- كتب: د. عبدالعزيز علوان
غريب على الطريق ، هو ذا ، حال الشاعر محمد انعم غالب ، (شعرا ، وهموما وطنية ، وأحزان سياسية ).
- بدأ كتابة القصيدة الحرة ، من دون العبور إليها من جسر القصيدة العمودية.. محمد أنعم غالب كما يشير إليه الناقد عبدالودود سيف لم يتأثر بأحد، ولا أثر في أحد، وذلك على خلاف من تلاه من الشعراء اليمنيين المجددين.. بينما يشير الدكتور المقالح إلى أن محمد أنعم غالب ، كان دليله الأقوى إلى تجاوز التردد واختيار الجديد الشعري بشكل صارم وحاسم، ويضيف فتحي أبو النصر القول بأن أنعم، “أصطدم بشدة مع بقايا القوى المتخلفة والرجعية داخل قوى الثورة نفسها حتى تمت مضايقته مراراً، وأقصي أكثر من مرة.” (*)
كان هذا الغريب ، الذي قابله الشاعر أنعم ، على الطريق في الشاطئ البعيد، اسمه (علي) كما أثبته في دفتر الزكاة وحين طارده الجباة .. بعد إن غادر اليمن فرحا بهذه الرحلة للشاطئ البعيد ، حيث كانت السفن هي الوسيلة الأكثر استخداما في تلك الفترة ،عاش في كل المهن ، وكان العالم الفسيح موطنه لكنه غريب.. بعد إن ضاق به ذرعا عمله في تجارة ( التطواف التي لا توفر الرغيف ) ، في البلدان التي قدِم إليها ، أمتهن الحرب عملا آخر له كونه محاربا قديما يجيد استخدام السلاح..
حارب إخوته من اليمن ، كانوا في الجانب المضاد ، أبان الحرب العالمية الثانية ، حاربهم وحاربوه ( ليس دفاعا عن وطن ) وإنما ، كانت الحرب ولا زالت من أجل شيء واحد هو من أجل الرغيف..
تحددت الملامح ،الأولى ، لفراق الشاعر محمد أنعم غالب ، في فراق بيته القديم ، الذي يقوم فوق تل ، كما هي عادة اليمنين في بناء البيوت ، التي تختار من التلال ( التباب في مصطلح اليوم ) عرصات تبني عليها بيوتها ، ولعل هذا الإرتباط هو إحتراسا للمخاوف التي قد تهاجم القرى ، من ناحية ، والحفاظ على مساحات الأراضي الزراعية التي كانت مصدرا رئيسا للغذاء:
فراقنا طويل
فارقت بيتنا القديم
يقوم فوق تل
حول هذ البيت القديم ، نمت أشجار (النشم) ، ذات الصلابة العالية عندما تجف ، وكانت لها استخدامات كثيرة.. فوق سطح البيت ، رصت ( قصص ) عبارة عن أواني صغيرة من الفخار ، تزرع بداخلها الزهور والمشاقر ( الريحان):
وحوله نمت شجيرات “النشم”
وفوق سطحه رصت “قصص” للزهر والريحان
في هذا السقف الأثيري ، نرى المقاعد الحجرية التي رتبت به ، وتلك السقيفة ، ( عرش صغير ) سقفها مسنود على دعامات خشبية ، ويغطى بأغصان الاشجار ، بحيث تصبح هذه السقيفة وارفة الظلال . وتستخدم للمقيل ، مع (كركرات المداعة):
ورتبت مقاعد من الحجر
وعرشت سقيفة وارفة الظلال
تدور في أرجائها “كركرة المداعة
فارق الشاعر عبق البخور ، مذ كان صغيرا ، وها هي رحلة الشاعر طالت وتطول ، والأخبار المتبادلة لا تسر:
وعبق البخور
فارقته ولم أزل صغير
ورحلتي تطول
والأخبار لا تسر
فالموت يخطف الأحباب، والبن ينفض أوراقه ، ربما بفعل الجفاف أو عدم الاعتناء به أو استبداله بمحاصيل أخرى ..
جفت أدخنه البن من مداخن البيوت ، ولم يعد يطرق بابها ، ضيوف ( تكثيف البن وما آل اليه ، كون الشاعر من أبناء بني حماد الشهيرة بالبن ):
الموت يخطف الأحباب
والبن ينفض الأوراق
أعواده تجف، والدخان
يكاد أن يجف من مداخن البيوت
ولم يعد يطرق بابنا ضيوف
وكل عام ، يتردد من أعوام فراقنا ، أقول لنفسي أو لآخرين من أمثالي لن يطول هذا ( البين) ، ولا زلتُ كل عام ، أحزم المتاع ( حقيبة السفر ) لرحلة جديدة، وفي هذا الخضم المتواصل من السفر ، أقول لن تطول رحلتي ، ولن يكون راحلون آخرون:
وكل عام
أقول لن يطول هذا البين
لكنني مازلت أحزم المتاع
لرحلة جديدة
أقول: لن تطول رحلتي
ولن يكون راحلون آخرون
لكن ثمة رسالة بائسة حزينة تأتي ، تقول بأن رحلة جديدة ينوي بها قريب ، ( الشاعر هنا يتحدث عن رحلات متوالية من بلد إلى آخر ):
لكن: رسالة بائسة حزينة
تقول أن رحلة جديدة
ينوي بها قريب
لهذه الرحلة أسبابها ، الخبز قل ، وأمام هذه المعضلة ، قد تطول رحلتي ( الخطاب موجه إلى ذاكرته القروية أو إلى أهله في القرية أو أصدقائه في هذه الرحلة ) ..
قد لا أعود من غياهب هذه الرحلة الجديدة ، بهذا النفس المأساوي ؛ يصعد بنا التأوه ، إلى أعلى معاناة الأطراف الذين بقوا في القرية ، وأطراف الرحيل المتواصل للشاعر كضمير جمعي، يصاحب هذا الشعور بعدم العودة ، تمنى الشاعر لو لم يكن هناك (لنا صغار) ، متضرعا للسماء أن تحفظهم ، فالفراق مر :
الخبز قل
وقد تطول رحلتي
قد لا أعود
والصغار.. آه لو لم يكن لنا صغار
فلتحفظهم السماء
إن الفراق مر
- محمد أنعم غالب (1932-2008 ) ، اقتصادي ، سياسي ، تقلد مناصب وزارية وأكاديمية.
- (*) منقول من مقال لفتحي أبو النصر في جريدى المدن الإلكترونية (الشاعر محمد أنعم غالب.. الريادي المجهول) 1/1/2015
- القصيده من ديوان (“غريب على الطريق)