- عبدالكريم الرازحي
صار لبيت العم فرحان ثلاثة اسماء مخيفة لكن الاسم الذي استقر في الاخير وشاع واصبح متداولا هو ( بيت الراديو) ذلك ان الراديو كان قد اختزل كل شرور المكائن وكل صفات الشياطين وظهر امام اهالي القرية كما لو انه ا بليس اللعين .
ولشدة خوف العكابر من الفقيه ومن السيد منعوا زوجاتهم واولادهم وبناتهم من دخول بيت الراديو وتم فرض حصار على العم فرحان وزوجته مريم الصَّافر فأصبحا معزولين في دارهما المشهور ب( دار المُشَدَّد) والكل يتحاشا الاقتراب منهما لكأنهما مصابان بمرض الجذام . وعندما كان العم فرحان يخرج للساحة ويسلم على اهل القرية لم يكن ثمة من يرد السلام عليه وكان اذا مد يده ليصافحهم تركوا يده معلقة في الهواء.
لكن العم فرحان لم يستسلم لهم ولم يضعف امامهم ولم يشعر ابدا بأنه محاصر اومعزول فقدكان الراديو نافذته على العالم وكان وهو في عزلته مثل ملك والعالم كله مملكته وفي الليل كان وهو سامر مع زوجته مريم الصافر يوجِّه مدفعه نحو القرية ويظل يقصفها بالاغاني ونشرات الاخبار وكان صوت الراديو في سكون الليل اعظم من صوت المدفع التركي لكن زوجته مريم الصافر كانت قد ضاقت بالحصار وبالعزلة واستشعرت الخطر من وجود المكائن في بيتها وذات ليلة طلبت منه وهي تبكي ان يسلم لهم المكائن او يتخلص منها ويلقيها في (هيجة المَدَّارين ):
-” اني فدالك يافرحان اندي لهم المكاين والاارجم بهن لا(هيجة المدارين)
المكاين شؤم يافرحان واني خايف علوك من الفقيه والسيد والسلتوم واهل القرية “
قال لها العم فرحان وقد اغضبه كلامها :
- تِشَيْنا اسلّم لهم المكاين يامريم انتي بعقلك والا تجننتي!!
قالت له مريم :”موشوقع لوشلّيتهن ورجمت بهن (بهيجة المدارين) حق الجن للجن “
قال لها وقد احتد غضبه : - من هو اللي قال لك يامريم ان الجن والا الشيا طين هم اللي صنعوا المكاين!!
قالت له : ومنو صنعهن غيرهم !!
قال لها- وهو لم يزل محتفضا بغضبه :
“-صنعوهن يامريم ناس وبشر مثلنا “
قالت له : كيف مثلنا وهم كفار ونحنا مسلمين !!
ولم يستطع العم فرحان ان يتمالك اعصابه وقال لها بنبرة محتدة : - “من قال لك انهم كفار !! نحنا الكفار كفرنا بالعلم وآمنا بالجهل “
وشعرت مريم بالخوف ليلتها لكنها لم تخف من غضبه وانما كانت خائفة من كلماته فقد بدت لها غامضة ومنها تفوح رائحة كفر فكان ان لاذت بالصمت وقالت تحدث نفسها : - “فرحان خرج من القرية وهو مسلم ورجع كافر “
وربطت بين كفره وبين المكائن التي جلبها معه واستنتجت بان كلام عجائز القرية صحيح وهو انها لن تحبل من زوجها طالما ومكاين الشر في بيتها .
كانت نساء القرية عند ذهابها للنبع لجلب الماء اوعندما تخرج لاي غرض يتحاشينها ويتجنبنها ويشِحْنَ بوجوههن عنها ولايكلمنها ليس لان لهن موقفا منها ولكن لان ازواجهن واقاربهن كانوا قد حذروهن من اي اتصال بها ومن اي كلام معها كونها زوجة الرجل الذي اجمع اهل القرية على حصاره ومقاطعته وعزله .لكن عجائز القرية من حبهن لها ومن خوفهن عليها كُنّ يقتربن منها ويكلمنها ويخوِّفنها من المكائن ويقلن لها بأنها لايمكن ان تحبل طالما المكائن في بيتها :
- كيف شتحبلي يامريم والمكاين داخل بيتك!!
وكان كلامهن يجد له صدىً عندها ويلامس اوتارا في نفسيتها ثم انها هي نفسها لم تكن تجهل ذلك .كانت منذ ليلة وصول زوجها فرحان ومن حين اخبرها عن مكائنه قد توجست خوفا من وجودها وشمت رائحة خطر يتهددها ويتهدد القرية اما بعد ان رات ردود فعل اهل القرية وردة فعل زوجها حين طلبت منه ان يتخلص من مكائنة ازدادت رعبا وتعاظم احساسها بالخطر وكان اكثر مافاقم من احساسها بخطورة المكائن هو ان زوجها الذي غاب عنها خمسة عشرة عاما كان وهو جنبها يبدو كأنه بعيد رغم قربه وغائب رغم حضوره وكان الراديو قد اخذه منها وشغله عنها حتى لقد كرهته كما تكره الزوجة ضرّتها “طبينتها “ولشدة كراهيتها للراديو كانت تصرخ قائلة :
-” ربي ان شاء الله يميته “
وكان العم فرحان يضحك من كلامها ويقول لها : - الراديو مايموتش
تقول :” “ان شاء الله يمرض”
يقول :” الراديو مايمرضش يامريم لكن يتعطل”
تقول : ان شاء الله يتعطل
يقول لها بأن الراديو إذا تعطل يتصلح
تقول : ان شاء الله يتعطل ولايتصلح
وعندماكانت ترى زوجها يصيخ السمع لكلام الراديو و يتجاهل كلامها تنزعج وتتضايق وتنسحب زعلانة الى غرفة نومها وحينها كان العم فرحان يبقى لوحده مع احمد الميدمة. كان الميدمة اول من تجرأ من الفتيان وكسر الحصار ودخل بيت الراديو واستحق غضب الجميع وكان الاطفال عندما يرونه يهمسون لبعضهم البعض : - احمد الزنوة.. احمد الزنوة
و كانت الكافرة شجون ناشر اول امراة تكسر الحصار وتدخل بيت الراديو ومن بين الصبايا كانت البنت شموس تتسلل كل ليلة بعدنوم امها شمس راوح ومن بعد شجون وشموس تسللت جُلجُلة زوجة وكيل الشريعة حمود السلتوم وهند زوجة الفقيه وزينب زوجة السيد عبد القادر وكانت الجميلة خولة زوجة الشيخ دبوان تأتي من(قرية الصّرُور) بحجة زيارة امها وتذهب لتسمر في بيت الراديو. واما القاضي شاهر فكان اول من كسر الحظر من الرجال كان ياتي كل يوم مع زوجاته الاربع ويسمر مع العم فرحان ومع العاقل بجاش الذي كان يصطحب ابنه معه وكان ابن العاقل بحكم صغر سنه يتنقل بين ديوان الرجال وديوان النساء لكنه كان يرتاح للبقاء مع النساء فقد كن يحضرن الى بيت الراديو وهن بكامل زينتهن وكان مايجذبه اليهن هو ذلك الفرح في عيونهن وذلك العطر الذي يتضوّع من اجسادهن لكن العاقل لم يكن يصطحب زوجته معه ليس لأنه خائف اومتزمت ولكن لأن زوجته كانت بعد صلاة العشاء تسقط مثل حجر في بئر من شدة ماهي مرهقة ونعسانة .واما بقية نساء وصبايا القرية فكن في الليل يصعدن الى سطوح بيوتهن وينصتن الى اغاني الراديو التي كانت تبعث فيهن احاسيس جديدة ومشاعر غير مألوفة. وبرغم البرد في السطوح الاان الأغاني التي يبثها الراديو في سكون الليل كانت تشعرهن بالدفء وحين عرف الفقيه بأنهن يصعدن ليلا الى السطوح راح يلعنهن من منبره (سقيفة بيته )ولم يكن عنده ثمة فرق بين التي تذهب الى بيت الراديو لتسمع اغانيه وبين تلك التي تصعد الى سطح بيتها لتسترق السمع .
كان قدراح ينبه رجال القرية ويقول لهم : - “نسوانكم ياعكابر بعدما تناموا يطلعين السقوف يتنصّتين”
وذات ليلة استيقظ عبده قاسم من نومه ليكتشف بأن زوجته نبات غير موجودة بجانبه
وكان ان راح يصعد الدرج على رؤوس اصابعه وهناك في سطح بيته ضبطها متلبسة بالسماع ولشدة غضبه شتمها وضربها وسحبها سحبا الى الاسفل وقال عنها كلاما اوجعهااكثر ممااوجعها الضرب والسحب :
-” انتي زانية .”
قالت نبات وهي تبكي : “حرام علوك ياعبده قاسم تقول علي زانية مانيش زانية ولازنيتو”
قال لها :” قمتي من جنبي نص الليل ياملعونة وطلعتي السقف تسمعي اغاني الراديو “
قالت تدافع عن نفسها من تهمة الزنا :
-“الفقيه ياعبده قاسم قال اللي تروح بيت الراديو زانية اني مارحتوش وانت اسأل الفقيه والفقيه هو شقول لك إنني زنيتو والالا!!
وفي صباح اليوم التالي ذهب عبده قاسم ليستفتي الفقيه بشأن زوجته نبات وقال له : - “قلت يافقيه :” المرة اللي تروح بيت الراديو تسمع اغاني مكينة الزنا زانية “
لكن موقولك بالمرة اللي تقوم بالليل من جنب زوجها وتطلع سقف البيت تتسمع اغاني الراديو هي زانية اومش زانية ؟
قال له الفقيه: “زنا الاذن السماع ومن سمعت فقد زنت ياعبده قاسم”
وراح يذكر له حديثا عن زنا العين وزنا اللسان وزنا الاذن حتى ايقن عبده قاسم ان زوجته نبات اكثر من زانية .
كان عبده قاسم شخصا بسيطا عقله صغير ومحدود يشتغل عامل بناء يستعين به اهل القرية في بناء جدران الحقول التي تدمرها السيول( المكاسر) وبعد كلام الفقيه عاد الى بيته وقال لزوجته نبات :
- انت طالق يانبات طالق طالق
وخرجت نبات من بيته وهي تبكي وتعول وتولول وتقول لاهل القرية : - “عبده قاسم طلقني ..عبده قاسم طلقني “
كانت تعبر الدرب في طريقها الى قريتها الواقعة وراء الجبال وفي يدها صرة فيها ملابسها المهترئة وصوت نحيبها يسبقها وكلما عبرت امام بيت من بيوت القرية تطل النساء من سطوح وشرفات بيوتهن ويسألنها عماحدث لها ولماذا تبكي ؟
وكانت نبات تقول لهن وهي تواصل البكاء :
-” عبده قاسم طلقني “
وعندما يعرفن السبب كانت العجائز يلقين باللوم على الراديو ويستنجدن بالاولياء ينذرن لهم النذور ويطلبن منهم ان يظهروا كراماتهم ويخرجوا لراديو الملعون من القرية .
يومها كان صوت بكاء نبات ومنظرها وهي تغادر القرية يجرح العيون والقلوب معا وكان الحزن يتشكل على هيئة سحابة كبيرة في سماء القرية وكان الكل حزينا على المسكينة نبات. واما الفقيه فقد كان مسرورا وبدا مزهوا بقوة كلماته وبقدرتها على الحاق الأذى والدمار بكل امراة تتحدى فتاواه وتقف ضد سلطته الروحية وفي نفس الليلة صعد الى سقيفة بيته يهدد النساء اللاتي يصعدن الى سطوح بيوتهن لسماع اغاني الراديو وشبههن بالشياطين الذين صعدوا للسماء لاستراق السمع .
وفي اليوم التالي راح القاضي شاهر يلومه ويقول له : - “الراديو يافقيه مكينة غناء وليس مكينة زنا ولايجوز ترمي المحصنات “
ورد عليه الفقيه بالقول :
-” الغناء ياقاضي شاهر بوابة الزنا “
وكان ان احتدم الجدل بينهما حول الطلاق وقال القاضي شاهر : - الطلاق باطل
وطلب من عبده قاسم ان يسترجع زوجته : - رجِّع زوجتك نبات ياعبده قاسم
قال له عبده قاسم وهو يجهش بالبكاء
-” نبات ياقاضي شاهر زانيه قامت من جنبي وانا راقد وطلعت السقف تزني مع الراديو. “
كان يحبها ويتألم لفراقها لكنه بعد ان خانته مع الراديو وبعد ان اكد له الفقيه بأنها زانية
راح يلعنها ويبكي عليها ولم تمرسوى بضعة اسابيع حتى اصابته لوثة وكان كل ليلة يخرج من بيته بعد المغرب وعندما مايصل الى مدخل الدرب الصاعد المؤدي الى بيت الراديو يختفي هناك في الظلام ويظل الى مابعد منتصف الليل يرقب النساء الداخلات الى بيت الراديو والخارجات وفي الصباح يبلغ الفقيه بالأسماء وكان وهو يقوم بهذه المهمة يشعر بالعزاء وبالتعويض عن فقده لزوجته. وفي تلك الليلةالتي ابصر فيها هند زوجة الفقيه وهي تصعد الدرب المؤدي الى بيت الراديو جافاه النوم ولم يغمض له جفن وفي الصباح الباكر خرج يجري وكان من عادة الفقيه انه ينام بعد صلاة الفجر ويصحو بعد شروق الشمس ويومها راح عبده قاسم يناديه بكل صوته الى ان ايقظه من نومه قبل موعده بساعه وعندما ساله الفقيه عماجاء به لم يقل له بأنه ابصر هندا زوجته وانما قال له : - “يالطيف يالطيف يافقيه كلهن زانيات “