- كتب: محمد ناجي أحمد
إزاء الطرف الحوثي الذي يبدو متماسكا في قراره العسكري وغرفة عملياته الحربية ومشروعه المذهبي الطائفي، الذي يتشعب في التعليم والحياة العامة والمؤسسات والمدارس والنوادي والأحياء والحارات والقرى والوزارات وكل ما تم السيطرة عليه من إرث الدولة المنهارة، نجد طرف الشرعية مجرد لافتة لعديد تناقضات مفككة ومحتقنة بالعداءات والثارات البينية، المتوارثة والطارئة خلال حرب السنوات الأخيرة، التي شكلت تطويقا متدرجا وطويل النفس لصالح الحركة الحوثية.
ليس هناك جيشا موحدا للشرعية وإنما مجموعة أتابكة حرب يكيدون لبعضهم ويتفقون وفقا لمنافعهم الضيقة، فيما الحوثي يتقدم من بين تلك الشقوق والجروف، مما يجعله خارقا في ذاته، والحقيقة أنه يتضخم بسبب خصم يتآكل بنيويا، وتأتي الحرب المُزمِنة لتجعل سقوط الشرعية بفعل تناقضاتها الداخلية، طالما أنه لا استراتيجية لحركة الشرعية ولا التفاف حول مشروع وطني جامع للقدرات والمشاعر والمصير.
في مشهد كهذا تصبح الدعوة للمصالحة الوطنية ليس أكثر من قَبْر وهزيمة ناعمة للشرعية.
المصالحة الوطنية تبنى على جامع وطني، لا على تعايش بين أقنعة الطائفية، فديمومة الطائفية من خلال مسمى المصالحة الوطنية هو في الحقيقة ديمومة لنزيف الوطن اليمني، وموت مستدام لعقود قادمة.
هناك اقنعة طائفية مذهبية وجهوية ومناطقية، كيف يمكن ان تكون المصالحة بينها مشروعا وطنيا؟
إنها في الحقيقة ستكون مصالحة طائفية، أي استدامة للتعايش الطائفي.
المصالحة الوطنية تبنى على قوى تتصارع اجتماعيا واقتصاديا على مصالح اجتماعية، والصراع اليوم بين منطلقات أسطورية تزعم أن الحكم وصية من الله، وهويات جهوية قاتلة تزعم أنها جنوب وليس يمن، وتخبط إخواني ما بين المناطقية والمذهبية السنية، بما يعكس عمى في الرؤية والتصور. فكيف أن يؤدي مشهدا كهذا إلى توافق يجمع حول وطنية يمنية جامعة؟
إذا كانت هذه القوى تعبيرا عن هيمنة إقليمية ودولية فالتوافق بينها يصبح مسألة خارج الإرادة اليمنية.
لم تتولد إلى اليوم قوة منظمة تحمل مشروعا وطنيا ، هناك طرف طائفي وهشاشة شرعية تجمع بين متناقضات ضيقة وعمى وطني.
بالتأكيد فالصراع وإن كانت أقنعته طائفية تتوسل الأساطير وتوظف الأوهام هو في جوهره صراع اجتماعي سياسي، يدار بما يخدم الولايات المتحدة وبريطانيا، وإن بأيديولوجية إمامية وجهوية. بمعنى أنّ أقنعة الطائفية تعبير عن ذلك اللاعب الدولي والإقليمي أكثر منها تعبيرا عن قوى ومصالح اجتماعية محلية، وإن دغدغت ووجهت عواطف تلك القوى.
باعتقادي أن الممكن وفق حيثيات الواقع، وبعد ترسيم الحدود كأمر واقع بين المليشيات المحتربة هو تعايش بين هذه الأقنعة تحت سقف ورئاسة فخرية مماثلة في أحسن احوالها لما هو قائم بلبنان.
هناك فرق بين طبيعة الصراع ستينيات القرن العشرين، الذي كان بين مشروع وطني جمهوري تحرري وبين مشروع ملكي رجعي ، سواء في تمثلاته المحلية والإقليمية والدولية.
كان هناك ضفتان وخطابان وقطبان دوليان، أما اليوم فالصراع بأقنعته تعبير عن سيطرة القطب الأمريكي ووصيفه البريطاني. وبتوظيف للخمينية السياسية بما يخدم القطبية الدولية واستدراج إيران لتغرق في مستنقعها المذهبي في اليمن. يتم هندسة اليمن طائفيا بما يتناقض مع التحولات الاجتماعية طيلة العقود الماضية، أي الارتداد باليمن إلى ما قبل المشروع الوطني والدولة الوطنية.
هل تمتلك “الشرعية” استراتيجية للحرب إزاء استراتيجية طائفية مذهبية وجهوية حتى نستقرئ من خلالها ممكنات المصالحة الوطنية والسلام الوطني؟
في مصالحة الأمس، مايو 1970 كان هناك حيز للذاتية اليمنية، أن تكون جزءا من شروط المصالحة والتسوية، امّا اليوم فالمصالحة ستكون التهاما لصالح طرف طائفي؛ إملاء على أدوات محلية لا تمتلك مشروعا وطنيا وبالتالي تصبح المصالح قهرا لتطلعات الناس وبناء دولتهم الوطنية الديمقراطية الوحدوية.
قبل الحديث عن مصالحة وطنية، هل يمكن لواقع الشرعية المتنافر ، والذي يعاني من نزيف داخلي طيلة حرب السبع السنوات داخل مكوناتها من جهة وفي الحرب البينية مع الحوثية من جهة أخرى- أن تتصالح فيما بينها، وتتفق في السياسة والجيش والاقتصاد وتصورها لفعل المقاومة الوطنية؟
أن يتم رفع مطلب “المصالحة الوطنية” وسط نزيف الوطنية اليمنية في ظل غياب وحدة الموقف، داخل صف الشرعية لن يكون سوى توسيد لتلك الشرعية كي تثوي في قبرها الأخير.
المسألة شبيهة بحرب 1994م، فحين رفض الحزب الاشتراكي اليمني عام 1993 إلغاء التوازن بين المؤتمر الشعبي والحزب من خلال الدمج في تنظيم سياسي واحد كانت الحرب إزالة لذلك التوازن والتعدد، وهو ما اتضح في المستقبل بأنه كان توجها قاتلا للمؤتمر الشعبي العام، الذي وجد التناقضات داخل مظلته هي من أسقطته من خلال الاحتشاد والاستقواء بالشارع والمسيرات التي سميت بالمليونية.
التوازن الاجتماعي والسياسي في ظل الوحدة هو من يحقق شرط المصالحة ووطنيتها.
الحديث عن مصالحة وطنية دون توفر شروطها يصبح تعزيزا لمأساة المجتمع … هنا تصبح دوافع التفكير بالمصالحة الوطنية بقدر ما هي نفعية لدى دكاكين المجتمع المدني وناشطيه هي رغبوية لدى من أنهكتهم المعيشة والغلاء والأمراض وانعدام الخدمات، أي أنها وهي تستغل واقع الناس وانهيار معاشهم بإلقاء وهم السلام ليتعلقوا به، فإنها في المحصلة حصاد ناعم لما لم تستطع سنوات الحرب السبع اغتنامه لصالح المشروع الطائفي.