- عبدالكريم الرازحي
في العصر الذهبي للحمير كان الحمَّارة نجوم الفن والغناءوكانت لهم شهرة وصِيت واصواتٌ جميلة وكانوا عندمرورهم بالقرى، اوقريبا من الينابيع والآبار. حيث تتجمع النساء والصبايا تراهم يصدحون بالغناء ويلفتون انتباههن بجمال اصواتهم، وخفة ارواحهم ،وسرعة حميرهم. ومن بين جميع الحمّارة كان الحمّار عبد الجليل الشوافي رغم كبر سنه يملك صوتاً ذهبياً. وكان كلما مر بجوار قرية، اوبئر، اونبع ماء. يشعر بعطشٍ للغناء . وقيل بانه في شبابه كان يسحر النساء بصوته، ويوقعهن في شباكه .وعندما سمعت سعيدة صوته لاول مرةسالت امها وقالت لها :
- منوذا اللي يغني يمّا؟
قالت لها امها جُلجُلة بأنه عبد الجليل الحمّار
قالت سعيدة- وقد سحرها جمال صوته- : - “صوته مليييييح يمّا ” وسالتها عن عمره:
- كم عمره يما؟
قالت لها امها :
-“كبير يابنتي قو شيبه” - اين بلاده ؟
- “بلاده بعيد بوادي الشويفة قريب من الراهدة “
- وموجابه يمّالاعندنا ؟
- “الرزق يابنتي.. يكري حماره على “المعَادِنَة”
قالت سعيدة تحدث نفسها وهي تتنهّد : - “ليته يتزوجني ”
بعدئذٍ صارت تعرفه من صوته.. وكانت عندمروره تصيخُ السمع كيما تحفظ اغانيه وتلتقط الحانها .واحيانا كانت تستوقفهُ وتسالهُ عن معنى بعض مفردات اغانيه!! وكان هو قدعرف من امها جلجلة بأنها موهوبة في الغناء تغني في حفلات النساء وفي الاعراس.
وفي عصر ذات يوم وهو في طريق عودته سمعته ينادي على امها ويقول لها:
-” ياجلجلة معي لك خبر مليح”
قالت جلجلة : - خير ياعبد الجليل !!
قال لها عبد الجليل : “تزوجي بنتك سعيدة لابني”
قالت جلجلة : “ياليت ياعبد الجليل لكن سعيدة عمياء وبلادك بعيد”
و لأن سمعها حاد سمعت ماقاله الحمار عبد الجليل لأمها فخفق قلبها بقوة من الفرح.
لكنها عندما سمعت ردامهافار دمها وخرجت تجري وتقول لهابنبرة تهديد :
-” والله يما لوماتزوجيني ابن عبد الجليل لااقتل نفسي “
قالت لها امها جلجلة :
-” يابنتي قريتهم بعيييييد ورا السبعة الجباااااال واني خايف عليك”
قالت لها سعيدة بنبرة محتدّة :
-“ورا السبعة الجبال والاورا السبعة البحور مش اني جاهل “
ولمعرفتها بطبيعة ابنتها وافقت امها وقالت للحمّار عبد الجليل : - “مادام سعيدة راضي بنصيبها هات مهرها “
لكن الحمار عبد الجليل كان يرى بانه انما يُسدي لها معروفاً واستغرب ان تطلب منه مهراً.
ولخوف سعيدة من ان يتراجع ويرجع الى بلاده من دونها التفتت ناحية امها وقالت لها: - لموتطلبي مهر يمّا؟ ولمو الطمع ؟
قالت لها امها : - “المهر هو لك ياسعيدة.. مش هو لي.”
قالت لها سعيدة بأنها لاتريد مهرا وانماتريد زوجا يسعدها ويخرجها من الظلمات الى النور.
وبعد ان رفضت سعيدة المهر طلبت امها من عبد الجليل ان يذهب ويحضر القاضي والشهود
لكن عبد الجليل قال لها من فوق حماره :
-” ياجلجلة لورحت للقاضي بانتأخر.. وهذي الايام امطارقدك داري.. ولووقع مطر ونزل سيل ونحنا بالوادي بايشلّنا السيل، ويشل الحمار ،ويشل سعيده. “
وقالت سعيدة التي كانت واقفة عند مدخل البيت تمشط شعرها : - يما اني فدالك مادام انتي راضي واني راضي لموالقاضي وموهي الفائدة منه !!
قالت جلجلة: “يابنتي حرام تتزوجي من غير عقد شرعي اين نروح من غضب ربي” !!
ولحظتها لم تستطع سعيدة ان تتمالك نفسها وتسيطر على اعصابها فانفجرت في وجه امها
واتهمتها بأنها تتعمّد وضع عراقيل امام الحمّار عبد الجليل لتجعله يطفش ويغيّر رايه ويعيد النظر في الزواج ويعود من دونها.
ولشدة ماكانت سعيدة مستثارة خافت امها واذعنت لرغبتها وطلبت من الحمّار عبد الجليل ان ينتظر قليلا ريثما تجهز سعيدة لكن سعيدة كانت قد جهزت نفسها ووضعت اسمالهاومشط شعرها داخل كيس نومها وخرجت تجري وتودع امها .
قالت امها مخاطبة الحمار عبد الجليل وهي تغالب رغبتها في البكاء : - امانتك سعيدة ياعبد الجليل
لكنها بعدان غاب الحمار وغاب الحمّار عبد الجليل وغابت سعيدة عن ناظريها شعرت جلجلة بسحب داكنة من الحزن تتجَمعُ وتتلبّدُ داخلها ومالبثت ان انفجرت تبكي بصوت يطفح الماً وحزناً على ابنتها وكان اكثر مااحزنها واوجعها هو انها تزوجت بدون مهر وبدون عقد وبدون فرح. كانت سعيدة حزينة لفراق امها لكنها بعد وصولها “وادي الشَوَّيْفَة”تبخّر حزنها بفعل حرارة الجو. وشعرت كما لو انها انتقلت من عالم الى عالم آخر .كان الجوفي الوادي دافئاًمقارنةً بالجو البارد شديد البرودة في قريتها.
وخامرها إحساس وهي تستشعر دفء الوادي بانها مقبلةعلى فراشٍ دافئ، وليال دافئة.
وكان ان راحت تسترجع ماقالته لها صديقتها شموع حول جمال ليلة الدخلة، وكيف انها اجمل من ليلة القدر. ولشدة ماكانت فرحة ومغتبطة تملّكتها رغبة في ان تغني وتصدح بالغناء لكن صمت الحمّار عبد الجليل ازعجها واقلقها .. وكم كانت تتمنى لحظتها لوانه يغني، اويتكلم معها لتسأله عن اسم زوجها ،وعن عمره، وعمله، وعن اشياء كثيرة تتعلق به وباسرته. لكن الحمّار عبد الجليل لزم الصمت وظل صامتا طوال الرحلة ولم يتكلم الالحظة وصولهما عندما سمعته يقول لها : - وصلنا ياسعيدة
عند وصولهما خرج اطفالٌ بوجوه مغبرة وشعور مشعثة، وخرجت نساءٌ ضامرات بملابس رثة ورحن يسالن عبد الجليل عمن تكون الفتاة التي جلبها معه فقال لهن :
- هذي سعيدة عروسة بدر
ولحظتها ارتفعت زغرداتهن لكنهن عندما ابصرن العروس عمياء خفتت اصواتهن ومالبثت ان تلاشت. ورحن وقد توقفن عن الزغردة ينظرن شزرا الى سعيدة ويعلِّقن قائلات : - “البنت عمياء عُمَيَّاني مثل الحُلَيْبَاني”
وسرعان ماالتقط الاطفال كلماتهن وراحوا يهبطون المنحدر المؤدي الى الوادي ليلعبوا لعبتهم مع العريس. وكان العريس في العشرين من عمره مديد القامة، له جسد ضخم، لكنه كان اكثر من ابله. وكانت لعبة اطفال القرية اليومية هي السخرية منه ،والتحرش به، واستفزازه، واثارة غضبه .وكانوا اذا اغضبوه واخرجوه من طبيعته المسالمة الى طبيعته العدوانية وراوه يركض خلفهم ليبطش بهم شعروا بأنهم نجحوا في استفزازه وبأن لعبتهم مثيرة وشيِّقة . وكان بدر بسبب ضخامة جثته وبطء حركته يعجز عن اللحاق بهم وكان ذلك يدفعهم للتمادي في لعبتهم ويومها وبعد وصول عروسه العمياء جروا مسرعين الى الوادي ليعبثوا به ويسخروا منه ويلعبوا معه لعبتهم المفضلة. كان بدر يذهب وقت المغرب الى الوادي ويمضي الى صخرة ملساء تقع قبالة البئر وعند وصوله يخرج عضوه امام ابصار الفتيات اللاتي جئن لجلب الماء من البئر ويبدأبحكه عرض الصخرة، ويواصل الحك. وكانت الفتيات يصرخنَ فيه ويشتمنه، ويرشقنه بالحجارة، ويشتكين به الى امهاتهن ،وامهاتهن يشتكين الى امه ،وامه تشتكي به الى ابيه ،وابوه يضربه ويمنعه من الذهاب الى صخرة البئر لكن بدرا كان يرد على ابيه وعلى الآخرين بأن الصخرة زوجته وبانهاسوف تحبل منه.
ولكثرة الشكاوى ضج اهل القرية وراحوا يطلبون من اهله ان يزوجوه لكن امه كانت كلماذهبت لتخطب له فتاة بلهاء ترفض ام الفتاة بحجة ان ابنها اكثر بلاهة من ابنتها وبعضهن كن يرفضن لخوفهن من الصخرة التي ينكحها ابنها .
وكان قد شاع لدى فتيات ونساء قرى الوادي بأن صخرة البئر التي ينكحها بدر وقت المغرب ليست سوى جنية تتمثل له بهيئة صخرة وكن كلما ذهبن لجلب الماء من البئر ومررن جنبها يرجمنها بالحجارة كماتُرجم الزانية .
كان اطفال وصبيان القرية يطلقون على صخرة الوادي ” زوجة بدر” وكانوا يعرفون بان بدرا وقت المغرب يكون هناك عند الصخرة التي تقول امهاتهم بأنها جنية لكنهم وقد حان وقت عودته جلسوا ينتظرونه في مدخل القرية وحالما ابصروه يقترب قالواله يبشرونه :
- ابوك جاب لك عروسة يابدر
ولشدة فرحه ابتسم بدرابتسامة عريضه وراح يمد خطواته ويوسِّعها ليصل البيت.
لكن اطفال القرية الملاعين لايحبون ان يروه فرحا، ولاان يعود الى البيت قبل ان يعبثوا، ويضحكوا، ويسخروا منه .
قالوا له : العروسة عمياء.. وعيالك بايكونوا عميان. كيف ترضى يزوجوك بنت عمياء!!
وعندمارأوا انه قدتأثر وانطفأت ابتسامته راحوا يوخزونه بتلك الكلمات الحادة التي سمعوها من امهاتهم وكانوا قدجعلوا منها اشبه بالزفة يزفونه بها : - عمياء عُمَيَّاني مثل الحليباني
- عمياء عمياني مثل الحليباني
عندها جن جنون بدر وخرج عن طوره واستدار غاضبا واندفع يجري خلفهم مثل ثور هائج وهم يجرون ويضحكون ويستفزونه بضحكاتهم وكانوا كلما توقف عن ملاحقتهم عادوا من جديد يستفزونه ويزفونه :
“عمياء عُمَيَّاني مثل الحُلَيْبَاني”
وبعد ان زفوه الى باب بيته وملأوا روحه حنقا وغيضا وغضبا تركوه وعادوا الى بيوتهم وهم في غاية السعادة .
عندما دخل البيت ابصر امه غاضبة هي الاخرى وصامتة على غير عادتها وكانت ام بدر قد زعلت من زوجها ولم تكن تتوقع من انه سوف يجلب لابنه عروسا عمياء ويحرجها امام نساء القرية اللاتي رحن يتهكمن امامها على العروس ويقلن عنها : - عمياء عمياني مثل الحليباني
ولشدة زعلها من زوجها عبد الجليل لم تقل شيئالابنها الذي دخل وهو يكاد ينفجر من الغضب كانت تعرف بان الاطفال قد اخبروه واثاروه واغضبوه وسخروا منه وبدلا من ان تكلمه عن العروس وتحببها له وتمسح من صدره سحابة الغضب ظلت صامته كأن الأمر لايعنيها اوكأنها تركت امر عروسه ليقرربنفسه مصيرها.
ليلتها دخل بدر على عروسه وهو مليان غضب ..غضب من ابيه الذي زوجه بفتاة عمياء.. وغضب من اطفال القرية الذين راحوا يسخرون منه ومن زوجته. وكان لابد له من ان يفرغ كل ذلك الغضب بأسرع مايمكن. ثم وقد اقترب منها وتأكد بأنها عمياء راح يضربها ويوسعها ضربا ويصرخ فيها قائلا وهو يواصل ضربها : - “عمياء عمياني مثل الحليباني “
وعندما تناهى الى اسماعهما صوت سعيدة وهي تبكي وتصرخ انزعج عبد الجليل وهمّ بمغادرة غرفة نومه والذهاب الى غرفة نوم العريس لينقذ سعيدة من ابنه
لكن ام بدر لم تسمح له واقنعته بان سعيدة تصرخ من الفرح وليس من الضرب .
قال لها وهو مستغرب : لوهي فرح لمو تصيح بكل صوتها !!
قالت له ام بدر : ” سعيدة عمياء ياعبد الجليل والعمياء مثل الدمة. الدمة معاها سبع نفوس والعمياء سبع شهوات”
لكن سعيدة التي كانت تتوقع ان يهبّ عمها لنجدتها بمجرد ان يسمعها تبكي وتصرخ شعرت بالخذلان وبدت لها صرخاتها غير ذات جدوى ولن تفيدها وكان ان راحت تقاوم الوحش بيديها و باسنانها بيد ان مقاومتهاله زادته حنقاً وغيضاً وتوحُّشاً فكان ان امسك بها من شعرها، ولفه حول عنقها ،وراح يشدُّ ويضغطُ بقوةٍ وبكلتا يديه على خناقها .وقبل ان تفهم سعيدة شيئاً تحوّلت ليلة الدخلةبسرعة البرق الى ليلة الخرجة .وخرجت روح سعيدة وبعد خروجها خرج بدر على رؤوس اصابعه، وهبط الدرج، وفتح الباب ، ونزل الوادي ،واختفى، ومن حينها لم يسمعوا له خبرا ولم يجدوا له اثرا .و انكرت ام بدر ان يكون ابنها هو الذي قتل سعيدة وقالت لنساء القرية بان جنيَّة الصخرة هي التي قتلتها وخطفت ابنها.
بعد مرور ايام واسابيع على اختفاء ابله القرية قال الاطفال بانهم شاهدوه اكثر من مرة وهو يعبر الوادي بعد غروب الشمس. وقالت الفتيات بانهن يبصرنه وقت المغرب عند البئر ملتصقا بصخرته . وقال سكان القرى الواقعة على ضفاف الوادي بانهم في الليل يسمعون الابله وهو يبكي وينادي امه بكل صوته : يمّاااااااااااه
وقالت” النزيلة” لأم بدر بان ابنها لم ينزل بعد للعالم السفلي ولاوجود له بين الموتى وحين سالتها :اين يكون؟
قالت لها :” ابنك بالوادي لاهو حي ولاهو ميت”
وبعد عودته من الراهدة قال سيف انعم شيخ الحمّارة ل جلجلة وهو يسلمها كيس نوم سعيدة وفيه اسمالها ومشط شعرها :
- “عظم الله لك الاجر ياجلجلة ”
وقالت جلجلة تخاطب ربها وهي تُمطِرُالسماءَ بدموعها : - لِمَوْياربي خلقت سعيدة عمياء ؟