- عبدالكريم الرازحي
في سنة الجدري شاع الخبر في(قرية العكابر) بان شجون ناشر كفرت بربها ودخل الشك الى قلبها وتوقفت عن الصلاة وبدلا من ان تصلي صارت تغني واصبح الغناء صلاتها.
ايامها كان وحش الجدري قد تسلق مثل عنكبوت واجهات البيوت، ووجوه الاطفال ، وكان قد حفر لهم قبورا، وحفرونقش اسمه في وجوههم الصغيرة والبريئة. لكنه فيما يتعلق بطفلها عبد النور والبالغ من العمر خمس سنوات لم يكتف بحفرونقش اسمه القبيح في وجهه الصغير والبريئ .وإنما تمادى في حقده فوقّع ،وبصَمَ، وختم على عينيه بختمه الاكثر قبحا .
ومن حين ابصرت شجون ناشر وحش الجدري يطفئ عيني طفلها عبد النور اصابتها لوثة في عقلها مالبثت ان تطورت الى جنون وكانت كلما ابصرت طفلها عبد النور يتعثر في سيره او يخبط راسه في باب او جدار وياتيها باكياً تصرخ قائلة بغضب وهي تشخص ببصرها الى السماء :
“تشاني ياربي اصلي لك والله ما اصلي لك
تشاني ياربي احمدك واشكرك والله مااحمدك ولا اشكرك
تشاني ياربي اعبدك والله مااعبدك. “
وبعد ان تفرغ شحنة غضبها تلك تجهش باكية وتقول لامها مَطَرَةوهي تحتضن طفلها :
- موعمل ابني يمّا !! موهو ذنبه !!لماربي يغضب علوه ويحكم علوه بالعمى !!
تقول لها امها مَطَرَة : - يابنتي ياشجون ربنا رحيم منوقال لك ان ربنا هو اللي اعموه !!
و ترد شجون على امها بانها سمعت الفقيه (…) بأذنيها يقول بان الله هو من ارسل الجدري للقرية
وكان الفقيه (…) قد اعلن من سقيفةبيته(بان الله في الازمان الغابرة كان يرسل الانبياء والرسل للكفار والمشركين ثم استعاض عن ارسال الانبياء والرسل بإرسال الرسائل وقال بأن الجدري رسالة من جملة رسائل بعثها الله الى اهالي قرية العكابر الذين اشر كوابه واتخذوا من الاولياء شركاء له وانهم إن لم يرجعوا عن شركهم ويستغفروا ربهم ويتوبوا سوف يبعث لهم برسائل اعظم واشد خطرا من الجدري.)
قالت لهاامها بأن الله وإن كان حقا قد ارسل الجدري إلاانه كان رحيما بإبنها عبد النور وراحت تذكرها بالعشرات من اطفال القرية الذين فقدوا ارواحهم وتسبب الجدري في موتهم: - يابنتي ربنا رحمن رحيم رحم ابنك عبد النور احمدي الله انه اعتمى ومامتش
وصاحت شجون وقد استفزها كلام امها : - تِشَيْني يمّا احمده على عمى عبد النور !!
قالت امها : العمى يابنتي ارحم من الموت.
قالت شجون وهي تجهش بالبكاء : - لوكان مات يمّا كان احسن لي وله. الموت ارحم من العمى يما .
الموت حُفرَة وغُدرَة والعمى كل يوم حُفرة وكل يوم غُدرة.
وحتى تخفف من حزن بنتها قالت لها امها بأن الله الذي سلب نور عيني ابنها عبد النور سوف يعوضه بنور في قلبه وراحت تذكر لها كيف ان العميان بإلهام من الله يحفظون القرآن غيبا
وصرخت شهود بكل صوتها وقالت وهي تمرِّر يدها برقبة طفلها عبد النور : - والله لااذبحه بالسكين يما لو يحفظ القرآن ويوقع مثل الفقيه (…)
والتفتت ناحية عبد النور تقول له محذرة وهي تواصل البكاء : - حسّك تحفظ القرآن ياعبد النور وتوقع مثل الفقيه(…)اتعلم الغناء واحفظ الاغاني وشبِّب بالشُبَّابَة وزمِّر بالمزمار مثل سعيد الفاتش ولو سمعتك يوم تقري قرآن لاانت ابني ولااني امك .
وصاحت امها محتجة :
-يابنتي حرام عليك تحرمي ابنك من نعمة الجنة بعدما حُرِم من نعمة البصر.كيف تطلبي منه يوقع مثل سعيد الفاتش وانت داري انه كافر شيطانه مزماره لاكان يصلي ولايصوم .
قالت لها شجون بأنها تريده يتعلم الغناء ويوقع مغني ومزمر مثل سعيد الفاتش يفرح الناس باغانيه وبالحان مزماره بدلا من ان يصبح مثل الفقيه(…)يخوفهم بيوم القيامة وعذاب القبر وعذاب النار.
كان حزنها على طفلها عبد النور قد فجّر لديها موهبة الغناء .ومن قبل صلاة المغرب الى مابعد صلاة العشاء كانت تجلس في دكة بسقف بيتها المطل على ساحة القرية وتظل تغني لكأن قلبها جرح ينزف اغنيات .
كانت تجد ملاذها في الغناء به تلوذ واليه تلجأ وفيه تجد العزاء والسلوى وتنسى نفسها وهمومها وتنسى حتى جنونها لكن الفقيه(…)كان يُجنُّ بدلا عنها ،ويفقد السيطرة على نفسه ولشدة غضبه منها كان ماينفك يصرخ فيها ويلعنها من سقيفة بيته ويقصفها بوابل من اللعنات :
-لعنة الله عليك ياشجون ناشر مليون لعنة كم مرة قلت لك ياملعونة الغناء حرام!!
كم مرة قلت لك استغفري ربك وتوبي اليه واحمديه واشكريه على نجاة ابنك من الموت وانت تعاندي وتغني حتى وقت الأذان ووقت الصلاة!!
وكانت شجون ناشر تتجاهل الفقيه وتواصل الغناء لكنها احيانا كانت تنفجر في وجهه قائلة :
- تشاني يافقيه اصلي لربك اللي ارسل الجدري والله ما اصلي له
-تشاني احمد واشكر ربك الظالم اللي فقس عيون ابني عبد النور والله مااحمده ولااشكره
-تشاني اعبدربك اللي مارحم ابني الجاهل والله مااعبده.
كانت وهي تغني تنسى نفسها ،وتنسى انها مجنونة، وتنسى جنونها وتبدو في اجمل حالاتها .مُحِبّة ،حنونة ،عطوفة ،طيبة. لكنها حين يغادرها شيطان الغناء تجن وتدخل في نوبات جنون عنيفة و تقسو على طفلها الاعمى عبد النور وتضربه كلما سمعته يبكي وتقول له وهي تواصل ضربه بدون رحمة :
- ربي يكرهك ياعبد النور وخلقك اعمى واني اكرهك !!
و في نوبات وعنفوان جنونها تلك كانت شجون ناشر تغادر القرية وتهيم في الجبال والوديان وهي في حالة سعار. وتغيب لعدة ايام ،وتنام في الحيود والمغارات، وتغدو مثل ذئبة مسعورة .ولم يكن بمقدور احد حين تأتيها تلك النوبات ان يقترب منها لكنها بعد ان تذهب النوبة ويذهب سُعارُها ويعود اليها شيطان الغناء تعود الى بيتها والى طفلها عبد النور والى طبيعتها الحلوة المرحة حتى ان من يسمعها تتكلم او تغني لايخطر في باله مطلقا ان هذه المرأة هي المجنونة شجون ناشر.
كانت نوبة جنونها تستمر من اسبوع الى اسبوعين لكنهافي آخر نوبة لها استمرت اكثر من شهرين.
. كان جالسة في دكتها بسقف بيتها وكان شيطان الغناء قد هجرها وفجأة تناهى الى سمعها صوت بكاء طفلها عبد النور قادما من ساحة القرية وكان من عادتها كلما تعثر طفلها بحجر اواصطدم بجدار اووقع في حفرة وسمعته يبكي ان تشخص ببصرها الى السماء وتصرخ بكل صوتها قائلة: - تشاني ياربي اصلي لك والله مااصلي لك
تشاني احمدك واشكرك والله مااحمدك ولا اشكرك
تشاني ياربي اعبدك والله مااعبدك
ومثل كل مرة كانت بمجرد ان تفرغ شحنة غضبها تلك تحضن طفلها عبد النور وتجهش بالبكاء.
لكنها في عصر ذلك اليوم بدلا من ان تشخص ببصرها الى السماء كماهي عادتها وتفرغ شحنة غضبها خرجت تجري الى ساحة القرية حتى ان الاطفال عندما ابصروها امتلأت قلوبهم خوفا .يومها كان طفلها عبد النور يبكي من شوكة انغرزت في باطن قدمه وكان يبكي و ينادي امه ويتوسل اليها ان تنزع الشوكة من قدمه لكن امه التي كانت قد دخلت في نوبة عنيفة من نوبات جنونها بدلا من ان تنزع الشوكة من قدم طفلها الاعمى انتزعته من مكانه بعنف وجرّته بقسوة وجرت باتجاه البركه وهي تصرخ بكل صوتها :
-” الموت احسن لك واحسن لي ياعبد النور ..الموت احسن لك واحسن لي ياعبدالنور “
كانت على وشك ان تلقيه في البركة وتتركه يغرق لكن فتيان القرية تمكنوا من اللحاق بها وانتزاع طفلها عبد النور من بين يديها وحتى لاتُلحق الأذى به او بنفسها حبسوها في بيت الولي عقلان وتركوها هناك بعد ان قيدوها وكبلوا يديها وقدميها بنفس القيود والاغلال التي يكبلون بها المجانين .ولشدة حزنها على بنتها اعلنت امها مطرة عن مكافأة قدرها عشرة ريالات لمن يستطيع ان يشفي بنتها من جنونها .
وطمعا بالريالات العشرة قال لها الفقيه (…) : - القرآن يامطرة هو العلاج ولاعلاج غيره وابدى استعداده ان يعالجها خلال اسبوع .
وحتى يقنعها بصحة منطقه قال جازما :
-الجن يا مطرة عندما يسمعوا القرآن يخافوا ويهربوا.
كان الفقيه (…)يذهب مرتين في اليوم الى بيت الولي عقلان ليعالجها بالقرآن
وكانت شجون كلما ابصرته يدخل عليها تحشد كل غضبها لتنقض عليه وتنشب فيه مخالبها لكن لانها كانت مقيدة ومكبلة بالقيود ولاغلال لم يكن بمقدورها ان تفعل اكثر من البصق .
كانت تبصق في وجهه وتقول له وهي تضحك :
- وجهك يافقيه (…) مثل قفا دست العصيد .
وكان الفقيه (…) من شدة غيضه ينهال عليها ضربا ب ” الشابوك ” وهو سوط معمول من عضو الثور يجلدهابه ويقول لها وهو يواصل جلدها :
-” ربنا قَوْداري بك ياشجون. اعمى ابنك عبد النور وحرمه من رؤية النور وانتي ربنا جنن بك”
ولم يكن يتوقف عن جلدها الابعد ان يشفي غليله منها، وبعد ان ينبجس الدم من جسدها ويغمى عليها. وكان يشعر وهو يجلدها ب ” الشَّابُوك “بأنه الملاك الذي اختاره الله لتعذيب شجون الكافرة .وفي ظهر ذات يوم اقبلت امها مطرة الى بيت الولي شعلان وراتها مطروحة ارضا وجسدها المجلود ينزف دماً. ولشدة مااوجعها منظر ابنتها اجهشت تبكي بالم وحرقة وخرجت من بيت الولي بوجه مغسول بالدموع وبقلب مليئ بالغضب والالم وراحت تصرخ بكل صوتها تنادي اهل القرية وتطلب منهم ان يشهدوا على الفقيه(…)و يذهبوا الى بيت الولي عقلان ليشاهدوا بعيونهم ماالذي فعله الفقيه بإبنتها شجون!! وكان كل من يذهب الى بيت الولي عقلان يكاد لايصدق ان هذه المرأة المحطَّمة والمُكوَّمة في زاوية بيت الولي عقلان هي نفسها شجون ناشر. وحين كان اهل القرية يعاتبون الفقيه (…)ويلومونه على قسوته يرد قائلا بأنه لم يكن يضرب شجون ناشر وانما كان يضرب الجني ليرغمه على الخروج من رأسها ومغادرة جسدها .
وعندما ذكّروه بقوله من ان الجن يهربون عند سماعهم القرآن قال مبررا جريمته : - “الجني الذي داخل راس شجون ناشر جني كافر كلما يسمع القرآن يتفل لاوجهي “
بعد مرور عام على غيابه وصل الدرويش عبد الحق ممتطيا “بغلة النذور” وكانت فازعة هي من استقبلته في بيتها وهي التي حدثته عن جنون شجون و اخذته الى بيت الولي عقلان ليرى إن كان ثمة امل في شفائها من جنونها. وكان اول شيئ فعله الدرويش عبد الحق هو انه حررها من قيودها واغلالها واخرجها من حبسها وجاء بها الى بيت فازعة وبدأ يعالجها علاجا نفسيا وبطريقته.
وفي خلال اسبوعين اثنين استعادت شجون صحتها وعافيتها النفسية والعقلية وعادت الى طبيعتها تضحك وتمرح وتغني لكنها وقد تعافت لم تنس ان الله هو من ارسل الجدري وتسبب في عمى طفلها عبد النور.
كانت تلك الفكرة قد تسلطت عليها حتى انها وقدتعافت من مرضها راحت تسال الدرويش عبد الحق وتقول له :
-” لمو الله يكره عباده وهو خلقهم !!لوكان مايخلقهمش احسن .
قال لها الدرويش عبد الحق:
- من قال لك ياشجون ان الله يكره عباده !!الله خلقهم وخلق كل شي بقوة الحب .وهو يحب عباده اكثر من حبك لولدك عبد النور. ولولا حبه لنا وشوقه لرؤيتنا ماكان خلقنا .
قالت شجون معترضة على كلام الدرويش : - لوهو يحبنا لموا ارسل لنا الجدري !!
وشعر الدرويش عبد الحق بأن تصور شجون عن الله هو سبب معاناتها وانها قد تُجَنّ ثانية إن هو لم ينزع من رأسها فكرة ان الله هو من ارسل الجدري و تسبب في عمى طفلها .
وحتى يوضح لها الفرق بين الله الذي يتصوره الفقيه(…)وبين الله كمايراه هوقال لها :
-الشخص الذي يكره الناس ياشجون وقلبه مليان كراهية يتصور الله مممتلئ كراهيه مثله
لكن الحقيقة هي ان الله لايكره عباده وانما يحبهم ويحب ان يراهم سعداء
قالت تعترض على كلامه بأنه اذا كان الله يحب ان يرى عباده سعدا ء لماذا يطلب منهم ان يخافوه ولماذا كلما شعرت بالفرح والسعادة وراحت تضحك او تغني يغضب الفقيه (…) ويطلب منها ان تخاف الله وتستغفره !!
وشعر الدرويش عبد الحق بأن شجون ناشر تهرب من الارض الى السماء، ومن مواجهة الفقيه الى مواجهة الله. وانها بدلا من ان تكفُر بالفقيه (…)كفرت بالله. وحتى يعيدها من السماء الى الارض قال لها :
-الذي يكرهك ياشجون هو الفقيه (…) وليس الله والذي يغضب منك حين تضحكي او تغني هو الفقيه (…) والذي يقول لك بان الضحك والغناء حرام هو الفقيه (…)وانت ياشجون تخلطي بين الله وبين الفقيه(…)لكن الله مش هو الفقيه (…) الله يحب ان يرى عباده سعداء ومخلوقاته سعيدة تفرح وتمرح وتغني وترقص وتضحك. واردف يقول :
اضحكي من قلبك ياشجون لان الله عندما يسمع ضحكتك يعرف بأنك سعيدة ويفرح لسعادتك
وبعد ان ضحكت من قلبها قالت شجون بانها تجد سعادتها في الغناء وسالته : - قل لي ياعبد الحق الغناء هو حلال والاحرام !!
وقبل ان يجيب على سؤالها طلب منها ان تغني حتى يقول لها ان كان حلالا ام حراما
ورفعت شجون عقيرتها بالغناء.
قال لها الدرويش عبد الحق وقد سحره صوتها : الله ياشجون وهو الخلاق المبدع عندما خلقنا وهبنا مواهب لنكون خلّاقين ومبدعين مثله . انت مثلا وهبك صوت جميل لتغني والحرام هو ان تدفني موهبتك وتحبسي اغنيتك وتحرمي اهل قريتك من نعمة سماع صوتك الجميل .