- عبدالكريم الرازحي
مثل قصّاصِي الأثر راح الميدمة بعد خروجه من بيته يقصُّ الأثر ويقتفي اثرالصوت الذي ايقظ القرية من سُباتها واثار كل ذلك الفزع .كان يمشي ويتوقف عند كل بيت، ويرهف اذنيه، ويصيخ السمع، وينصت للابواب والشبابيك عله يعرف مصدر الصوت ومن اين يأتي !!
وبعد ان مسح بيوت القرية بيتاً بيتاً تبين له بان الصوت يأتي من جهة الغرب وكان الصوت يزداد قوة ووضوحا كلما اتجه غربا . وفي منتصف المسافة بين شرق وغرب القرية توقف وبقي حائرا لايدري هل يتجه الى اليسار الى دار المُخَرْدَع الكبير ام يتجه يمينا ويصعد الدرب المؤدي الى دارقايد المُشَدَّ!!د وحدثته نفسه ان يتجه يمينا ويمضي صاعدا الى دار المُشَدَّد وهو دار كبير من خمسة طوابق يقع على تبَّة تطل على ساحة القرية بناه قايد المشدد حتى ان الاتراك بعد دخولهم القرية احتلوه وجعلوا منه ثكنة عسكرية وحامية تركية ومنه كان بمقدورهم رصد ومراقبة ومعرفة كل شيئ في القرية.
بعد وصوله راح الميدمة يقرع الباب بقوة وينادي مريم الصافر بكل مايملك من صوت :
- مريااااااااام يامرياااااااام
لكن صوت البهيمة كان يتلقّف صوته ويبتلعه بمجرد خروجه ولايسمح بوصوله وبعد ان شحُب صوته من دون طائل اخذ حجرا وقذف به صوب نافذة الديوان وكان ان صطك الحجر بدرف النافذة المغلقة واصدر صوتا فانتبهت مريم الصافر واطلت براسها من الطاقةوعندما عرفت انه الميدمة استغربت مجيئه في ذلك الوقت ونزلت تفتح له وهي بكامل زينتها ورائحة عطرها تسبقها .
قالت له تعاتبه بانه كان عليه ان يناديها اويطرق الباب بدلا من ان يقذف بالحجر.
قال لها بأنه ناداها بكل صوته وطرق الباب بكل قوته من دون جدوى.
ولحظتها ادركت مريم الصافر بأن الخطأ ليس خطأ الميدمة وانما هو خطأ فرحان زوجها فقالت له : - السبب فرحان رجع ومعه كلبه تنبح وتقيّم الرقود
ومن دون ان تسأله عن سبب مجيئه قادته الى الديوان فدخل وسلم على زوجها العم فرحان وكان اول شيئ ابهر الميدمة وادهشه وهو يدلف الى ديوان دار المشدد ذلك الضوء الذي كان يملأ الديوان وقد بدا له مختلفا عن اضواء الفوانيس بمافي ذلك الفانوس الكبير الذي احضره قاسم الموسِّح زوج فانوسة كان ابيضَ ناصعاٌ بلون لبن البقر. لكن الشيئ الذي يهم الميدمة هو البهيمة: اين هي بهيمة الحديد التي تتكلم وتغني ؟ راح يسال نفسه وهويحملق بعينيه في ارجاء الديوان عله يبصرها بيد انه كان يسمع صوتها وهي تخور دون ان يراها ثم انه لم يجرؤان يسالهما عن مكانها فضلا عن ان العم فرحان كان مشغولا بزوجته يداعبها ويضغط بيده على نهديها ويدسها في مناطق حساسة من جسدها دون ان يحسب لوجوده اي حساب
وكانت مريم تحرج من ملامساته لها وتنبهه الى وجوده لكن فرحان كان يتصرف كما لوان الميدمة غير موجود او كأنه لم يزل طفلا .
كانت مريم قد احضرت له شيئا من البيسكويت مع فنجان شاي وكان لذلك
البسكويت طعم لذيذ نقله بعيدا حتى انه وهو يأكله مع الشاي بالحليب لم يعد يرى مايفعله فرحان مع زوجته مريم كان كأنه في غيبوبة ولم يفق منها الا بعد ان ساله فرحان عن السبب في انه مازال يقِظاً ولم ينم!!
لحظتها افاق الميدمة من غيبوبته واخبرالعم فرحان عن صوت البهيمة الذي ايقظ القرية من سباتها وعن الفزع الذي احدثته وكان فرحان يضحك مثل طفل ويساله عما قالوه ويعيد السؤال : - ايش قال الفقيه ياميدمة ؟
- قال : صوت دابة مذكورة بالقرآن تخرج آخر الزمان وقال ان القيامة شتقوم
والسيد عبد القادر موقال ؟
قال : صوت بهيمة من بهائم الجن
وكعود الرام موقالت ؟
قالت : صوت مزمار سعيد الفاتش يصيح من داخل القبر وكلهم صدقوها
وبعد ان اشبع العم فرحان حاجته الى الضحك قال للميدمة مصحِّحا بأن الصوت الذي ايقظهم من نومهم واثار فزعهم ليس صوت بهيمة وانما هوصوت مكينة اسمها الراديو
وخوفا من ان ينساه راح الميدمة يردد الاسم بينه وبين نفسه : - راديو راديو راديو راديو راديو راديو راديو راديو ….
،وكأنه يردداسماً من اسماء الله الحسنى
كان العم فرحان ليلة وصوله قد وضع المكينة في الطاقةالشرقية المطلة على الساحة والمواجهة للقرية واطلق لصوتها العنان وكانت مريم قد فُزِعت من قوة الصوت وقالت له :
- لايافرحان اني فدالك اهل القرية رقود حرام تِفَزِّزْهم وتقيّمهم من النوم.
وطلبت منه ان يسكِّتها : - “سكِّت الكلبة حقك وخلي اهل القرية يرقدوا “
قال لها فرحان بما معناه انهم قد رقدوا اكثر من رقدة اهل الكهف وانه قد آن الأوان لان يستيقظوا . وكانت مريم الصَّافر بين الوقت والآخر تطلب منه ان يسكِّت كلبته وهو يرفض لكنها بعد مجيئ الميدمة وبعد ان حدثهما عن حالة الفزع الذي احدثه الصوت قالت له مريم : - “سكت الكلبة حقك يافرحان والا والله لاارجم بِهْ من الطاقة”
وكانت مريم تشبه مكينته تلك ب الكلبة وصوتها بالنباح وكان يخامرها شعور بان تلك المكينة التي يهتم بها زوجهافرحان ويُنصِت لكلامها سوف تسرقه منها حتى لقد كرهتها من اول ليلة لكأنها طبينتها “ضرَّتها” بعد ان حكى له الميدمة عن الرعب الذي احدثه صوت الراديو تذكر العم فرحان ماكان قدسمعه عن المدفع التركي وعن الفزع الذي احدثه في نفوس اهل القرية وقال محدثا نفسه:
-“المدفع التركي دخل القرية بالليل والناس نيام وقاموا من نومهم مفجوعين بعدما سمعوا صوته والراديو دخل القرية بالليل وفعل نفس مافعله المدفع التركي ”
غير ان العم فرحان لم يجلب الراديو ليثير الفزع وانما جلبه ليبعث الفرح ويخرج اهل قريته من ظلمات جهلهم وهو حين وضعه في النافذة المطلة على ساحة القرية كأنه اراد بذلك ان يقول لاهل قريته : هذا هو نافذتكم على العالم
لكن الميدمة لم يكن قد ابصر الراديو ثم انه لم يتوقع بان ذلك الصندوق الموضوع في الطاقة والمكسو بقطعة قماش هو نفسه الراديو الذي ايقظ القرية من نومها واثار فزع الناس والبهائم وهو لم ينتبه الى وجوده الاعندما امتدت يد العم فرحان اليه لإطفاءه. عندئذٍ راح يحملق فيه بعينين دهِشَتَين ومذهولتين .
لقد كان تصوره عنه بأنه كبير بهيئة ثور اوعجل ولم يكن يتوقع من خواره وقوة صوته بان بمقدور تلك المساحة الصغيرة ان تحتويه وتتسع له .
قال له العم فرحان وقد ابصر الدهشة تكسو وجهه : - مالك ياميدمة !!
قال الميدمة وهو يشير الى الراديو : - هُوْذا الراديو !!
قال له العم فرحان : هُوْذا نفسه!!
قال الميدمة : كنت احسبه كبيييييير
وطلب منه العم فرحان ان يقترب من الطاقة ويلمسه بيده
ولحظتها نهض الميدمة من مكانه واقترب من الطاقة وراح يتحسس الراديو بيد مرتعشة وبنفس الشغف الذي تحسس به فيما بعد نهد حبيبته شُمُوس .
ليلتها وقبل انصرافه وعودته الى بيته راح العم فرحان يكلم الميدمة عن مكائن اخرى وقال له متباهيا وقد اوصلته اغصان القات الى ذروة النشوة : - جبت معي سبع مكاين ياميد مة على عدد الاولياء بالقرية
وبدا الميدمة مذهولا لايدري ماالعلاقة بين المكائن وبين الاولياء!!ولا لماذا العم فرحان احضر مكائن بعدد اولياء القرية!! وكان ان خامره شعور بان العم فرحان مثل الفقيه يكره الاولياء
وقال يحدث نفسه : الفقيه بعدما رجع من مكة رجع يكره الاولياء والعم فرحان رجع من البحر ومعه مكاين بعدد الاولياء وخُيِّل اليه لحظتها كما لوان المكائن سوف تحل محل اولياء الله في القرية وبأن الراديو سوف يحل محل كبيرهم احمدابن علوان.
ولاحظ الميدمة بان مريم الصافر بدت متضايقة من حديث زوجها عن المكائن التي جلبها لكنها عندما سمعته يتحدث عن سبع مكائن بعدد اولياء القرية امتقع وجهها من الرعب وشعرت كما لوان زوجها قد جلب الى الدار سبعة شياطين .