاحها وفي ذيوع شهرتها لكن ماجعل العكابريعجبون بها هو ان حكاياتها كانت تُغذِّي احلامهم وتنعش آمالهم وترفع معنوياتهم وتفتح لهم بالحكي اكثر من باب للنجاة ثم ان ابطال حكاياتهارغم كل المصاعب والمخاطر التي تعترض طريقهم وبالرغم من كل الوحوش والغيلان التي ماانفكت تهدد حياتهم وتتربص بهم كانوا ينجون ويخرجون سالمين منتصرين وكان ذلك يشعر العكابر بالامل في النجاة من جلاديهم وظالميهم ويعطيهم دافعا للمقاومة .وفي سنوات الجوع والقحط والمعاناة كانت النوري تسند وترمِّم بحكاياتها عالم القرية وتحول بينه وبين التصدع والانهيار .
ومثل الروائيين الكبار الذين يعيشون من رواياتهم عاشت النوري بقوة موهبتها .كانت تنتقل من قرية الى قرية لتروي روايات وتحكي حكايات وتكسب رزقها ولم تكن تذهب لتتطفل اولتتسول بحكاياتها وانما كانت تُستَدعى وتُستَضاف وتنزل ضيفة على هذه الاسرة او تلك وتستقبل استقبال الاميرات وكان الاطفال حين يعرفون بأنها وصلت قريتهم ونزلت في بيت فلا ن اوعلان امتلات قلوبهم فرحا وسرورا وراحوا يشيعون الخبر ويتناقلونه ويعمِّمونه ويطلبون من امهاتهم ان يسرعن في تجهيز العشاء حتى لاتفوتهم حكاية من حكاياتها إن هم تاخروا في الحضور وكان مجيئ النوري مناسبةللسمر والسهر والخروج عن المالوف وهوكذلك مناسبة للاختلاط بين الجنسين إذ لم يكن من حق اهل البيت الذين استدعوا النوري واستضافوها ان يمنعوا احدا من حضور وليمة الحكي ولامن حقهم ان يفصلوا بين الاولاد والبنات وبحضورالنوري لم تكن الحواجز والحدود والمسافات الفاصلة بين الاولاد والبنات وبين الذكور والاناث هي التي تذوب وتتلاشى فقط وانما كانت الحدود والحواجز بين البشر والحيوانات وبين عالم الانس وعالم الجن وبين الحقيقة والخيال وكذا بين الواقع والوهم تتلاشى هي الاخرى و كانت العوالم تختلط وتمتزج وتتداخل وكل تلك الجدران العازلة تفقد صلابتها وتغدو اكثر هشاشة وعندماكان الفقيه يحتج ويدين من منبره اختلاط الاولاد بالبنات وتعلو صيحاته وانتقاداته كانت تلك الجدران تستعيد صلابتها وتتصدى لصيحاته وصرخاته فلايجد من يتجاوب معه غير الصدى.
ومما ماجعله ينقم عليها هو ان جمهورها كان اعظم من جمهوره والكل يتحلق حولها ويصغي اليها وينسحر بحكاياتها الاطفال والنساء البنات والاولاد واماهو فلم يكن يجد من يصغي الى مواعظه سوى العجائز ولشدة ماكان يبغض النوري ويحسدها راح يكفرها ويهددها بنار جهنم وكانت حجته هي انها تكذب وتحكي حكايات كلها اكاذيب والكذب حرام.
ايامها كان قد عاد من مكة مصابا بسعار التكفير وكان يقول لمن يتهمه بالخروج من مذهبه :
-” لم اخرج من مذهبي وانما خرجت من الظلمات الى النور ومن الكفر الى الايمان ومن الشرك الى التوحيد “
كانت هند زوجته اول امراة يكفرها ثم كفر كُعُود الرام جارته وبعدهما كفر فازعة وبعد فازعة كفر المُسَفِّلة غيوم عالم وبعدها شجون ناشر وبعد شجون ناشر كفر النوري وكل ليلة كان يلعنها من سقيفة بيته ويقول عنها باعلى صوته :
- “هذي الكذابة سوف تحشر يوم القيامة مع الكذابين في نار جهنم ”
لكن النوري التي كانت تسميه 🙁 كلب السقيفة ) قالت ترد عليه امام اهل القرية : - “الفقيه بعدما سارمكة يحج رجع ينبح كل ليلة بالسقيفة مثل الكلب”
كان العداء بينهما قد استفحل ووصل الى الذروة و كان ثمة يقين لدى اهل القرية بان الصلح بينهما ضرب من المستحيل لكن دخول الراديو الى القرية جعلهما يقتربان من بعض ويصطلحان وينسيان العداوة بينهما ويتحدان ضد الراديو عدوهما المشترك. كانت النوري اول من ادرك الخطر الذي يتهدّدها ويتربص بها واول من توجّس خوفا من الراديو .كانت لاتعرف تنطق اسمه وحين كانت تشير اليه اوتتكلم عنه تقول
:(صندوق فرحان)
ومن اول اسبوع شعرت بأن (صندوق العم فرحان )هو العدوالذي يجب ان تتوحد القرية ضده ولاتسمح له بالبقاء .وكان اكثر مايخيفها في صندوق العم فرحان هو انه لم يكن يحكي فقط وانما كان يغني بصوت يخطف قلوب سامعيه حتى ان النسوة والصبايا اللاتي كن يتحلقن حولها بمجرد ان يسمعن صوته وهو يغني يتوقفن عن الاصغاء اليها ويغادرن الحجرة ويتركنها لوحدها وكان ذلك يضايقها ويزعجها ويشعرها بأن صندوق العم فرحان يقود انقلابا ضدها وانه عدوها اللدود الذي لايجب ان تهادنه اوتتوقف عن التحريض ضده.
كانت حين تسمع صوته يُجنُّ جنونها ويقشعر بدنها وتصطك ركبها ويساورها شعور بأن صحتها تتداعى وكثيرا ماكانت تقول لنساء القرية : - “لما اسمع صوته يانسوان يوجعني راسي وركبي يفلتين ويوقع بي راجف “
كانت كل مساء تصعد الى سطح بيتها تنادي عقال ووجهاء القرية وتطلب منهم ان يتدخلوا لمنع وايقاف واسكات (صندوق العم فرحان) وكانت ماتنفك تهدد بانها إذا لم يمنعوه ويوقفوه ويسكتوه سوف تتحرك لوحدها وتذهب بنفسها تشكوه الى الحكومة في حيفان : - “والله لاروح بنفسي حيفان اشتكي بصندوق الملعون فرحان ”
كانت حياتها بعد دخول الراديو قد اضحت كابوسا طويلا ويوما بعد يوم كان الراديو
يسحب البساط من تحتها ويزعزع مملكتها ويجفِّف ينابيع رزقها وكان ان راح جمهورها ينفضُّ عنها ولم يعد ثمة من يدخل بيتها ويتحلق حولها ويستمع الى حكاياتها
لقد هجروها جميعهم وهجروا صندوقها وذهبوا يصغون لصندوق فرحان ويستمعون الى حكاياته واخباره واغانيه وبعد ان كانت تسندهم بحكاياتها في الزمن الصعب لم تجد من يسندها اويسال عنها او يلتفت اليها جميعهم اهملوها وتركوها لوحدها امام حائط الشيخوخة ونسوها تماما حتى اذا ذكروها لايذكرون محاسنها وانما يذكرون مثالبها وكيف انها تحالفت مع الفقيه عدوها اللدود ضد الراديو وكان فتيان القرية الذين رضعوا حليب حكاياتهامنذ نعومة اظفارهم يسخرون منها ومن صندوق حزاويهاويدينون موقفها من الراديو وحتى الاطفال الذين كانوا ينسحرون بحكاياتها ويطلبون من امهاتهم ان يصطحبنهم في الليل الى بيتها تمردوا عليها وراحوا يطلبون من امهاتهم ان يصطحبنهم الى بيت الراديو عدوها اللدود.
لكن النوري لم تستسلم ولم تتوقف عن مواصلة احتجاجاتها وكانت في النهار تعتصم بساحة القرية وتعلن موقفها المعارض للراديو وفي الليل تعتصم بسقف بيتها وتواصل الاعتراض وبعد ان خذلها عقال ووجهاء القرية راحت تستغيث بالاولياء وتستنجدبهم وتضرع لهم
وتطلب منهم ان يظهروا كراماتهم ويقصفوا عمر الراديو ويسكتوا صوته.
وكان منصور العزيق ابن اختها منارة عندما يسمعها تستنجد بالاولياء يقول لها :
-” الراديو ياخالة نوري ولي اعظم من ابن علوان ومن الاولياء كلهم “
وكانت النوري تزعل من كلامه وتقول له : - “تشاني يامنصور اصدق صندوق فرحان الملعون واكذب اولياء الله الصالحين “
يقول لها من سطح بيتهم :
-“الاولياء ياخالة ماتوا وشبعوا موت لكن الراديو حي والحي افضل واصدق من الميت. “
وعرض عليها ان يصطحبها الى بيت الراديو لكنها رفضت وقالت له : - “ادخل جهنم الحمراء ولاادخل بيت الصندوق “
وكانت تستغرب ذهاب الرجال والنساء كل ليلة للسمر والسهر في بيت الراديو وتقول ساخرة:
-” الولي وقو ولي يعملوا له مولد بالسنة وصندوق فرحان الملعون يعملوا له كل ليلة مولد وكلهم خُلَيْطْ رجال ونسوان لاالرجال يستحوا ولاعاد في نسوان يستحين
ومع مرور الايام راحت النوري تجاري الفقيه وتتماهى معه وتقفواثره ومثلما اطلق على الراديو (مكينة الزنا) اطلقت هي عليه اسما موازيا ومشابهاهو: (صندوق القُحْب )
وقالت عن النساء اللاتي يذهبن الى بيت الراديو بأنهن قِحَاب
وكان ان ثارت ثائرة النساء ورحن يشتمنها ويهددن بضربها ويطلبن منها ان تسحب كلامها و تعتذر لهن لكن النوري رفضت تعتذر وقالت لهن : - “موتِسرحين بيت الصندوق تِفعلين غير تسرحين تقحبين !!”
كانت في البداية تكره الراديو لذاته وتكره العم فرحان لانه جلبه للقرية اما بعد ان اصبح للراديو انصار يدافعون عنه وينتقدون موقفها منه فلم تعد تكره الراديو لذاته وانماكرهت انصاره وراحت تجاهر بكراهيتها لهم لكن كراهيتها للنساء كانت اشد واعظم وكانت كلما ابصرت امراة في طريقها الى بيت الراديو تقول لها تهددها :
-” والله لااقول لزوجك”
وإن كان زوجها مغتربا تهددها بأنها سوف تبلغ زوجها بطريقة ما ولشدة خوفهن منها كن يتجنبن المرور من امام بيتها ويضطررن الى الالتفاف والمرور من طريق دائري حتى لايصطدمن بها وفي تلك الليلة التي بات فيها الحمَّار سيف انعم في الراهدة تسللت راقية زوجته ومشت في الظلام حتى لاتتعرف عليها النوري عندمرورها من امام بيتها
لكن النوري التي كانت قبل عصر الراديو تجلس من بعد المغرب في زاوية حجرتها المكتظة بالنساء والصبايا والاطفال وتظل تحكي الى منتصف الليل صارت في عصر الراديو تصعد من بعد صلاة المغرب الى سطح بيتها لتراقب النساء اللاتي يتسللن من بيوتهن الى بيت الراديو وفي تلك الليلة التي مرت فيها راقية من امام بيتها قالت لها النوري : - “حتى انتي ياراقية تروحي بيت الصندوق “
وكان ان تفاجأت راقية واستغربت كيف ان النوري تعرفت عليها رغم الظلام
قالت لها -وقد اغتاضت منها ومن تلصصها-: - وانتي مودخلك بي !!
قالت النوري وقد اغضبها ردها :
-“والله لوتسرحي ياراقية بيت الصندوق لااقول لزوجك سيف انعم “
قالت راقية بنبرة حادة ومتحدية :
-” قولي له موشقطع راسي لو قلتي له !!”
وفي عصر اليوم التالي وهو يمر من امام بيتها راكبا حماره قالت له النوري :
-” اقول لك ياسيف مووقع امس !!”
قال لها سيف انعم – وقد اخافه كلامها -موهو اللي وقع ؟
قالت النوري : “ليلة امس وانت بالراهدة راقية راحت تسمر بيت الراديو “
ومن دون ادنى تفكير قفز سيف انعم مثل النمر من فوق حماره ولشدة استعجاله ترك الحمار وراح يصعد الدرب المؤدي الى بيته