- عبدالكريم الرازحي
في مطلع عام الجُدَري افاق اهالي قرية العكابر من نومهم على صوت مريع ضرب القرية كأنه الزلزال وقذف بهم من مراقدهم وغرف نومهم الى سطوح بيوتهم محدثا فيهم رعبا اعظم من الرعب الذي احدثه وحش الجدري .
كان الصوت حادا وغريبا وغير مألوف افزع اول ماافزع البهائم حيث راحت الابقارتخور والاغنام تثغو والحمير تنهق والقطط تموء مواءً ينذر بقرب حدوث مصيبة اوكارثة فيما راحت الكلاب تنبح نباحا خافتا وكأنها تخشى من هذه البهيمة التي تسللت الى القرية في جنح الظلام .
ولشدة الرعب الذي تملك العكابر ليلتها ارتفعت اصوات الادعية والتضرعات :
-“اللهم حوالينا ولاعلينا “
- “اللهم ارحمنا برحمتك واجعل صوت هذ ي البهيمة بقدرتك صوت رحمة لاصوت نقمة”
-” اللهم يامن سلطت علينا الجدري تسلط هذي البهيمة على الجدري”
ثم تناهى الى الاسماع اصوات العجائز وهن يستغثن باولياء القرية وبكبيرهم احمد بن علوان
ومن سطوح بيوتهم المضاءة بالفوانيس راح العكابر يرهفون آذانهم ويصيخون السمع علهم يتعرفون على طبيعة هذه البهيمة التي ايقظتهم من نومهم واثارت فزعهم وفزع بهائمهم .
ليلتها تعددت الاقاويل والتكهنات .لكن السيد عبد القادر وهو العالم بأسرار العالم الخفي قال لهم بان الصوت صوت بهيمة من بهائم الجن .
ومن سطح بيتها المطل على المقبرة راحت كُعُود الرام تُعْوِل وتُوَلْوِل وتقول لاهل القرية : - هذا الصوت اعرفه مثلما اعرف نفسي هذا صوت مزمار سعيد الفاتش يصيح من داخل القبر .
وراحت كعود الرام تذكّر اهل القرية بنبوءة الفقيه حول قيام القيامة وقوله بأن القيامة سوف تقوم عندما يسمعون صوت مزمار. سعيد الفاتش يصيح من داخل قبره.
وسرعان مالقي كلام كعود الرام صدىً في نفوس اولئك الذين اجمعوا على كراهية سعيد الفاتش ،ووجدوا في كلامها مايرضي غرورهم، ويشفي غليلهم، ويبرّركراهيتهم للرجل الذي كان نبع فرح ومصدر بهجةٍ للقرية كلها .
وحتى يثبتوا انهم كانوا على حق في كراهيتهم له راحوا من سطوح بيوتهم يذيعون ماقالته كعود الرام بمكبرات اصواتهم :
-” هذا صوت مزمار الملعون سعيد الفاتش.. ملائكة نزلت من السماء تعذبه عذاب القبر ومزماره الذي اوصى بدفنه معه قام يشهد علوه.
ومن سطح بيته صاح الحاج علوان :
-” الله اكبر صدقت نبوءة الفقيه وكذبت المُسَفِّلة غيوم عالم “
وراح يذكراهل القرية بتلك النبوءة التي اطلقها الفقيه يوم موت سعيد الفاتش وعندها سرت قشعريرة رعب في اجساد اطفال القرية ولشدة رعبهم راحوا يوجهون آذانهم ناحية المقبرة، ويرهفون سمعهم ،ويقولون لامهاتهم بأن الصوت الذي يترامى الى مسامعهم هو صوت مزمار سعيد الفاتش. وبعد كلام الاطفال تراجع كل اولئك الذين كان لديهم شك بكلام كعود الرام وقالوا بأن آذان الاطفال اصدق وانظف من آذان كبار السن وسمعهم احد وارهف ثم انهم لايكذبون .
ومن سطح بيته صاح وكيل الشريعة حمود السلتوم : - “النسوان بلاعقول ومن يصدق كلامهن فهو مثلهن بلاعقل” واردف قائلا :
- كيف تصدقوا كلام نسوان وعندنا فقيه!! فقيهنا عالم يغرف من بحر والعلم كله في بطنه .علم الدنيا وعلم الآخرة علم الظاهر وعلم الباطن .
وعندها راحوا يخبطون على رؤوسهم التي سهت عن ذكر الفقيه وكان الفقيه هو الوحيد في قرية العكابر الذي يملك اليقين. ولديه اجوبة لكل تلك الاسئلة العَوِيصَة التي تقلقهم وتقض مضاجعهم .
وعلى الرغم من ان فقيه القرية كان يجلدهم بسوط التكفير ويخيفهم بنبوءاته عن قرب قيام الساعة وبالعذاب الذي ينتظرهم الاانهم كانوا يلوذون به عند كل صغيرة وكبيرة ولم يكن لديهم ادنى شك في انه الوحيد الذي يستطيع ان يفتيهم حول هذه البهيمة التي ايقظتهم من نومهم واثارت فزعهم وفزع بهائمهم .
ومن سطوح بيوتهم ارتفعت الاصوات تنادي الفقيه : - يافقيه.. اين انت يافقيه؟
قالت لهم جارته كعود الرام وكانت قد اهتدت على يديه : - “الفقيه بالسقيفة يتكلم مع ربي “
وطلبت منهم ان يلوذوا بالصمت :
-” أصَهْ اسكتوا خلو الفقيه يسمع كلام ربي”
عندئذٍ داخلتهم رهبة واعترتهم قشعريرة ولاذوا بالصمت.
وليلتها شعرت كعود الرام بشيئ من الزهو كونها اول امراةٍ في قرية العكابر تهتدي على يد الفقيه الى الاسلام الصحيح.
كانت سطوح البيوت جميعها مضاءة بالفوانيس باستثناء بيت الفقيه “…”
كان الفقيه قد درج على التحرك في الظلام، وعلى الصلاة والتهجد ومناجاة ربه في سقيفة بيته وسط الظلام .وحتى في رمضان عندما يخرج لصلاة التراويح يخرج من دون ان يحمل معه فانوسا وكان يرد قائلا لمن ينصحه بحمل فانوس معه:
- “الله فانوسي”
وكانت كُعُود الرّام وهي تتحدث عن كرامات الفقيه تقول بانها اكثر من مرة ابصرت فانوسا كبيرا يسير قدامه ويضوِّي له و عندما يكون في السقيفة يتكلم مع الله تبصر الفانوس نفسه وهو يقف امام الفقيه .
وحين كان البعض من نساء القرية يشككن بكلامها عن الفانوس الكبير تحلف وتبكي بان ذلك حقيقة وانها ولاتكذب ولانها صادقة وعمرها ماكذبت كانت النساء يصدقنها وعندما كن يسالنها عن الفانوس وهل هو ملاك؟ تقول لهن : - “لالا يانسوان مش ملاك.. هو ربي بكُلُّه ينزل من العرش يضوِّي له وينزل للسقيفة يكلمه.
وكان من عادة الفقيه عند نزول مصيبة على القرية يصعد الى سقيفة بيته ويظل هناك يتهجّد ويدعو ربه ويشفع لاهل قريته وبحسب كلام كعودالرام - “والله لولا الفقيه سعيد يطلع السقيفة يشفع لنا عند ربي كان ربي على كثرة ذنوبنا حرّق بنا واهلك القرية “.
ليلتها وقد قيلت اقوال كثيرة عن الصوت الذي ايقظهم من النوم راحوا جميعهم ينتظرون الفقيه على قلق ويتلهفون لسماع صوته وماالذي سوف يقوله :
ومن قلب الظلام في سقيفة بيته قال الفقيه يخاطبهم بان الصوت الذي ايقظهم من سباتهم هو صوت الدابة وراح يكلمهم عن دابة القيامة وقال لهم بانها مذكورة في القرآن تخرج في آخر الزمان ويكون خروجها من علامات قيام الساعة وحتى يقطع الشك لديهم باليقين قرأ عليهم الآية بصوت خاشع متهدج يميل الى البكاء ويبعث على القشعريرة : - “واذا وقع القول عليهم اخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم انهم كانوا بآياتنا لايوقنون “
صدق الله العظيم
و مثلما تلامس شرارة كوما من القش لامست كلمات الفقيه قش مخاوفهم ولحظتها ارتفعت اصوات العويل والبكاء واصوات الاستغفار.
ومن سطح بيتها راحت كعود الرام التي ادمنت على مواعظ الفقيه سعيد وعلى تصديق نبوءاته تُعوِل وتُوَلوِل وتطلب من اهل القرية ان يسامحوها ومن الفقيه ان يشفع لها يوم القيامة:
-“سامحوني يااهل القرية ..سامحنِّي يانسوان.. وانت يافقيه سالتك بالله تشفع لي عند ربي يوم القيامة. “
من بين جميع نساء القرية وحدها فازعة لم تُفزع ولم يساورها ادنى شعور بالخوف
وكانت تقول : “من يوم عرفت الفقيه وهو يتكلم عن يوم القيامة وكل يوم عنده علامة” وفيماكانت نساء القرية يُعوِلن ويولولن ويستغفرن كانت شجون ناشر تغني في سقف بيتها بصوت يتناغم مع صوت البهيمة :
-ياحبشة لِكْ بحر تغرقي بُهْ
تفرِّقي المحبوبْ عن حبيبُهْ
ومن سقيفة بيته صرخ فيها الفقيه بكل صوته :
- هل هذا وقت الغناء ياشجون ناشر ؟ هل هذا وقت الحب؟ بدل ماتستغفري ربك تغني وتتكلمي عن الحب !!
لكن شجون ناشر لم تكترث لكلامه وراحت تواصل الغناء - حُبَيِّبِي حبَّيتني وقفَّيتْ
لصَّيتني مثل السراجْ وطفّيْتْ
ومن جديد ارتفع صوت الفقيه غاضبا مزمجرا :
-” ربي يحوِّل لك ياشجون بمن يلصِّيكْ ولاتِلقَيْ من يطفِّيكْ “
وغنت شجون:
جمعة وراجمعة وعيد ورا عيد
زلجَّتني يامصطفى مواعيد
وعندها جُنَّ جنون الفقيه وراح يقصفها بوابل من اللعنات : - لعنة الله عليك ياشجون ناشر مليون لعنة
والله لويعرف مصطفى زوجك انك كفرتي بالله وخرجتي من الدين خروج الشعرة من العجين لن يرجع من الحبش واذا رجع لن يقبل العيش مع واحدةكافرةمثلك