- عبدالكريم الرازحي
استيقظت قرية العكابر على خبر موت الطفل فُرَيْس فكان ان شاع الرعب، وضج الناس، وامتلأت صدورهم بالغضب .ومن شدة غضبهم تجمعوا في ساحة القرية ،وراحوا يهددون بالانتقام للطفل فريس. ووحدها ام فريس لم تتهم الميت، ولم تقل انه السبب في موت ابنها، وانما القت باللوم على اترابه الاطفال الذين سخروامنه ،وضحكوا ،وكذبوا عليه .
وقالت يومها لنساء القرية وهي تبكيه :
- فريس مات من القهر يانسوان.. مات مقهور
وكان اكثر مايبكيها هو انه مات وهو يشتهي حلوى الطحينية :
-” مات وهو خاور طاحونية “
وفيما برّأت قُرُنْفُلة الرجل الميت ..شهد الاطفال ضده ،وقالوا بأن الميت هو من تسبب في موته . لكنهم قالوا ذلك بطريقةمرعبة ارعبت السامعين :
-” الميت شفط دم فريس شفط “
وبعد ان ادلى الاطفال بشهادتهم تعاظم الخوف من الرجل الميت ،وخُيِّل للامهات بأن الميت سوف يشفط دم اطفالهن مثلما شفط دم الطفل فريس .
وكان ماجعلهن يتوجَّسنَ خوفاً هو ان اطفالهن كانوا عندمرورهم بجوار بيت الميت تشحب وجوههم، وتبدو شاحبةً،مُصفرّةًبلون الوَرْس. ولشدة خوفهن على اطفالهن رحن يُولوِلنَ في سطوح بيوتهن، ويتهمن غصونا بأنها السبب في عودة الرجل الميت الى القرية، ويطلبن من المجتمعين في الساحة ان يفعلوا شيئا، ويقترحوا حلا ، وكان الحل في رايهم هو ان يغيروا طريقهم ويتوقفوا عن المرور من امام بيت الرجل الميت .
ومن فوق بيت الولي شعلان صاح صالح الدُّقْم بصوته القوي كصوت المدفع :
-“الحاضر يعلم الغايب من بكرة ممنوع الجزعة من قدام بيت الميت”
ومن يومها غيروا طريقهم، واصبحوا يمرون في ذهابهم وإيابهم الى بيوتهم من خلف القرية، ومن طريق شبه دائري بدلا من الطريق القديم والمختصر .
وفي خلال اسابيع كان الدرب الذي يمر من امام بيت الرجل الميت قدمات هو الآخر، وانمحت معالمه، ولم يعد احدٌيمرُّ منه سوى البهائم. لكن ذلك لايعني بان مخاوفهم من الرجل الميت انتهت او خفّت .وانما العكس هو الذي حدث ازداد خوفهم منه، وتعاظم، وكانو وهم يسيرون في دروب القرية يستشعرونهُ، ويشعرون بحضوره ،ويحسون بوجوده قريباً منهم لكأنه يترصّدهم ،ويسير خلفهم ، ويلاحقهم وقالت المُسَفِّلة غِيُوم عالم : - “الميت مثل الكلب اللي يهرب منه يجري بعده “
ومثلما يستشري الوباء استشرى الخوف من الرجل الميت، وصار الكل خائفامنه. ولشدة خوفهم طلبوا من وكيل الشريعة حمود السلتوم ان يحمل شكواهم الى الحكومة ويطلب منها ان تتدخل لإنقاذهم .وكل يوم كان وكيل الشريعة يتردد على الحكومة ،ويشكو الميت الى الحاكم ،وينقل اليه اخباره اولا بأول .حدثه عن موت الطفل فريس ،وعن خوف اهل القرية على اطفالهم، واخبره كيف انهم غيروا طريقهم وكيف ان الميت بعد ان غيروا الطريق راح يلاحقهم ويتعقبهم ويثير الخوف في نفوسهم. وحتى يقنع الحاكم بالتدخل كان في كل مرة يغريه بالكنزلكن الحاكم رغم طمعه بالكنز كان خائفا وكان يرد على وكيل الشريعة قائلا :
-“لوالميت حي ياحمود كنا قبضنا عليه وحبسناه والا قتلناه وانقذناكم من شره لكنه ميت “
كان وكيل الشريعة يذهب في الصباح الى بيت الحكومة ويعود الى بيته في المساء. وكان الميت يظهر له في الوقت الفاصل بين المغرب والعشاء . كان يستشعرهُ، ويحسُّ بوجوده خلفه ،ويشعر بقشعريرةرعب تجتاح جسده .ومن حين بدأ الميت يلاحقه اصبح يخرج من بيته ومعه بندقيته. وكان يقول متبجحا امام اهل القرية :
- “اذا الحكومة ماتقدر تضبط الميت حكومتي بندقي”
وذات يوم وهو في طريقه الى بيته عائد ا من الحكومة تفاجأ بالميت يسير خلفه لكنه هذه المرة لم يحس به مجرد احساس وانما كان قد ابصره بعينيه وهو قادم من جهة المقبرة. وخوفا من ان يلحقه للبيت ،ويُلحق به الاذى. جرى مسرعاً ودخل بيته ،وأو صد الباب خلفه، وصعد يجري مرعوباً الى السقف ومن سقف بيته راح يوجه بندقيته صوب الرجل الميت ويضغط على الزناد :
طااااااااخ
وبعدها راح يصرخ بشكل هستيري :
قتلته، قتلته ،قتلته.
وحين سالته النسوة اللاتي كن في سطوح بيوتهن عمن هو الشخص الذي قتله قال لهن - ” قتلتو الميت.. قتلتو سلطان الملح .
وسرعان ماراح الخبر ينتقل من سطح الى سطح ومن بيت الى بيت : - حمود السلتوم قتل الميت قتل سلطان الملح “
ومن شدة الفرح بمقتل الرجل الميت راحت النسأء يزغردن في سطوح بيوتهن، ويثنين على وكيل الشريعة الذي انتقم للطفل فريس. لكن قرنفلة ام فريس لم تفرح ،ولم تزغرد ،وانما راحت تنتحبُ وتسفحُ ماتبقى لها من دموع .
كانت نساء القرية بعد ان ينتهينَ من صلاة المغرب يصعدنَ الى سطوح بيوتهن، وهن بقمصان صلاتهن، يتجاذبن اطراف الحديث. وكانت فانوسة بنت الحاج راوح في غرفة نومها تتزين وتنتظر عودةزوجها قاسم المُوَسِّح وكان قدذهب قبل المغرب الى بيت المُقَوِّت عبد المَنَّان لشراء قات للسمرة .كانت فانوسة مازالت عروسا ولم يكن قد مضى على زواجها سوى اسبوعين اثنين .وعندما تناهى الى سمعها صوت النساء يزغردن في السطوح صعدت الى سطح بيتها وراحت تسال جاراتها عمايجري، وعن سبب فرحتهن، فقلن لهابصوتٍ مفعمٍ بالفرح :
-“وكيل الشريعة حمود السلتوم قتل الميت “
وفرحت فانوسة بخبر مقتله والسبب ان الميت كان قد وصل القرية في يوم عرسها فخطف الاضواء منها ومن زوجها وخطف الفرح .وبدلا من ان تفرح ويفرح اهل القرية بعرسهما بدوا مرعوبين وكل حديثهم عن الميت وعن زوجته غصون.
ليلتها راحت تجاري النساء في زغرداتهن لكنها لم تكن تزغردُ مثلهن ..وانما كانت تغرِّد كما شوقاٌ الى زوجها قاسم وكأنها تناديه ان يسرع في عودته ليبدءا سمرتهما .
كانا يسمران كل ليلة في الديوان على ضوء الفانوس الكبير وكانت فانوسة تُجنُّ بالسمر وتفرح به ولم يكن ثمة جمال عندها يوازي جمال السمرة.وكان اجمل مافي السمرة هي تلك اللحظة التي تتسلل فيها اصابع زوجها قاسم من تحت ثوبهاوتلامس بشرتها وتتسلق ساقيها مثل عنكبوت .
كانت حين تشعر بعنكبوت اصابعه يتسلق ساقيها ويبلغ ركبتيها تجتاحها قشعريرة لاذعة وتقول له وهي تحاول وقف لعبته :
- “خزن ياقاسم اني فدالك مش وقتك”
يقول لها قاسم- وقدراح عنكبوت اصابعه يثب من ركبتيها ويزحف فوق لحم فخذيها -: - موعملتوا بك
تقول له فانوسة : ” قشْبَبْتُو وخلَّيتني اقَشْبِبْ!! ” وعادك تقول : موعملتو
يقول لها : مُوْفي لو قشببتي !!
تقول له : اني فانوسة ياقاسم ولما تلمسني حقي الفانوس يلصي .
يقول لها : الفانوس مايكون مليح الالما يكون لاصي
عندئذ تمثل فانوسة كأنها زعلانة منه وتقول له : - ذلحين مادام لصّيت فانوسي ياقاسم علَوك تطفُّوه والامِنُو قال لك تلصَّوه وانت مخزن!!
وكان قاسم يُستَثَار حين تعاقبه فانوسة، ويفرح بالعقاب . لكنه بعد ان ينتهي من اطفاء الفانوس ويرجع الى مجلسه ومتكئه لايلبث ان يعود الى نفس اللعبة لعبة اشعال فانوسها الذي كان يشتعل بمجرد اللمس. وهكذا كل ليلة. هو يُلصِّي لها الفانوس وهي تلومه على اشعال فانوسها وتعاقبه وتحكم عليه يطفيه . وكانت تلك اللعبة التي يلعبانها في الديوان وقت السمرة تُفرحها وتُسكرها وتستمتع بها اكثر من تلك التي يلعبانها في غرفة نومهما.
وفي تلك الليلة التي قال فيها وكيل الشريعة بأنه قتل الرجل الميت كانت فانوسة بكامل زينتها وكانت قد اشعلت الفانوس الكبير وتنتظر عودة زوجها قاسم ليشعل فانوسها الصغير والجميل.
في الوقت الذي كانت فيه النساء يزغردن في السطوح كان رجال وفتيان القرية في بيت وكيل الشريعة يسالونه عما جرى!! وكيف تمكن من قنص الرجل الميت!! واين؟ وفي اي مكان؟ وطلبوا منه ان يحكي لهم القصة من اولها الى آخرها.!!
وكان ان راح وكيل الشريعة يحكي لهم حكاية قتله للرجل الميت بزهو وخُيَلاء و هم يصغون اليه مدهوشين ومعجبين وكان اكثر ماادهشهم هو انه بالرغم من الظلام صوّب عليه بدقة، وقتله من اول طلقة .
ولشدة فرحتهم بمقتل الرجل الميت راحوا يثنون عليه، ويمدحونه، ويتملقونه. وراح هو يثرثر عن عمله البطولي، وعن الخدمات والمنجزات التي قدمها، ويقدمها لاهل قريته الذين بحسب تعبيره لايحبونه ،ولايقدرونه، ولايعترفون بجمايله ،ولايعطونه مايستحقه مقابل تمثيلهم امام الحكومة ومقابل كل تلك الخدمات التي يقدمها لهم .وكان اثناء حديثه معهم ينتقل من حال الى حال.من جنون العظمة، الى جنون الانحطاط. احيانا يتكلم بروح الزعيم المنقذ ،واحيانا بروح الوضيع المتسول .احيانا يتحدث كبطل، واحيانا كمهزوم. وهم يصغون اليه منتشين بحديثه عن بطولاته، وعن مواقفه القوية امام الحكومة .اماحين يتبرّم منهم ويشكو فكانوا يعترفون بتقصيرهم تجاهه ،ويعتذرون له .ويعِدُونه بانهم بعد ان انقذهم من الرجل الميت سوف يجزلون له العطاء ،ويعوضونه، ويعطونه مايستحقه من التقدير والاحترام .ليلتها كانوا كلما همُّوا بالخروج طلب منهم البقاء ولم يخرجوا من بيته الاعندما تناهى الى مسامعهم تلك الصرخات المرعبة والمريعة التي اخرجتهم من الوهم الى الحقيقة ومن الملهاة الى المأساة.
فيما كان رجال وفتيان القرية يصغون لصوت وكيلهم وممثلهم امام الحكومة كانت المسفلة غيوم عالم سفيرة القرية في العالم السفلي، وممثلتهم في مملكة الموتى تشكّك في مقتل الرجل الميت وتقول لنساء القرية :
- الرصاصة يانسوان تقتل كل حي معه لحم ومعه دم رجّال كان، والاربْح، والاكلب. اماالميت كيف شتقتله وهو كله روح لالحم معه ولادم!!”
و نفت ان يكون وكيل الشريعة قد قتل الرجل الميت (سلطان الملح )و لم تكتف بنفي قتله وانماطلبت من رجال وفتيان القرية ان يخرجوا ويبصروا من هو سيئ الحظ الذي قتله وكيل الشريعة حمود السلتوم !!
وبعد كلام المسفلة غيوم عالم عمّ القرية صمت مرعب فجّرته فانوسة بصرخة اكثر رعبا وصاحت قائلة بكل صوتها : - “غيروا علي يااهل القرية وكيل الشريعة قتل زوجي”
قالت ذلك ونزلت من سطح بيتها وخرجت تجري ومعها الفا نوس الكبير وراحت تعبر الدرب الذي يعبره زوجها وهي تُعْوِلُ وتُوَلوِل. ومن سطوح بيوتهن ارتفعت صيحاتُ النساء ورحن ينادينها باصوات مثخنة بالفزع وبالوجع ويطلبن منها ان تعود : - يافانوساااااا.. ارجعي يافانوسة يافانوساااااااا ارجعي يافانوسة
لكن فانوسة راحت تمضي في طريقها ومالبثت الريح ان اطفات فانوسها وحملت صوت عويلها الى كل بيوت القرية
–