- عبدالكريم الرازحي
ليلة وصوله طلب العم فرحان من زوجته مريم وهما في الفراش ان تسامحه:
-“سامحيني يامريم” – قال لها –
لكن مريم التي تشقق جسدها من الظمأوشاخ من الإنتظار استعادت كل معاناتها خلال فترة غيابه واجهشت تنتحب بصوت لايكاد يُسمع .
وتذكرت مريم انه ليلة سفره كذب عليها وقال لها بانه سوف يعود في عيد رمضان
“العيد الصغير” ومر العيد الصغير ومن بعده العيد الكبير ومن بعدهما مرت اعياد واعياد صغيرة وكبيرة وهي تنتظر عودته .
ولم تكن مريم مثل غيرها من نساء قرية العكابر اللاتي يستعجلن ازواجهن على الرحيل بحثا عن الرزق .ولاهي من اولئك اللاتي يطلبن من ازواجهن البقاء الى جانبهن ويرفضن السماح لهم بمفارقتهن قبل ان ينفخوا بطونهن ويتركوا ديدانهم في احشائهن. ابدا لم تكن مثلهن ولكنها رغم حبها له ورغبتها في ان يبقى بجانبها الى الابد لم تعترض حين اعلن عن رغبته في الرحيل .كانت تعرف بأن كل فتىً من فتيان القرية منذورٌ للهجرة والغربة وقدره ان يرحل ويسافر .وتعرف بأن النساء في قرية العكابر يشعرن بالخجل وبالنقص من بقاء الرجال الى جانبهن .وهن من صاغ المثل القائل :
- “الجالس حجر والمسافر طائر “
لكن مااوجعها هو ان زوجها الذي سافر بعد ستة اشهر من زواجهما ووعدها بالعودة بعدعام لم يعد بعد مرور العام ،ولابعد مرور عامين ،ولاحتى بعد مرور خمسة اعوام. وانما سافر وغاب وواصل الغياب وتركها تنتظره خمسة عشرة عاما حتى ان الوقت كان يمر عليها مرورا ثقيلا ويكاد يسحقها من شدة ثقله. فكل ساعة تبدو لها اثقل من صخرة وكل يوم اثقل من جبل . وكانت كلما سمعت الفقيه يتحدث عن الجحيم في العالم الآخر تضحك بينها وبين نفسها ذلك لانها كانت تعيش جحيما اعظم من الجحيم الذي يتحدث عنه الفقيه وهو جحيم انتظارعودة زوجها فرحان المُشَدَّد .
-“سامحيني يامريم “قال لها للمرة الثانية والثالثة وللمرة العاشرة وكان في اعتقاده انه بمجرد ان يجرها الى الفراش ويدخل فيها سوف تسامحه وسوف يصدر عن جسدها وهو يعزف عليه تلك الالحان العذبة التي يتوق الى سماعها لكن مريم قالت له وهي ماتزال تنتحب : - “والله ماسامحك يافرحان “
عندئذ انكسرت رغبته وانكسر داخلها وخرج منها و اخرج سيجارة من علبة سجائره واشعلها وراح يدخِّن وينفث دخانها الذي راح يتشكل على هيئة اسئلة امتلا بها راسه:
-هل تنطفئ شهوة المراة اذا غاب عنها زوجها ام ماذا؟
-هل يُعقل ان مريم التي كانت تثب الى الفراش وهي ملتهبة مثل الجمرة قدبردت وانطفأت ؟
خمسة عشر عاما اغيب عنها وتستقبلني بهذا البرود !! ماذا دهاها؟
هل فقدت لياقتها الجنسيه خلال غيابي؟ ام فقدت احترا مها لي ؟
كان ليلتها متوترا وموجوعا من زوجته وغير قادر على تفسير تصرفها
ولوانها امتنعت ولم تسمح له بان يلِجَها لتفهّم موقفها وعذَرَها اما ان تمنحه جسدا باردا ومحايد ا فذلك مااقلقه وازعجه .
هو يعرف جسدها مثلما يعرف نفسه ويعرف بانه جسد حساس شديد الحساسيه يرن اثناء الجماع مثل الة موسيقيه ،وتصدر عنه انغام عذبة ،والحان في غاية الجمال .ويذكر فرحان انه قبل سفره كان اذااختلّ الايقاع بينهما لاي سببٍ من الاسباب يُعيدُ الوِقاع اليهما الإيقاع ويصطلحان بعد الجماع. وتذكّر وهو يكاد يجهز على علبة سجائره موعظة القاضي شاهر وهي الموعظة التي سمعها منه في مجلسه قبل سفره وانحفرت في ذاكرته اكثر مما انحفرت سور القران التي حفظها عن ظهر قلب في مدرسة السيد. ايامها كانت تلك الموعظة قد غدت بمثابة عقيدة يعتنقها فتيان ورجال القرية وكان القاضي شاهر الذي اشتهر بضرب زوجاته قد راح في موعظته تلك ينصح الشبان الحديثي العهد بالزواج بضرب زوجاتهم إن هن عصينهم، اورفعن اصواتهن فوق اصواتهم، اواسأن ادبهن، اواظهرن اعوجاجا في سلوكهن. وكانت حجته هي ان النساء اجسام شهوانية لاعقول لهن ولامنطق لديهن وبأن اي خلاف قد ينشب بينهم وبينهن لايمكن حله بالمنطق وانما بضربهن وجرّهن الى الفراش وحل سراويلهن . - ” النساء ياشباب اجسام شهوانية لاعقل عندهن ولامنطق فإن هن عصينكم اورفعن اصواتهن فوق اصواتكم اواسان ادبهن واظهرن اعوجاجا في سلوكهن فاضربوهن ضربا موجعا في مؤخراتهن حتى اذاانتهيتم من ضربهن جروهن الى الفراش وجامعوهن واعلموا ان الجماع يجُبُّ ماقبله”
تذكر فرحان المشدد وصية القاضي شاهر وراودته رغبة في ضرب زوجته مريم الصَّافر بذريعة انها استقبلته ببرود ،وعاملته بجفاء ،وامتنعت عن التجاوب معه في الفراش وبدت غير سعيدة بعودته ٠لكنه راجع نفسه وراح يراجع نظرية القاضي شاهرعلى ضوء التجارب التي عاشها مع نساء مدن البحر. وقال بينه وبين نفسه:
-“ليس بالجماع والضرب وحدهما تستقيم المراة” وشعر بأنه اخطأ حين جرها الى الفراش قبل ان يريها الهدايا التي احضرها لها والموجودة في غرفة المفرش.
وكانت غرفة المفرش مشحونه حتى سقفها وممتلئه حتى آخرها ومزدحمه الى درجة يصعب التحرك داخلها بسهوله .
حقائب وصناديق وكراتين وشوالات واكياس ملقاة بعضها فوق بعض ومنتشرة على طول وعرض الغرفة وراح فرحان يفك الصنا ديق ويفتح الحقائب ويزيل الاربطه ويزيح الاغطيه .
قال لها وهو يكشف الغطاء عن مكينة خياطة ” سينجر “: - هذي مكينة الخياطة اشتريتها لك يامريم
وكان في ظنه ان مريم سوف تفرح بهديته العظيمة وتصفح عنه وترتمي في حضنه لكن مريم لم تفرح ولم تصفح وظلت محتفظة بتكشيرتها وغضبها .
وبعد مكينة الخياطة كشف الغطاء عن مكينة النار ومكينة الضوء ومكينة ثالثة ورابعة واخبرها بان المكائن التي جلبها ستكون بمثابة خدم لها ثم اشار الى مكينة الطحين وقال لها بأنها سوف تطحن الحبوب بدلا عنها وبدلا عن كل نساء القرية : - “هذي مكينة الطحين يامريم شتطحن الحب حقنا وحق اهل القرية كلهم “
ولمعرفته بتلك المطاحن الحجرية التي تطحن الحبوب وتطحن النساء معا شعر فرحان المشدد بأن زوجته سوف ترضى عنه كونه حررها وحرر معها نساء القرية من عمل العبيد ومن اكثر الاعمال مشقة لكن مريم لم تفرح ولم تصفح.
بعد ئذ اخرج فرحان مكينته السابعة وام المكائن من الكرتون وقال لها :
-“هذي يامريم مكينة تتكلم وتغني اسمها راديو”
وكان على يقين وهو يُسمِعها صوت المكينة بان وجهها الغاضب والمغلق مثل حجر سينفتح بقوة الدهشة وسيتحول غضبها الى فرح وسخطها الى رضاغير ان صوت الراديو كان بمثابة الصاعق الذي جعل مريم تنفجر من الرعب ولشدة خوفها من المكائن الشيطانية راحت مريم تصرخ مفزوعة وتقول له : - “خمستعشر سنة يافرحان ورجعت لي ومعك سبع مكاين، سبع مصايب .ذلحين موقدّرني ارقد والمكاين ببيتي”
وراح فرحان يهدئ من روعها ويحاول طمأنتها ويقول لها بأن المكائن ليست جِنّاٌ ولا شياطين حتى تخاف منها لكن كلماته تلك لم تستطع ان تطمئنها وتهدئ من روعها وقالت له وهي تشير الى الراديو بأن الصوت المنبعث منه ان لم يكن صوت جني فهوصوت شيطان .
كان الصوت الذي انبعث من الراديو قد افزعها وانسحب فزعها على بقية المكائن وكان ثمة شعور لديها بان ارواح المكائن الشريرة لن تتركها تنام وان هي نامت فما الذي سيمنع ذلك الجني او الشيطان المقيم دخل الراديو من ان يأتيها وهي نائمة ويقوم بخنقها او يدخل فيها ويفعل بها مايفعله الزوج بزوجته!!
وكان ان قادتها مخاوفها وهو اجسها ووساوسها تلك الى تخيل اشياء فضيعة وشعر فرحان ليلتها بان زوجته لم تعد بكامل عقلها وبدا حزينا ونادما لكونه غاب طويلا عنها وظن بأنها بسبب طول غيابه فقدت رغبتها في الجنس وفقدت قدرتها على الفرح وفقدت حتى القدرة على الدهشة وبعد ان تفاجأ بردود فعلها اجَّل فكرةً كانت تراوده وهي ان يعلن عن وصوله القرية بنفس الطريقة التي اعلن فيها الاتراك عن وصولهم في عهد جده سعيد المشدد.
وكانت الطريقة التي اعلن بها الاترك عن وصولهم قرية العكابر واحتلالهم لها هو انهم وجهوا مدفعهم نحو القرية وراحوا يقصفون دار(سيف الرمّاح )قائد المقاومة وليلتها استيقظ اهالي القرية من نومهم على صوت دوي المدفع التركي لكن العم فرحان لم يفتح الراديو ليلتها على قريته ولم يقصفها بالأغاني ونشرات الاخبار وكان عليه قبل ان يفعل ذلك ان يقوم بخطوتين اثنتين : - الاولى ان يتصالح مع مريم زوجته والثانية ان يجعلها تتصالح مع مكائنة
وفي الليوم التالي تبين له بان مايفرح المراة ليس تلك الاشياء العظيمة وانما اشياء بسيطة مثل حمالة النهدين واحمر الشفاه وزجاجة عطر وكان من حسن حظه انه وجد تلك الحقيبة التي تحتوي على الا شياء الخاصة بزوجته فكان ان فرحت بها اكثر ممافرحت بعودته. وليلتها تصالحت معه في الفراش وسامحته لكنها لم تتصالح مع مكائنه الابعد حين واما الراديو فقد كرهته وكانت ماتنفك تدعو الله ان يقصف عمره :
-” الله يقصف عمره الراديو فرق بيني وبين زوجي”
كان انصار الراديو ياتون كل يوم بعد الظهر ويبقون الى المغرب وبعد ان يصلّوا المغرب والعشاء ويتعشون يعودون ثانية ويسمرون الى مابعد منتصف الليل وهكذا كل يوم حتى ان مريم لم تعد تجد فرصة لرؤية زوجها وللجلوس معه .
لكن الراديو الذي فرّق بينها وبينه كان قد فرق بين الاب وابنه وبين الام وبنتها وبين الزوج وزوجته وتسبب في حدوث أكثر من طلاق واكثر من شرخ في أكثر من بيت فبعد ان طلق عبده قاسم زوجته نبات بعث المغترب مصطفى غانم ورقة طلاق من اديس ابابا الى زوجته شجون ناشر وذلك بعد أن وصلته رسالة من الفقيه تفيد بأن زوجته تذهب للسمر في بيت الراديو وهي بكامل زينتها .
وكان الفقيه قد ذكر له في رسالته تلك بأن الرجال والنساء يجتمعون في بيت العم فرحان يغنون ويرقصون ويسمرون على أغاني الراديو جنبا الى جنب . واما وكيل الشريعة حمود السلتوم فبمجرد ان ابلغه الفقيه بماسمعه من عبده قاسم حتى اشتعل غضبا واندفع راجعا الى بيته وراح بضرب زوجته جُلجُلَة ويوسعها ضربا وكانت هي تنكر ذهابها الى بيت الراديو وتواصل الإنكار وهو يواصل ضربها. وطلب السيد عبد القادر من زوجته زينب ان ترجع الى بيت اهلها بعدان شهد عبده قاسم ضدها. لكن الفقيه اراد ان يتأكد بنفسه من صحة الكلام الذي نقله اليه عبده قاسم حول تسلل زوجته هند الى بيت الراديو وفي نفس الليلة وهو في غرفة نومه يمثل انه نائم تسللت هند ونزلت الدرج تمشي على رؤوس اصابعها وفتحت الباب وخرجت حاملة فانوسها وبعد خروجها خرج الفقيه وراح يسير خلفها في الظلام وحين ابصرها تصعد الدرب المؤدي الى بيت الراديو صرخ فيها :
- اين شتروحي ياهند ؟
قالت له هند وقد تفاجأت وانزعجت من مراقبته لها : - شاروح بيت الراديو
قال لها الفقيه : - مو شتروحي تعملي ؟
قالت هند وقد تملكها شيطان العناد :
-“شاروح عند الراديو يحبلني”
وصُعِق الفقيه من ردها وصرخ فيها يأمرها ان ترجع :
-” ارجعي ياملعونة الوالدين”
لكن هندا المعروفة بعنادها وبقوة شخصيتها واصلت طريقهاولم تكترث بتهديدات زوجها وكانت تذهب وتسمر في بيت الراديو وتعود عند منتصف الليل
و عند عودتها يستقبلها الفقيه ب( الشابوك ) وهو سوط مصنوع من عضو الثور وكانت هند تقول معبرة عن احتقارها له وهو يجلدها :
-” انت بس تعرف تجلدني بحق الثور لكن بحقك ماتقدرش”
وكل يوم كان يمنعها ويقول لها : - ممنوع تروحي بيت الراديو
لكنها كانت تتحداه وتذهب وعند العودة كان الفقيه يستقبلهاب (الشابوك )
ويجلدها ثمانين جلدة .