- عبدالكريم الرازحي
صباح اليوم التالي كانت القرية كلها قد عرفت بان وكيل الشريعة قتل قاسم الموسِّح زوج فانوسة والوحيد الذي لم يكن يعرف هو وكيل الشريعة .
لقدنام وهو بطل ونامت مِسْك وهي زوجة البطل. وفي الصباح عندما عرفت بان زوجها قتل قاسم الموسح ولم يقتل الميت لم تجرؤان تصارحه وتقول له الحقيقة.
كان قدنهض منتعشاًومعنوياته عالية وقرّبت له مسك الصبوح فتة باللبن والسمن والعسل واكل بشهية وعندما انتهى من تناول صبوحه خرج من دون ان ياخذ بندقيته فقد كان على يقين بأنه قتل الرجل الميت واجهز عليه ولم يعد ثمة مايخيفه حتى انه يومها وهوفي طريقه الى بيت الحكومة لم يمر من خلف القرية وانما مر من وسطها ومن امام بيت الميت سلطان الملح. لذلك لم يجد احدا في طريقه من اهل القرية واولئك الذين ابصروه والتقوه وسلموا عليه لم يتجرؤوا يقولوا له الحقيقة حين راح يتبجح امامهم بقتله الميت .
كانوا يخافونه ويهابونه ويحتقرونه ويعرفون بأنه سريع الغضب واسرع مايكون الى اختلاق العداوةوافتعال المشاكل لذلك التزموا الصمت وراحوا يصغون اليه ويهزون له رؤوسهم. وعند وصوله الحكومة قال يتبجح امام الحاكم :
- “خلاص ياحاكم قتلت الميت والباقي علوك “
وطلب منه ان يرسل العسكر ليحملوا الكنز اليه ويعطيه نصيبه.
قال له الحاكم وهو يلتفت اليه بغضب :
-” بلاش خرط ياحمود هذا قدك تشتي توقع امام بدل الامام اومِه!!
وكان لدى الحاكم يقين بان قتل الموتى والجن او القبض عليهم وحبسهم عمل لايقدر عليه سوى الامام نفسه لذلك لم يصدقه ورفض ارسال عساكر لاقتحام بيت الميت سلطان الملح.
ومن بيت الحكومة عاد وكيل الشريعة وهو منكسر وعند عودته وهو على تخوم القرية ظهر له الميت من جهة المقبرة فراح يجري ويصرخ بكل صوته والميت يجري بعده ولشدة ماكان مرعوباٌ اخطأطريقه ولم يمض في الطريق الذي يقوده الى الى بيته وانما مضى من طريق يقوده الى حتفه.
وفي صباح اليوم التالي عندما وجدوا جثته اسفل الهيجة راح الناس يتساءلون عن السبب الذي جعل وكيل الشريعة حمود السلتوم يهرب من الميت الى طريق الموت وهو العارف بالطرق!!
قال بعضهم : الخوف اعماه
وقال آخرون :قَي يومُه
وقالت المسفلة غيوم عالم لنساء القرية بان الميِّت هو الذي املى عليه السير في الطريق المؤدي الى الهاوية :
-” يانسوان موجزع برضؤه الميت هو اللي جزّعه طريق الهيجة”
وفي قاع الهيجة التي اطلق عليها الاهالي فيما بعد (هيجة السلتوم )استقرت جثتان :
جثة المقتول قاسم الموسح وجثة القاتل حمود السلتوم .
وكانت المصادفة انهما سقطا في الوقت نفسه مابين المغرب والعشاء .
يومها قال اهل القرية بان الميت انتقم لزوج فانوسة
لكن فانوسة بعد موت قاتل زوجها لم تفرح وانماراحت تبكي زوجها ومن حين موته توقفت عن اشعال الفوانيس ولم يعد ثمة ضوء يلوح في بيتها الذي احتله الظلام و كانت امها تلومها وتقول لها : - يابنتي يافانوسة لمو بيتك غدرة اين الفانوس الكبير !!اين الفوانيس !!
وكانت ترد على امها قائلة : - “لمن الصِّي الفانوس الكبيريمّا !!ولموا الصُّوه !!
كنتو الصُّوه لقاسم وكنا نسمر بالديوان كل ليلة و اتمنى لواليوم كله ليل من غير شمس تشرق ومن غير نهار..قاسم يما كان يحبني ويفرِّحني ويضحِّكني وكانت البيت وهو هلُّه كلِّه ضوءوكله فوانيس.. وبالليل لماكنتواطلع السقف موتحسبي كنتو ابصر نجوم بالسما لايما كنتو ابصر السما مليان فوانيس ويتخايل لي القمر مثل الفانوس الكبير اللي بالديوان”
كان زوجها قاسم قد احبها منذ طفولته وبعد ان كبر وسافر عدن يشتغل كان يشتري فوانيس ويرسلها الى بيتهم في القرية وكانت امه فضة تكتب له وتنصحه ان يحتفظ بفلوسه بدلا من ان يصرفها في شراء فوانيس .لكنه من حبه ل فانوسة احب الفوانيس وعشقها واصبحت هوايته جمع الفوانيس. وكان كلما ظهر صنف جديد من الفوانيس في السوق سارع بالشراء حتى لقد ظن البعض من ابناء قريته بانه ينوي فتح محل لبيع الفوانيس وعندما عاد ليتزوج فانوسة شاهد اهل القريةيوم وصوله كمية كبير من الفوانيس فوق ظهور الحمير التي افرغت حمولتها في الساحة وكانوا يستغربون ويتعجبون ويتساءلون : - لمن كل هذي الفوانيس !!
والبعض يعلق قائلا : - “مهر البنات قروش ومهر فانوسة فوانيس “
ومن بين الفوانيس المختلفة الاشكال والاحجام كان هناك فانوس كبير هو الاكبر بين الفوانيس وكان الاطفال قدراحوا يحملقون فيه مدهوشين ومستغربين ومتعجبين من كبر حجمه حتى لقد اعطوه اسما وسمّوه : ابوالفوانيس
و على ضوء تلك الفوانيس التي راح قاسم يجمعها خلال سنوات عمله في عدن تم زفاف فانوسة وكان قاسم قد تعمَد ان تُزف ليلا ليستعرض فوانيسه اوربما ليستعرض حبه لتلك التي خطفت قلبه وهو لم يغادر بعد طفولته .
ليلتها كان بيت قاسم الموسِّح يعج بالفوانيس وبالاضواء :
فوانيس بالغرف وفوانيس بالدرج والكُوَى والرفوف وفي سطح البيت وكان الفانوس الكبير معلقا في الديوان تحيط به كوكبة من الفوانيس الصغيرةوليلتهافقط وجد رجال وفتيان القرية جوابا لسؤالهم : - لمن كل هذي الفوانيس؟
لقد عرفوا بانها فوانيس الحب وبان قاسم من حبه لفانوسة حشد كل هذه الفوانيس لتكون في استقبالها ليلة زفافها وحتى فانوسة نفسها برغم معرفتها المسبقة تفاجأت بكل تلك الفوانيس وبدت مندهشة من كثرتها وشعرت بفرح يغمرها وفرحت اكثر عندما سمعت قاسم يقول لها وهو يختلي بها :
-” انت فانوسي يافانوسة “
لكن اكثر ماافرحها هو ذلك المديح الذي سمعته بعد ان نضت عنها ملابسها واستلقت امامه وهي بكامل عريها ليلتها كادت تجن من الفرح وهو ينحني فوقها مثل قوس ويمدح فانوسها الناعم الاملس والمبخَّر :
-” فانوسك يافانوسة اجمل من كل الفوانيس”
لحظتها فقط اكتشفت فانوسة بان ذلك الجرح الذي يقبع بين فخذيها ويسيل منه الدم عِدّة ايام في الشهر ليس جُرحاً وانما هو فانوسٌ سحري يسحر الرجال وقالت تحدث نفسها:
-” نحنا النسوان معانا فوانيس والرجال معاهم الصليط “
ليلتها وقد دخل عليها ودخل فيها وكرع زيته داخل الفانوس ضوّت فانوسة وشعر قاسم بان الضوء الذي يصدر عنها اقوى من اضواء الفوانيس مجتمعة .لكن فانوسة التي احبت قاسم من طفولتها تضاعف حبها له بعد ليلة الدخلة وبقدر ماكانت تحبه كانت امه فضّة تكرهها حتى انها من شدة كراهيتها لها قالت لنساء القرية ليلة العرس بأن فانوسة سوف تقتل ابنها : - “هذي البنت يانسوان شتقتل ابني “
وبعد العرس بايام اشاعت بين نساء القرية بأن فانوسة فتاة شهوانية تغصب قاسم ابنها على الجماع وتجعله يجامعها غصبا عنه وقالت لهن وهي تبكي : - فانوسة يانسوان هَوِر لاتشبع من الجماع ولاتقنع .تلصي مثل الجمرة ..وتمص دم قاسم مثل البُرَّام وتغصبه يجامعها ولوهو مريض.
وكانت كل يوم تحكي لهن وهي تبكي وتذرف الدموع حكاية عن فانوسة وعن ابنها الذي صار مثل الخاتم في اصبعها وكيف انه يعصيها ولايسمع كلامها ولايكلمها من حين تزوج فانوسة ولايلتفت اليها
وذات يوم قالت لهن وهي تهدد وتتوعد : - قاسم ابني يانسوان خرج من بطني والله لو تشُلُّه فانوسة مني لاشَقِّي لوكيل الشريعة حمود السلتوم واخلوه يحبسه والا يقتله .
–