- عبدالكريم الرازحي
كانت حليمة تبكي في سطح بيتها وكانت البنت شموس في السطح المجاور تبكي هي الاخرى وحين سالتها امها شمس راوح عن سبب بكاءها!!
قالت شموس وهي تواصل البكاء :
-” خايف على الميدمة لايُوقع بُه حاجة “
قالت امها : وانتي مودخلك بالميدمة !! لمو خايف علوه!!
قالت شموس : احبه يمّا
وفُزِعت امها حين سمعتها تقول بأنها تحب الميدمة وقالت لها :
-موقلتي ياشموس!! تحبي الميدمة !! من ايحين تحبُّوه وانتي عادك كنتي تضحكي علوه وتقولي انه شُخْرَه وانك تِشْخَرُوْه!!
قالت لها شموس بان الحب من الله ويأتي فجأة من دون سابق موعد ويسقط مثل المطر :
- “من صدق يما كنتو اشخره لكن الحب من الله نزل علي اكّا مثل المطر لما ينزل “
قالت لها امها متهكمة : - نزل عليك الحب مثل المطر والامثل الوحي اللي ينزل على فازعة !!
قالت شموس وقدشعرت بمافي كلام امها من تهكُّم :
-“الحب يمّا ينزل مثل المطر، ويدخل للقلب مثلما تدخل الشمس من الطاقة. لكن الشمس تدخل وتخرج والحب يدخلل ومايخرجش “
وكان من عادة امها انها كلما زعلت من بنتها شموس تهددها بقطع ذلك الشيئ الناتئ والزائد وليلتها قالت لها : هيا آذي المرة لك لكن مرة ثاني اسمعك تتكلمى على الحب والاتقولي انك تحبي الميدمة والله لااقصُّه لك بالمقص
كانت شموس فتاة جميلة وجريئة تميل الى المرح ولديها حسٌ ساخر تسخر من كل الفتيان وتتبَّع عيوبهم وتشعر في قرارة نفسها بانها اجمل من ان تحب احدهم اوتقبل الزواج منه وكان لها مقولة مشهورة تردِّدُها :
- “كل باب وله مفتاح يفتحه لكن باب قلبي يشا له مفتاح ذهب ”
كانت لشدة كراهيتها للميدمة تشيح بوجهها عنه كلماصادفته في طريقها وهو مالم تفعله مع غيره من فتيان القرية مع ان بيته لصق بيتها وكانت تقول ساخرةمن اسمه : - من هو الذي سماه هذا الاسم الشخرة ؟:ميدمة !!
وممازاد في كراهيتها له هو ان الناس لم يكونوا ينادونه باسمه احمد وانما كانوا ينادونه بلقبه : الميدمة : ياميدمة ..اين انت ياميدمة ؟صباح الخير ياميدمة .
لكن الميدمة كان قد اشتهر بخطه الجميل وكانت امهات وزوجات المغتربين يعتمدن عليه في كتابة رسائلهن الى اولادهن وازواجهن وفي قراءة الرسائل التي تصلهن منهم و في كثير من الاحيان كان يُصادِف وهو يقرا رسائل المغتربين الى اهاليهم معلومات غريبة كأنها الالغاز تجعل عقله يدور وتصيبه بالدوار .وفي الليلة التي تسللت فيها البهيمة الى قريتهم وايقظتهم من نومهم كانت شموس مازالت تكرهه لكنها بعد ان تكلم ولفت انتباه اهل القرية بكلامه لفت في نفس الوقت انتباهها والتفت اليه قلبُها اما بعد ان حمل فانوسه وخرج للبحث عن مصدر الصوت فقد شعرت بخوف عليه ولم تستطع ان تحبس دموعها ولاان تكتم حبها وانفجرت تبكي امام امها وتعترف لها بانها تحبه وان الحب فاجأها ونزل عليها مثلماينزل المطر ودخل قلبها مثلما تدخل الشمس من النافذة.
ليلتها كانت حليمة ام الميدمةماتنفك تحملق بعينيهاالمليئتين بالدموع في جميع الجهات علها تلمح ضوء فانوسه وكان الفقيه قدتنبأ وقال لاهل القرية بأن الميدمة لن يرجع حيا الى بيته وكانت حجته هي انه عندما خرج لم يخرج من اجل عمل صالح وانما خرج ليثبت عدم صحة كلام الله عن خروج الدابة.
كان قد مر على خروجه ثلاث ساعات وكان غالبية اهل القرية قدفقدوا الامل بعودته
امابعد ان سمعوا نبوءة الفقيه وقوله بأنه لن يرجع حيا فقد ايقنوا بأنه لن يعود
كانت فازعة ماتنفك تطلق من سقيفة بيتها نبوءات مضادة لنبوءات الفقيه التي يطلقها من سقيفته وفي تلك الليلة وبعد ان قال الفقيه بأن الميدمة لن يعود قالت فازعة بان الميدمة وإن كان قد تأخر إلاانه سوف يعود لكن حليمة التي كانت مثل غيرها من عجائز القرية تؤمن بأن الله يضع كلماته في فم الفقيه لينطق بها لم تصدق ليلتها كلام فازعة وقالت لجارتها غيوم عالم وهي تبكي بحرقة :
- ضاع ابني ياغيوم عالم
قالت لها غيوم عالم تطمئنها وترفع من معنوياتها : - لالالا ياحليمة لاتصدقيش الفقيه صدقي فازعة الوحي ينزل عليها من عندربي
قالت لها حليمة بأن الله ذكر وليس انثى حتى يتكلم مع فازعة او مع اي امراة - ربي ياغيوم رجّال والرجّال يتكلم مع رجّال مثله مش مع مرة
وعندما تناهى الى مسامع كعود الرام ماقالته غيوم عالم غضبت منها وقالت لها :
-” ربي ياغيوم لايعرف فازعة ولاغير فازعة ربي يعرف الفقيه والفقيه يعرف ربي وربي يكلم الفقيه والفقيه يكلم ربي وربي يجلس مع الفقيه والفقيه يجلس مع ربي واللي تصدق فازعة وماتصدقش الفقيه ربي يجعل له العمى”
وكانت كعود الرام تغضب وتزعل وتخاصم كل من يشك بكلام الفقيه اويشكك في نبوءاته وتدعوعليه بالعمى.
ولشدة ايمانها بنبوءة الفقيه من ان القيامة سوف تقوم عند سماع صوت مزمار الفاتش يصيح من داخل القبر كانت كل ليلة تستيقظ من نومها وتصعد الى سطح بيتها المطل على المقبرة وترهف اذنيها علها تسمع صوت المزمار.وفي تلك الليلة التي استيقظ فيها اهالي القرية على دوي الصوت الغريب استيقظت كعود الرام على صوت خوار بقرتها وقامت من نومها مستغربة تتساءل بينها وبين نفسها عن سبب خوارها !!ولماذا هي مفزوعة !!
كان من عادة بقرتها انها تنام في الليل فلاتخور ولايُسمع لها صوت اما في تلك الليلة عندما سمعتها تخور خوارا مُفزِعا وغير طبيعي وعلى غير عادتها فقد صعدت الدرج الى سطح بيتها وليلتها لم تكن بحاجة الى ان تُرهف اذنيها وتصيخ السمع فقدكان الصوت واضحا وقويا وقادما من جهة المقبرة وكانت على يقين بان الصوت الذي افزع بقرتها هو صوت مزمار سعيد الفاتش *
*حكاية سعيد الفاتش
كان سعيد الفاتش شاعرا شعبيا وعازف مزمار ومغني وقارع طبل وراقص موهوب وساخر كبير وانسان جميل . وكان مدرسة في الحب يحب الحياة ويعيشها بشغف ويجعل كل يوم من ايامه عيدا ومهرجان فرح .
كان الاطفال يحبونه و يفرحون بحضوره .وكانوا اذاحضر واتكأعلى جذع شجرة الطولق في ساحة القرية تحلّقوا حوله مثل تلاميذ يتحلقون حول معلمهم وكانوا وهم يصغون الى حكاياته اوالى حديث مزماره يشعرون بحالة من الجريان والتدفق و كانت كل تلك الكوابح والموانع والمخاوف الموجودة بدواخلهم تذوب وتتلاشى ويشعرون كمالوان بمقدورهم ان يفعلوا كل ما يحلولهم وليس ثمة مايحول بينهم وبين الذوبان اوالتبخر او التحول الى اثير اوالى عصافير تطير. وفي مدرسة الفاتش كانوا يرون كل مغطّى مفتوش وكل مغلق مفتوح. ويجدون انفسهم خفيفين منفتحين مرحين ومندهشين حتى ان الساعات تمر عليهم مرور الدقائق . وكثيرا ماكان يعتريهم شعور بان الحب ليس حراما وليس عيبا ولاهوحكر على الكبار وكان العشاق الصغار لايجدون حرجا ولايشعرون بالخجل وهم يفتحون قلوبهم ويبوحون بحبهم امامه وباسماء البنات اللاتي يحبونهن .ومثلما تتفتح الزهور كان الاطفال يتفتحون في مدرسة سعيد الفاتش وينضجون قبل الاوان
كان قد علمهم كيف يصنعون ” الشبابة ” من القصب وكيف ينفخون فيها ويحركون اصابعهم على ثقوبها بايقاع منظم كيما تصدر منها الحان شجية
ايامها كان ثمة علاقة بين الحب وبين الشبابة وكان الصبي الذي يريد لفت انتباه الصبايا اليه او يريد ان يبوح للصبية التي يحبها بحبه ويقول لها : احبك
يقول لها ذلك بواسطة الشبابة وبلغة الموسيقى وفي مدرسة الفاتش كان اطفال وصبيان القرية قد تعلموا كيف ينقلون مشاعرهم ويبوحون بمافي قلوبهم عبر تلك القصبة المجوفة
وكثيرا ماكان يقول لهم :
- الانغام اللي تخرج من هذه الآلة المصنوعة من القصب تخطف قلوب الصبايا اكثر مما يخطفها بريق الذهب
لكن تلك الانغام والالحان التي تصدر من شبابات صبيان القرية كانت في نفس الوقت تجلب عليهم الغضب غضب الفقيه وغضب اولئك الذين لهم آذان معادية للموسيقى وتكره الطرب
كان سعيد الفاتش يلعب بالمزمار ويُشَبِّب بالشُبّابة(الناي )ويرقص ويغني ويحكي لهم حكايات تنقلهم الى اماكن ساحرة وعوالم مدهشه وكان ماينفك يضحك ويضحِّكهم ويملأوقتهم مرحا ونفوسهم فرحا حتى انهم حين كانوا يعودون الى بيوتهم في المساء يعودون فرحين مرحين محبين للحياة شغوفين بها اما عند عودتهم من مدرسة الفقيه اومن مدرسة السيد فكانوا يعودون مكتئبين ومنقبضين ومنطفئين وممتلئين بالخوف ولديهم شعور قوي بالذنب .
قبل موته اوصى سعيد الفاتش صبيان واطفال القرية ان يزفوه الى المقبرة على دقات الطبول وايقاع المزاميرويدفنوامزماره الى جانبه. واوصاهم ان يفرحوا ويمرحوا ويغنوا ويرقصوا ويجعلوا من موته عُرسا اعظم من اعراس حياته وطلب منهم ان يكتمواوصيته تلك ولايبوحوا بها لاحد من اهل القرية حتى لايتدخلوا للحيلولة دون تنفيذها وفي صباح اليوم الذي فاضت فيه روحه غسلت زهر الفاتش جسد ابيها والبسته ملابسه الجديدة التي كان قد اشتراها واحتفظ بها ليوم موته وبعد ان لفَّت راسه بالمشدة وشدَّدته غرزت في طيّات مشدّته مشقُرا من الريحان والكاذي ورشته بالعطر ثم وقد انتهت من تجهيزه صعدت الى سطح البيت وراحت تزغرد وتصيح قائلة بكل صوتها :
- ابي اليوم عروس ابي اليوم عروس
كانت نساء القرية مستغربات ومتعجبات من زغردات زهر الفاتش ومن قولها بأن اباها عريس لكن صبيان واطفال القرية وغيرهم من الاوصياء التقطوا إشارتها وخرجوا من بيوتهم لتنفيذ وصيته و من امام بيته راحوا يزفونه بالطبول والمزامير والشبابات يومها كان الطبالون يقرعون طبولهم وحملة المزامير والشبابات يزمرون ويشببون وكان منظرالفاتش وهو فوق حمار سيف انعم يلوح كأنه سلطان من السلاطين يزف الى العرش
يومها ضجت القرية وانقسمت الى قسمين قسم مع الوصية وقسم ضدها لكن اولئك الذين وقفوا ضدها لم يستطيعوا ان يوقفوا العمل بها ويعرقلوا تنفيذها والسبب انهم تفاجئوا ولم يعرفوا بأمرها الابعد ان تحرك الموكب ومضى باتجاه المقبرة.
وعندما كانت النساء يسالن اطفالهن من سطوح بيوتهن عما يحدث يقولون لهن :
- سعيد الفاتش اوصى نزفه للمقبرة بالمرافع والمزامير
وعندئذٍ كن يُصبنَ بالهلع ويصرخن فيهم ان يعودوا ويطلبن منهم عدم المشاركة في حفل زفاف الرجل الملعون الذي لايصلي ولايصوم ويبول وهو مستقيم لكن الاطفال كانوا يرفضون الإنصياع لأوامر امهاتهم وكانوا اكثر فرحا واكثر حماسا واندفاعا من الكبار. - ومن سطوح البيوت كان ثمة نساء وصبايا فرحات يزغردن عندمرور الموكب من امام بيوتهن وبالمقابل كان ثمة نساء وعجائز يقذفن الموكب باللعنات وكن لشدة مخاوفهن من غضب الله ومن ردود فعل سكان المقبرة يلقين باللوم على عقال واعيان القرية الذين تركوا الامر للاطفال والصبيان . يومها كان فقيه القرية يصرخ من سقيفة بيته ويقول بملء صوته مهددا ومتوعدا :
- “ياويلكم ياعكابر من غضب الله “
كان يكررها مرات ومرات ويلقي باللعنات على اولئك الذين خرجوا يزفون الفاتش للمقبرة .
اما فازعة فعندما رات الموكب يمر من امام بيتها ورات الفاتش راكبا فوق حمار سيف انعم قالت تخاطب نساء القرية :
-الفاتش يانسوان ولي من اولياء الله ولوهو مش ولي موقدَّره يركب الحمار وهو ميت !!
كان لديها يقين بأن الاولياء يدخلون الجنة راكبين لكن نساء القرية لم يصدقن بان الذي يركب حمار سيف انعم هو الفاتش نفسه وحين ابصرنه وتأكدن من كلام فازعة كادت عيونهن تخرج من محاجرهن لشدة ماكن مندهشات ومتعجبات وكان ان رحن يتساءلن : - هل الفاتش ولي؟ كماتقول فازعة ام هو كافر ؟كمايقول الفقيه وهل سيذهب للجنة ؟
ام الى النار !!
لكن وجوههن امتقعت من الرعب حين عرفن بأنهم قبروامزماره معه. اما بعد ان سمعن نبوءة الفقيه وقوله بأن القيامة ستقوم عندما يسمعون مزمار سعيد الفاتش يصيح من داخل القبر فقد توجسن خوفاوكان خوفهن من المزمار المدفون في القبر اعظم من الخوف الذي تملكهن عندما اجتاح القرية وباء الجدري ومن يومها كان اهل القرية يفسرون احداث قريتهم بالمزمار ويرجعون كل كارثة وكل مصيبة تنزل بهم الى مزمار الفاتش وكان ان غدا المزمار هو المشجب وهو المسمار الذين يعلقون عليه احداث قريتهم الموجعة كبيرها وصغيرها وكانت كعود الرام كلما مرضت بقرتها فالسبب هو مزمار الملعون سعيد الفاتش المدفون في المقبرة . بعد عودتهم من المقبرة وبعد ان غنوا ورقصوا وفرحوا وضحكوا شعرصبيان واطفال القرية بالوجع على رحيل معلمهم سعيد الفاتش وفي مساء يوم رحيله داهمهم حزن شديد وفي صباح اليوم التالي اصبحوا حزينين ومكتئبين واصبحت الشمس باردة واصبح اهل القرية يوبخونهم ويلومونهم ويشعرونهم بأنهم مذنبون وكانوا كلما نزلت مصيبة بقريتهم القوا باللوم عليهم وقالوا لهم : - انتم اللي عملتم بالوصية وانتم اللي زفيتم وطبلتم وغنيتم ورقصتم وازعجتم الموتى وانتم من دفن المزمار اللعين في المقبرة وجلبتم على قريتنا غضب الاموات وغضب الله والملائكة وكان ان راح الشعور بالذنب يتنامى لديهم ويقوى بعد كل مصيبة تنزل بالقرية وفي تلك الليلة التي ضرب فيها قريتهم صوتٌ قويٌ كأنه الزلزال كانوا قد وصلوا الى ذروة شعورهم بالذنب وليلتها راحوا جميعهم يكفِّرون عن ذنبهم بلعن الرجل الذي علمهم
الف باء الفرح والف باء الحياة ومن سطوح بيوتهم راحوا يقصفونه بوابل من اللعنات: - “لعنة الله علوك ياسعيد الفاتش “
.
٠