- كتب: د. عبدالعزيز علوان
عُرف ،الدكتور سلطان الصريمي وذاع صيته، من خلال ما أطلق عليه الزميل محمد الوهاب الشيباني، إنجيل نساء الريف اليمني ( مسعود هجر ) بأدق تفاصيل حياة الهجر والاغتراب والعمل المضني لنساء الريف، فزوجة مسعود لم تُسم بإسمها وكذلك زوجها لم يُسم باسمه، مما جعلهما يرمزان إلى كل إمرأة تركها زوجها تكابد أعباء الحياة بالشقا مع الناس، من أجل توفير لقمة العيش، وإلى كل رجل أجبرته حالته المعيشية أن يركب أمواج الغربة بحثا عن الرزق، تاركا زوجته تتقلب في فراش المرض، ولم يعلم بأن أسبوعا واحدا قضاه مع زوجته قد أثمر إبنا ، صار شاهدا على معاناته مع أمه ، ولا يعلم مايلاقيه أبيه في غربته، سوى جبال الهموم التي تتحملها أمه، وتلك الشذرات الحدسية لأمه التي تحدس بأنه قد يكون مقبورا في غياهب أراضي الغربة، ولم تجد غير مسامحته كحالة إنسانية فريدة.
في مبكر ( موسم الذري )نسمع ونرى شاعرنا يتمهجل بقوله:
اليوم ذري تأزري وا خضراء
حسك تليمي من عيون الغدرا
كان وحتى اللحظة يكره المواعيد ، ويعلن احتجاجه على قدوم العيد ، وليس مع الأغلبية الغالبة من اليمنيين غداء العيد ، وكذا في ظل غياب أحبابه:
جمعه وراء جمعه وعيد وراء عيد
يا قريتي كم اكره المواعيد
العيد اتى ماهلش غدا حق العيد
واحباب قلبي كلهم مطاريد
ونجده مستمرا في مخاطبة القرى اليمنية من خلال قريته ، كاشفا لها العلامات المميزة للصوص الحكم:
بحولنا ياقريتي حرامي
وجهه شُفيق وباطنه إمامي
أحرمني من قوتي ومن منامي
ويصور حال الذين مازالوا إلى اليوم مشغولين بالمضاربة ك (الرباح)غير آبهين بما تتعرض له جربتهم من التدمير والعبث:
يا قريتي ما اسخف المفارع
بين الرباح وجربته تنازع
وحالنا مثل الذي يشارع
يطلب المربط والعنز ضائع
ويطلب من هذه القرية الكبيرة ، بأن تتفاقد المرافع ، التي أستخدمت ولا زالت تستخدم في تجميع الناس بالتظاهرات الشعبية والتعاونية ، والأعراس:
اتفاقدي يا قريتي المرافع
حمي الطبول ودوري المقارع
مشيرا إلى ذهاب العمر طلفاس بالشوارع ، بعيدا عن هموم الناس في اشارة للبعد النظري عن الواقع:
العمر زلج طلفاس بالشوارع..
والسم من بين الدروف جازع
والذيب سامر بالدرج وطالع
ويضف إى ذلك المأسوية المفارقة لوضع الكثير من الناس الذي عناهم بقوله:
وأصحابنا يعطفوا سمامي
ها هو بيننا من بين أشجانه ينقينا دلا خوفا علينا من تنتاع الشجون:
من بين أشجاني أنقيكم دلا
خائف عليكم من تنتاع الشجون
لم نقبل معه حتى اللحظة ونحن في خضم هذه الظلمات ، التي تحاول أن تحجب عن تاج النهار الرؤية الوطنية:
من يقل أن سراج الدار
غاب أو وقف قلب المدينه
لا أصدق
فتٌَح بالمسار الوطني عيونه ، وأغمضهن لأجله:
فتحت بك عيوني
واغمضتهن لأجلك
الملمك من الضياع لملام
العقل بك تغنى
والقلب بك تمنى
واتشقرك بكل عيد
مشقر كبير سع الوطن بكله
وهاهو يقول بكل صوته الكان والذي لايزال:
مانش ذليل
وعمر الخوف ماحصل الى قلبي طريق
مستدركا بعدئذ ما آل إليه الوضع:
لكن ركنت
ومن ركن على غيره
أكل عاسه خسيم
وكأن هذا النص الشعري هو لسان حال الأمس واليوم وربما الغد.. عاش شامخا يقاوم بذات الشموخ الذي عرفه، كل منغصات حياته، وها هو بكل مايمتلك من حيوية الصوت ، وعناد العشق يخاطب سبتمبر ، قائلا له:
ما نصر يأتي بربخه .. من عادتك تنتصر
ها هو بيننا فردا يعبر عن الذات الجمعية لأفراد هذا الوطن ككل؛ يظرف كل الهموم للبحر ( بكل تقلباته بين المد والجزر )ويرسلها إليه قصيدة شعرية، مطالبا إياه ( البحر ) بقرأتها:
ظرفت كل الهموم يا بحر ورسلت لك
مع همومي قصيده
ورودها من ربيعي
وشوكها من ربيعي
اقرائه اقرائه
ومحذرا إياه في الوقت ذاته من الانهيار ، اذا رأى الفرح بين سطور هذه الرسالة حاوشا بحلق المجاعة ، أو شاف سيف الغباء على رقبة الزهو ، بأن لايفتجع أو يطنن ، فتلك خلاصة النكد :
ون شفت فيها فصول من مهزله أو سخافه
أو شفت فيها الفرح
حاوش بحلق المجاعه
أو شفت سيف الغباء على رقبة الزهور
لا تفتجع او تطنن
هذي خلاصة نكد تكعفه صاحبك
وعاد عوده صغير
منوها لهذا البحر إذا أراد التأكد من صحة ما إحتوته القصيدة ، أن يسأل الشهود:
ون كان تشتي شهود
تخبر الموشكي والوريث
أو من جزع قبلهم
لا تفتجع يا كبير
ماهلش حاجه بلاش والثمن
مش كثير
من يحب التراب من قبة الرأس
لا قاع الدرم يدفعه
مش كثير.
ويذهب بنا بعيدا إلى استحالة ، الحصول على خضاب أعراسنا وصوت المغني وصبح الأحبة لو توسخ تراب البلاد ( الوطن ):
الخضاب وطيب الوليمه من اين
المشاقر من اين شندي
المشاقر
والبراعم تدور فرح
تلتقي فيه كل القرى
من اين شناتي بصوت المغني
وصبح الاحبه
لو توسخ تراب البلاد
أو سحب من تحات أرجلي بالبقش
وعنون أيضا ظرفه قصيدة أخرى:
عنونت ظرفي قصيده
وقلت للثور
يا ثور
ياللي عجورك خيانه
وطول يومك تلحس
من داخل الطين دم
مشتنفعكش سمنتك
ولا شدوم لك فرح
وها هو بيننا بنفسه الظمآنه لهمس الشروق، مستني حنين الرعود مع عروق الورد ، مناجيا خضبان بجمال ورده بقوله :
ياخضبان وردك جماله ثاني
مذكرا إياه بطعم ريقه الذي يسحر الغواني ، ومتشبثا بالعهود التي وثقتها علبة الدار، كشاهد حال لا تزال حتى اللحظة:
إنه عهدلي تحت علبة الدار
في ملحمته الوطنية( التي تعدت أسفارها الحدود اليمنية وجابت الأقطار العربية ) لم يكن نشوان سوى هذا الشعب ، الذي لا يزال يشق طريق النضال ، مستلهما وصايا الشاعر الذي نراه بيننا يقول:
نشوان لا تفجعك خساسه الحنشان
ولا تبهر اذا ماتت غصون البان
الموت يابن التعاسه يخلق الشجعان
فكر بباكر ولا تبكي على مكان
لا تزال صورة المباعد منقوشة على وجه التراب، وصرنا نعلم معه علم اليقين ، بأن:
شاقي اليوم غير شاقي زمان
عرف من يأكله
عرف نوع الأذيه
معه حتى اللحظة نمضي موجهين نقده اللاذع للدودحي كرمز محلي للبيع والشراء بالعِرض:
ياهاجسي نذل من يسكت
ونذل من يرتضي بالعار
الدودحي كمل القصه
ورقد المشتري في الدار
ولابد لنا إزاء هذا الهاجس أن نعلن وقوفنا وموقفنا مع هذا الهاجس:
بالصدق با نكمل المشوار
وبسرد بالغ الإنصاف يقول لنا:
الصدق يشتي أمان
والخوف يشتي شجاعه
والشوق في داخلي بارك على الاثنين
ونجده في سياق آخر يتعاطف مع حرف الطفح بقوله:
حِوش حرف الطفح
كيف يجعل الكلمه دليل
تحول الهدره مفارس
إلى أن يقول:
مسكين هذا الحرف
لا يدري بمو يبدأ
غرق بين الهواجس
يشوف قدامه خسع
ومن وراء ظهره حوابس
هاهو أمام أعيننا حاضرا ، ولكنه حين يغيب نتذكر بزوغه كلما لاح بارق أو تبسم الجو:
لو لاح بارق أو تبسم الجو
يبزغ حبيب من مباسم الضوء
ولأننا نحبه حب المغني الذي شاخ قبل اكتمال الربيع:
نغار عليه
من لمسات الذباب
ومن لفتات القرود
من الخدش والجرح والاحتساب
نجد الصريمي ، في أيام شقائنا الانساني معبرا ومنسابا معنا في ذات الشقاء ، ونلاقيه فرحا راقصا في أعراسنا ، قائلا للوصيفات:
هنين عش السرور
وحوطين غصن بلور
وقربين البخور
لعود يلصي من النور
ونراه يسأل الراعية متى واراعيه شمطر ، وفي تليم الحب يذكرنا بأيام الهثيم، وبدوادح حبنا الغالي ودخداخ النسيم ، لنجد هذا الحب الذات وطني ، يتهدى بنا لأمواج الضنا ، بينما نحن نفترشه مدامعا ، ونرتدفه شجونا.
في كل ما قاله الصريمي نجد مالذ وطاب من الحِكم الشعرية، التي تنتقد الواقع ساخرة حينا ومبلسمة أوجاعنا حينا آخر ..
قابله الكثير الكثير فوق الدباب محاورا إياه حينا ، ومكاشفا بعضا من معاناة العامة، في تلك اليوميات الشعبية، التي ترافق المواطن في التنقل بواسطة المواصلات الجماعية..
واجه المحقق تحت وطأة التعذيب باسمه ومكان ولادته وتاريخ مولده، مجيبا عن أسئلة المحقق الغير انسانية ، بكل عنفوان الصوت الذي طغى على السياط في محضر التحقيق:
الاسم ِِ..؟ محب اليمن
وعمرك ؟ خلقت بيوم انتهاء الامامه
مكان الولاده ؟ بصدر الحبيبه
والعمل ؟ مكسر حجار مزارع مهاجر
اشتركت بشق الطرق بجمع الطرق
بنيت على ظهر ايامي مدن
على حرقة العين قرأت حروف المخاض
بعظمي كتبت حروف الولاده
مازال صوته طريا وقويا من تلك اللحظة( التي شاهد فيها النجوم ظهريه جراء التعذيب) مدويا في وجه المحقق الذي يزداد عذابا في تعذيبه ، وهو يسترسل في إجابته:
قطعوني وصال
اشربوا من دمي
اقتلوني
أنا مش مخرب أنا مش مغرر
أنا في وريدي اليمن
وبين دموعي اليمن
وهذا اعترافي
أعادته من خريف عمره، أبجدية الربيع ، إلى ربيع عمره المتجدد أملا مرتجى ، معانقا ماتيسر من احلامه التي بذرها في محطات تلك الأسفارِ:
فانتعش ياقلب أنت الآن في بدء الربيع
- تعز 22 ديسمبر 2021