- عبدالكريم الرازحي
لم يسبق لأهالي قرية العكابر أن شاهدوا شخصا أجنبيا.. وفي عصر ذات يوم من أيام كوانين الباردة شاهد بعض الفتيان رجلا غريبا قادما من جهة (جبل الريح) وقد أثار ظهوره المفاجئ ومظهره الغريب ريبتهم وشكوكهم .
كان طويلا عريضا جسده أكثر بياضا من لبن البقر ووجهه أكثر احمرارا من الدم .
وبمجرد أن أبصروه حتى جروا خلفه وقبضوا عليه، واقتادوه إلى ساحة القرية وخوفا من أن يهرب ربطوه عرض الطولقة وراحوا ينادون منصور العزيق ويطلبون منه ان يخرج للساحة لامرهام. وكان منصور العزيق يدّعي بان لديه مقدرة في التعرف على هويات الأشخاص بمجرد ان يقترب منهم ويشمهم .
عندما وصل الساحة طلب منه الفتيان وهم يشيرون الى الرجل المربوط عرض الطولقة ان يقترب منه ويتشممه ويخبرهم عن هويته ..
قال لهم منصور العُزَيق وهو يتشممه :
- شمُّه نصراني
وعندما سألوه كيف عرف بأنه نصراني!! قال بان الرائحة التي تنبعث منه رائحة خنزير.
وبمجرد ان قال لهم منصور العزيق بانه نصراني راحوا يعلنون الخبر : - “نصرانيييييي زِقِرنا نصراني”
وماان شاع خبر القبض على النصراني حتى خرج العاقل بجاش لمعرفة ما الذي جاء به!! وخرجت القرية عن بكرة ابيها لرؤيته، والتفرج عليه، ومعرفة شكله. فقد كان اهالي القرية يسمعون عن النصارى الموجودين في عدن لكن لم يحدث ان شاهدوا نصرانيا في حياتهم. ولشدة رغبتهم في رؤية النصراني خرجوا جميعهم الرجال والنساء والعجائز والاطفال لكن فتيان القرية ردوا النساء واعترضوا على خروجهن وطلبوا منهن ان يقِرن في بيوتهن، ويغضُضْن من ابصارهن ويخفضن اصواتهن و لكثرة ماراحوا يخوّفونهن ويحذرونهن من رؤية النصراني تعاظم دافع الفضول لديهن ورحن يتلصّصن عليه من شبابيك الحجرات ومن سطوح بيوتهن واما عجائز القرية فقد افرحهن الخبر وانعشهن ورفع معنوياتهن وشعرن كما لوان الله هو الذي ارسل النصراني ليشفيهن من أمراضهن .
كان لديهن شعور بأن كل نصراني إن لم يكن نبيا يبرئ الأكمه والأبرص فهو طبيب ولديه القدرة على ان يشفي المرضى وكان ماعزز لديهن هذا الشعور هو الكلام الذي سمعنه من شمس راوح . كانت شمس راوح هي الوحيدة من نساء القرية التي تمدّنت و” تعدّنت” وذهبت الى المدينة عدن .كانت في شبابها قد سقطت في الجبل وهي تحتطب وحدثت لها اصابة في عمودها الفقري أقعدتها في السرير وغدت مقعدة وعاجزة عن الحركة لكن زوجها طاهر ردمان الذي كان ميسورا ومعه مطعم في حي كريتر اسعفها الى مستشفى الملكة اليزابت وعند عودتها راحت تتبجّح امام نساء القرية وتقول لهن بأنها تعالجت في ” راس بطان ” وعلى نفقة ملكة النصارى وكانت ماتنفك تحذرهن من الذهاب للعلاج عند السيد عبد القادر وتنصحن بالنزول الى عدن للعلاج عند السيد النصراني وتقول لهن :
-“السيد عبد القادر يانسوان يضر ولاينفع والسيد النصراني ينفع ولايضر”
وعند شمس راوح كل نصراني سيد وكل النصارى عندها سادة لكن الفقيه كان يقمعها وينهرها ويقول لها كلما سمعها تتحدث عن السيد النصراني : - “ياشمس راوح اغضبي الشيطان واستغفري ربك كم مرة قلت لك مافيش نصراني سيد. النصراني كافر ونجس وملعون وحرام تقولي على نصراني انه سيد”
وفي يوم القبض على النصراني انفجرت ذاكرة شمس راوح وراحت تتذكر رحلتها الى عدن (بلاد النصارى )- كما تسميها- وتتذكر السيد النصراني الذي عالجها وتقول لعجائز القرية: - السيد النصراني يانسوان يقدر يداوي كل الامراض حتى السلطان(السرطان )
وكانت شموس بنتها تتضايق من تصحيف وتحريف امها للكلمات وتقول لها : - “يمّا سرطان مش سلطان”
وعندما تناهى إلى مسامعها بأن وكيل الشريعة حمود السلتوم وغيره من فتيان القرية يطالبون بشنق النصر اني لانه جاسوس راحت تحتج وتقول : - “حرام عليهم يشنقوا النصراني حتى لو هو جاموس”
قالت لها بنتها شموس وهي تشعر بالخجل : - يما جاسوس ..جاسوس مش جاموس
قالت امها : “جاموس والأجاسوس حرام عليهم يشنقوه”
وكان مايغيض البنت شموس ويجعلها تغضب من امها هو ان نساء القرية اللاتي لم يذهبن الى عدن كن ينطقن الكلمات بشكل صحيح وبدون تصحيف اوتحريف .
كان من عادة اهل القرية انهم في ايام كوانين ( كانون الاول وكانون الثاني ) يبقون في بيوتهم في العصاري ولايخرجون خوفا من البرد ومن قطعان الضباب التي تصعد من القيعان والوديان وتشيع في النفوس شعورا بالخوف وبالاكتئاب. لكنهم يومها وبدافع الفضول خرجوا وهم يرتجفون من البرد وكان اول مالفت انتباههم واثار دهشتهم واستغرابهم هو ان النصراني كان يتصبّب عرقا بالرغم من البرد الشديد:
- “النصراني يعرق ونحنا نرتعش من البرد كيف هذا !!”
قال لهم منصور العزيق : “النصارى ياكلوا لحم الخنزير ويشربوا الخمر ويغلبوا البرد وبردهم اقوى الف مرة من بردنا “
يومها اكتظت الساحة باهالي القرية الذين راحوا يتساءلون عن الهدف من مجيئ النصراني!! قال لهم وكيل الشريعة حمود السلتوم :
-” النصراني جاسوس وجا يتجسس على مولانا الامام “
وقال مخاطبا عاقل القرية :
-” لاذمتي ياعاقل انه جاسوس ويستحق الشنق
وبعد كلام وكيل الشريعة ارتفعت اصوات تطالب العاقل بشنقه : - “مادام وهو جاسوس ياعاقل نشنقه والامام بايعفينا من الزكاة “
ايامها كانت قد سرت اشاعة تقول بان الامام يعفي من الزكاة اهالى القرى الذين يقبضون على الجواسيس ويقومون بشنقهم .
قال لهم العاقل بجاش متهكِّماً -وقد استفزته مطالبتهم بشنق النصراني- : - “. انتم بس تعرفوا تبقْبِقُوا:” نشنقه ياعاقل ..نشنقه ياعاقل ” لكن يوم الله الله شتقولوا مو دخلنا نحنا بالنصراني هو العاقل!!
قال له وكيل الشريعة : - “ياعاقل هو نصراني كلب وانت تعمل له اهمية”
قال له العاقل : كلب ياحمود والاخنزير اول شي نعرف ماهي قصته!! وماهو اللي جابه لاقرية العكابر !!وهل دخل البلاد باذن من الامام أو دخل سكتة!!
وراح العاقل بجاش يسال اهل القرية عما اذا كان هناك شخص في القرى المجاورة يتكلم لغة النصارى ليترجم لهم كلام النصراني !!
قال له منصور العزيق : - “في واحد ياعاقل بقرية الجريدة اسمه صالح الجرادي عاش بين النصارى ويتكلم نصراني”.
وطلب منه العاقل ان يذهب اليه في الصباح الباكر ويأتي به: - “بكر له الصبح بدري ياعزيق وترجع انت وهو والغدا عندي “
ولان الوقت كان يقترب من موعد صلاة المغرب قال مخاطبا ابنه وكان عمره سبع سنوات :
-” روِّح وقل لامك تعمل عشاء للنصراني”
واستنكر اهالي القرية هذا الموقف من العاقل وقالوا له:
-” مُوْتجنّنت ياعاقل تدخِّل النصراني بيتك وانت عارف انه كافر ونجس!!
قال لهم العاقل : في القرية ثلاث بيوت: بيت العاقل، وبيت الولي ،وبيت الله. ولو انتم معترضين على نزول النصراني ببيتي ينزل ببيت الولي
وضج انصار الولي من كلام العاقل بجاش وقالوا محتجين : - “مالك ياعاقل اين عقلك!! نصراني كافر ونجس وتدخله ينام ببيت الولي!! “
قال لهم العاقل : “خلاص مادام انتم مش راضيين ينام ببيت الولي ينام بالمسجد”
وعندئذ انفجر فقيه القرية وانصاره في وجه العاقل وقالوا محتجين ومستنكرين :
-” اتق الله ياعاقل كيف تدخل نصراني بيت الله حرام لايجوز “
ولحظتها اقترح العاقل عليهم ان يفتحوا بيوتهم للنصراني طالما انهم اعترضوا على نزوله في بيت الله وفي بيت الولي وفي بيته لكن اهالي القرية صاحوا واستنكروا واعتبروا كلام العاقل اهانة لهم وقالوا له : - “تِشَانِحنا ياعاقل نفتح بيوتنا لنصراني كافر يدخل ينجِّسها !!افتح له انت بيتك “
قال لهم منصور العزيق :
العاقل قوداري بكم وداري انكم حق خبر تعرفوا بس تخبِّروا وتِبَقْبِقُو والّاهو من الاول فتح بيته للنصراني وانتم قمتم تتفاضلوا وتحتجوا وتبقبقوا وتقولوا:
-“مُوْتِجنّنت ياعاقل تدخِّل النصراني بيتك وانت عارف انه كافر ونجس!! “
بيته والا بيتكم مودخلكم !! ولمو الفضالة وانتم مش حير!!
قالوا له وقد اغتاضوا من كلامه :
-” وانت مو دخلك ياعُزَيْق الدجاج !!
قال منصور العزيق :
-انا عُزَيق الدجاج لكن الاول جوِّبوا عليّ وقولوا لي لما الواحد منكم يروح الحكومة يشتكي بغريمه والحكومة تنفذ له عسكر اين ينزلوا العسكر؟
قالوا :” ينزلوا في بيت العاقل “
قال :” ولما تكون في مشاكل بينكم وبين الحكومة مِنُو يحلها ؟!!”
قالوا : يحلها العاقل
قال : والمشاكل اللي بينكم وبين زوجاتكم مِنُو يحلها ؟”
قالوا: يحلها العاقل
قال منصور العزيق :
-” العاقل يحل مشاكلكم كلها وانتم ماتقدروا حتى تحلوا سراويل نسوانكم
وفوق هذا تنتقدوا العاقل وتغلِّطوا العاقل وتلُومُوا العاقل وتِتّهموا العاقل وتحمِّلومُو كل مشاكل القرية لعنة الله عليكم ولعنة الله على العاقل اللي صابر على امثالكم “
كان ابن العاقل ولدا كسولا ينعم بالكسل لكنه يومها من شدة فرحته بقدوم النصراني ونزوله في بيتهم بدا مبتهجا ونشيطا على غير العادة كان قد اسرع ونقل الى امه رسالة ابيه في ان تجهز العشاء للنصراني :
-” يمّا يقول لك ابي تعملي عشا للنصراني “
وبعد ان نقل اليها الرسالة تفاجأت امه وبدت حائرة ومرتبكة لاتدري ماذا تفعل !!ولاكيف تتصرف !!فالضيف هذه المرة نصراني من مِلَّةٍ اخرى ومن عالم آخر وهي لاتعرف شيئا عن نوع الطعام الذي عليها ان تعده له وفيما راحت تفكر وتقلب الفكرة في راسها تذكرت شمس راوح وقالت تحدث نفسها :
- “شمس راوح راحت عدن وعرفت النصارى وتعرف مو ياكلوا ومو يشربوا وطلبت من ابنها ان يسرع في الذهاب الى بيت شمس راوح :
- “روح لاعند شمس راوح وقل لها تقول لك امي مو ياكلوا النصارى ومو تعمل عشا للنصراني!!
والى بيت شمس راوح ذهب ابن العاقل ونقل اليها رسالة امه وعاد اليها بالجواب :
-” تقول لك شمس راوح اعملي للنصراني نِشُوْفْ ”
وبحسب نصيحة شمس راوح نشَّفَت زوجة العاقل وعملت نَشُوف باللبن والسمن وطلبت منه ان يدخِّله لكنها حذرته من ان يتعشى مع النصراني وقالت له : - دخل العشا وارجع اتعشي مع اخواتك والتَهم تتعشي مع النصراني “
لكن ابن العاقل بعد ان ادخل العشاء جلس يتعشى مع الضيف وفي اليوم التالي عندما اخبر اترابه بانه تعشى مع النصراني زعلوامنه وقالوا له :
-” لاتلعبش معانا قم من جنبنا انت نجِس تعشيت مع النصراني”
يومها لم يكترث بكلامهم ولم يزعل والسبب هوان نزول النصراني في بيتهم كان قد جعل منه نجما وكانت البنات يتودّدن اليه ويطلبن منه ان يكلمهن عن النصراني .وبفضل النصراني انتقل من جحيم الاولاد الى جنة البنات وراح يحكي لهن وهن ” مُقَعِّيَات ” يلتهمن كلماته بآذانهن الصغيرة وينصتن اليه مندهشات ومتلهفات لسماع المزيد وخوفا من ان تنتهي الحكاية وتتوقف البنات عن التودد اليه راح ابن العاقل يُغذِّي حكاية النصراني بحليب خياله، ويضيف اليها اشياء من عنده، ويختلق احداثا لم تحدث .
وكل يوم كانت الحكاية تنمو و تكبر حتى بدت كما لو انها حكاية بلا نهاية .
ما ان نما الى مسامع نساء القرية خبر نزول النصراني في بيت العاقل حتى اقبلن على امل ان يشفيهن النصراني من امراضهن وكان ان تفاجأ العاقل بحضورهن وقال لهن كيما يصرفهن بأن النصراني ليس طبيبا حتى يعالجهن لكنهن رفضن الإنصراف ورحن يتودَّدن له ويتفَدَّين وكل واحدة منهن تتمسح به وتقول له :
-” اني فدالك ياعاقل.. اني فدالك ياعاقل “
. ولحظتها سمح العاقل لهن بالدخول الى الديوان لمقابلة النصراني الذي راح يصغي الى شكاويهن بانتباه وتركيز شديدين . ومع انه لم يكن يفهم كلامهن الا انه كان يتفهم ويتعاطف معهن ويحدِس بامراضهن ويخرج من حقيبته ادوية ويناولهن. ولشدة فرحهن بالأدوية التي يصرفها لهن كن يدعين له مثلما تدعو الامهات لأولادهن وبعضهن يدعين الله ان يهديه ويخرجه من دين النصارى الى دين الاسلام. ٠
لكن العاقل تفاجأ بعد خروجهن بحضور دفعة جديدة من النساء مع اطفالهن وكان ماشجع نساء القرية على الخروج هو ان النصراني كان يصرف أدوية مجانية وكن على يقين بأن الادوية التي يصرفها لهن السيد النصراني افضل من كل تلك التمائم والتعاويذ التي يصرفها لهن السيد عبد القادر .
في صباح اليوم التالي عندما عرفت فازعة بخبر النصراني الذي نزل في بيت العاقل وعالج النساء والاطفال ارتفعت معنوياتها وعاد اليها الامل بالشفاء ومن شباك غرفة نومها راحت تصرخ بأعلى صوتها وتطلب من اهل القرية ان يأتوها بالنصراني ليعالجها من الشلل النصفي الذي أقعدها لكن لا أحد كان يسمعها غير الاطفال الذين يلعبون بجوار بيتها وتحت شباك غرفة نومها . والسبب هو أن فازعة التي شل جسدها وعقلها وصوتها يوم عودة الرجل الميت
( سلطان الملح ) كانت قد اصبحت بنصف جسد ونصف عقل ونصف صوت وكان الاطفال يردون عليها ويقولون لها :
-” النصراني جاسوس يافازعة واليوم بايشنقوه “
ولشدة خوفها من ان يشنقوا النصراني قبل ان يعالجها نست نفسها ونست انها مشلولة ووثبت من فوق السرير ومشت ونزلت الدرج وخرجت من بيتها متجهة الى بيت
شجون ناشر وكان الاطفال اول من ابصرها واول من راحوا يعلنون خبر قيامها وسرعان ما شاع الخبر وانتشر وراح الكل يتحدث عن قيام فازعة وكيف انها تعافت وقامت وخرجت من بيتها تمشي بعد ان ظلت مقعدة لست سنوات.
ومن سطوح بيوتهن راحت النساء يزغردن من الفرح ويقلن عن النصراني بأنه ولي:
- “النصراني ولي من اولياء الله”
وعندما سمع الفقيه زغردات نساء القرية وسمع مديحهن للنصراني وقولهن بأنه ولي من اولياء الله صعد الى سقيفة بيته وهو ممتلئ بالغضب واللعنات :
-” لعنة الله عليكن يانسوان نصراني كافر وتقولين علوه ولي من اولياء الله !!”
وفسر مصادفة قيام فازعة مع مجيئ النصراني للقرية بأنها علامة من علامات قيام الساعة .
في ظهر اليوم التالي رجع منصور العزيق ومعه صالح الجرادي وكان شخصا نحيلا في غاية الطول وقيل بانه دخل البحر وعاش مع النصارى ويتكلم لغتهم حتى ان اهل قريته يسمونه صالح النصراني لكثرة ماعاش بينهم وفي بيت العاقل كان الغدا والمقيل ..
ويومها امتلا ديوان العاقل باهل القرية الذين حضروا ليعرفوا حكاية النصراني وفي صدر المكان جلس العاقل وعلى يمينه صالح الجرادي وعلى يمين الجرادي جلس النصراني.
وراح العاقل يوزع القات لضيوفه ولأولئك الذين حضروا من دون قات وعندما رد النصراني القات قال له الجرادي :
-“لا..عيب يانصراني.. لوترجع القات العاقل يعتبروها اهانة وانك اهنتهم وبعدا بايزعل منك العاقل وكلهم بايزعلوا ويحكِّموا وعندها خاف النصراني وخزن وبحشم وكيَّف وبعدماكيف طلب العاقل من الجرادي ان يساله عن جنسيته !!
قال لهم المترجم صالح الجرادي- وهو يريهم جوازه- :
-” هو الماني مش هو بريطاني وهذا جوازه ”
قال وكيل الشريعة :
- والله انه جاسوس بريطاني ياعاقل والا أيش جابه بلادنا لوهو جرماني!!
وطلب العاقل من الجرادي ان يسأله عن سبب مجيئه !!وهل جاء باذن من الامام ام بدون !!
قال لهم الجرادي :
-“يقول انه سائح وجا للسياحة وللتعرف على اليمن ومافيش معه رخصة من الامام معه جواز وفي كل الاماكن لما كانوا يشوفوا جوازه ويعرفوا انه الماني يرحبوا به “
ولحظتها انتفض وكيل الشريعة حمود السلتوم كمالوان حية لدغته وصاح بكل صوته : - كنا نحسبه جاسوس ياعاقل طلع جاسوس وسارق والله انه يستحق الشنق
وواجبك تسلمه للحكومة
وساله الموجودون عن معنى سائح فقال وكيل الشريعة: - سائح معناته سارق
وفي تلك الايام كانت كلمة سائح تعني جاسوس وتعني الاجنبي الذي يتسلل كاللص الى مملكة الامام لسرقة الآثار والأشياء الثمينة وكنوز الذهب المدفونة من ايام الحميريين
وكان ينظر لكل من يأتي الى اليمن من دون اذن الإمام على انه جاسوس او لص .
بعد ان اعترف النصراني بأنه سائح ودخل بدون اذن الامام طلب وكيل الشريعة من المترجم صالح الجرادي ان يساله عن المكينة لكن المترجم لم يكن يترجم إلا الكلام الذي يطلب منه العاقل ورفض ان يسال النصراني عن المكينة
قال له العاقل : مومن مكينة ياحمود !!
قال حمود السلتوم :
-مكينة الذهب النصراني ياعاقل لمن يجزع مكان فيبُه ذهب المكينة ” تَوْرِصْ ” تصيح .
والنصراني اكيد معه مكينة الذهب ومخبيها والاايش جابه بلادنا ولعلمك ياعاقل هولا الجرمان هم الزنوات حق النصارى وهم اللي اخترعوا اغلب المكاين.
وبمجرد ان نطق حمود السلتوم باسم مكينة الذهب حتى سال لعاب اهل القرية وقالوا للعاقل:
- “لاتفك له ياعاقل الا بعدما يسلم المكينة ولو هو رفض يسلم لنا المكينة نسلمه للحكومة “
وشعر النصراني من نبرة اصواتهم العالية ومن قسمات وجوههم المتوترة ومن تشنجاتهم وانفعالاتهم بان هناك خطرا يتهدده وحين كان يسال المترجم الجرادي عما يقولوه وعن سبب غضبهم وتوترهم كان يطمئنه ويقول له بأنها طريقتهم في الحديث . لكن القات الذي تناوله كان قد أثار في نفسه الكثير من الوساوس والهواجس والمخاوف والشكوك
وأما أهل القرية فقد راحوا تحت تأثير نشوة القات يحلمون بالذهب ويتكلمون عن الذهب ..
ويطلبون من العاقل أن يعتقل النصراني ولايفرج عنه الابعد أن يسلمهم مكينة الذهب
قال لهم منصور العزيق : - الذهب لو هو موجود يشتي له عقول النصارى اذكياء معاهم عقول يعرفوا كيف يفكروا وكيف يخترعوا اخترعوا مكاين تخرج الماء ومكاين تخرج البترول ومكاين تخرج الذهب والسبب انهم ياكلوا لحم الخنزير ويشربوا الخمر ومافيش عندهم حاجه اسمها حرام ولاعندهم فقهاء يحللوا ويحرموا مثل حقنا الفقهاء
نحناالمسلمين كل شي عندنا حرام ولو واحد ذكي من اهل قرية العكابر وناوي يخترع مكينة تخرج الخراء حقنا وخراء البقر والغنم من الصبول للاحوال مو قدره !!
قال له وكيل الشريعة حمود السلتوم : - “قبل ماتتكلم ياعزيق الدجاج عن ديننا وعن الفقهاء عليك تتوضأ وتتمضمض “
قال منصور العزيق : انت ياحمود وكيل شريعة منو شقدر لك اول قلت على النصراني انه جاسوس وبعدا قلت علوه جاسوس وسارق وبعدا رجعت تدور على مكينة الذهب لكن لو نفسك في مكينة نجيب لك مكينة الخياطة حق لول شاهر “
ويومها زعل الكل من منصور العزيق وقالوا بانهم في موقف جاد وطلبوا من العاقل أن يسكته
وسكت منصور وتكلم الحمّار “سيف انعم” شيخ الحمّارين
قال الحمار سيف انعم : لو النصراني يسلم لنا مكينة الذهب حقه شنبكر كلنا اغنياء وبدل الحمار اشتري لي سيارة وانت ياعاقل تقدر تبني دار اكبر من دار المُخَردَع الكبير وعبده الزغير يقدر يفتح دكان اكبر من دكان سيف الطليس وماان راح الحمار سيف أنعم يوقظ احلام اهل القرية حتى ارتفع صوت الفقيه واجهض احلامهم بالثراء:
- “صلاة صلاة مغرب.اخرجوا صلوا والا اليوم في نصراني ومافيش صلاة “
ومن بيت العاقل خرجوا للصلاة في المسجد ومن المسجد عادوا الى بيوتهم وليلتها ناموا وحلموا اثناء نومهم بمكينة النصراني وهي تنقلهم من الفقر الى الغنى و في صباح اليوم التالي استيقظوا من نومهم على كابوس وعلى خبر اختفاء النصراني الجاسوس وكان ان راحوا يشوشرون ويتهامسون ويقولون :
-” العاقل شل المكينة له وهرّب النصراني “
وفي اليوم الثالث جاء عسكر من طرف الحكومة وقبضوا على عاقل القرية
وفي نفس الاسبوع عادوا لتفتيش بيت العاقل وقلبوا عالي البيت سافله بحثا عن مكينة الذهب ويومها شاعت اخبار بان الحكومة سوف تشنق العاقل بجاش بتهمة انه هرّب الجاسوس النصراني وكانت زوجته تبكي وبناته يبكين وأما ابن العاقل الذي طلب منه أبوه ان يبقى مع النصراني في الديوان فقد خرج وترك النصراني لوحده وعندما عاد ابوه من صلاة المغرب ولم يجد النصراني شعر بالذنب وقاده الشعور بالذنب الى الكذب وقال لأبيه بان النصراني قفز من الطاقة ولما لاحظ بأن اباه لم يصدقه حلف يمينا بانه شاهد النصراني وهو يقفز من الطاقة.
وفي صباح اليوم التالي عندما قال للبنات بأن النصراني قفز من الطاقة وصدقنه وأبصر الدهشة في عيونهن شعر بالزهو وتبخر شعوره بالذنب ..