- عبدالكريم الرازحي
كان من سوء حظ سعيده انها ولدت عمياء.. كانت العمياء الوحيدة في القرية الخالية من العميان .لكنها وهيي طفلة لم تكن تكترث بعماها.. فقدكان لديها مواهب تعوّضها عن فقدان بصرها .كانت ذكية وتتمتع بذاكرة قوية. وكانت بقية حواسها حادة وشديدة الحساسية . تسمع اصواتا لايسمعها غيرها من الاطفال، وتشم روائح لايشمونها ،وتحفظ اغانيَ وحكاياتٍ لايحفظونها .وكان لها صوتٌ حُلوٌوعذب يُلفِتُ الانتباه اليها حين تغني.. ولشدة ماكانت موهوبة كانت قادرة على انتزاع اعتراف بتميُّزها.. لكنهابعد ان بلغت ونضجت كأنثى، وابصرت البنات اللاتي في عمرها، والاصغر منها في العمر، والاقل منها ذكاء يتزوجنَ، وتقام لهنّ الاعراس، ويغادرن بيوتهن الى بيوت ازواجهن بدت قلقة ومنزعجة ومستغربة ممايحدث واخذت تسال امها جُلجُلَة :
- لِمَوْ يِمّا البنات يتزوجين واني لا؟
قالت لها امها :” يابنتي انتي عمياء “
وراحت سعيدة مرعوبة تتساءل بينها وبين نفسها عن معنى كلام امها!! وهل يعني بأنها لن تتزوج !!وستعيش حياتها بدون زوج !!
ولشدة رعبها عادت تسال امها عن الفتيان المبصرين!! وعن السبب في انهم لايتزوجون فتيات كفيفات!!؟
قالت لها امها بأنه يستحيل ان يتزوج احدهم فتاة عمياء ولوهواراد ابوه وامه واهله لن يسمحوا له واصحابه سوف يسخرون منه
وللمرة الثالثة سالت سعيدة امها عن السبب فقالت لها امها وقد ضاقت بأسئلتها : - “العمى يابنتي حُفرة وغُدْرَة. “
وحتى لاتحبط ابنتها اردفت قائلة :
-“لكن الله كريم ياسعيده. ربي من كرمه يحوِّل للبنت الهبلا زوج اهبل .والبنت الصنجاء يحوِّل لِهْ بزوج اصنج. وانتي ياسعيده ربي شحوِّل لك بزوج اعمى”
ولحظتها شعرت سعيدة بفداحة العمى وقالت ترد على امها بنبرة محتدّة :
-” احسن لي اجلس بلا زوج ولااتزوج اعمى “
قالت لها امها : “لمو يابنتي!! موبهم العميان !!”
قالت سعيدة : “عمياء!! واتزوج اعمى !!وعمى فوق عمى!! لايمّا ..لوربي كريم مثلما تقولي يحوّل لي بزوج مفتِّح مش اعمى يزيد يعميني ويندي لي عيال عميان”
وعندما قالت لها امها بان العميان يحفظون القرآن غيبا
قالت سعيدة وهي تضحك متهكمة : - الأعمى يماقَوْاعمى يحفظ القرآن والايحفظ الاغاني!! .
وكانت سعيدة تحفظ عشرات الاغاني ،وتعشق الغناء ،وتجد فيه العزاء. وكل بنات ونساء القرية يعترفن بموهبتها ،وينسحرن بجمال صوتها، ويدعينها لتغني في مجالسهن، وفي حفلات زفافهن. لكن سعيدة التي تنسى نفسها وقت الغناء وتنسى عاهتها كانت بعد الإنتهاء تتذكر بأنها عمياء وتعود الى بيتها حزينة ومنكسرة وتجهش بالبكاء .
كان الزواج هو الحلم الذي يراود سعيدة كل ليلة. وهو في نفس الوقت كابوسها الذي يقضُّ مضجعها. وكثيرا ماكانت تسأل نفسها:ماذا لولم تتزوج!! واي حياة سوف تعيشها من دون رجل !!وكانت تشعر وهي في بيت امها بأنها محبوسة اكثر من كل المحابيس .. محبوسة بين جدران البيت ،ومحبوسة بين جدران العمى . وكانت كلما سمعت عن اعراس تقام هنا وهناك تزداد الجدران سماكةً، ويتضاعف احساسها بالظلم وبالظُّلمة ،ويخامرها شعور بان البنات المبصرات جميلات. والفتيان يقبلون عليهن لجمالهن. اماهي فكانت تشعر في قرارة نفسها بأنها قبيحة لكونها عمياء .وعندما كانت صديقاتها يقلن لهابانها جميلةلم تكن تصدقهن. وكانت تعتقد بأنهن يجاملنها،ويواسينها ،اوربما يسخرن منها، ويضحكن عليها .واحيانا كانت ترد عليهن بالقول بأنه يكفي ان تكون الفتاة عمياء لتبدو قبيحةً في عيون الفتيان.
لكن الشيئ الوحيد الذي كانت سعيدة متأكدة من جماله هو شعرها. كان شعرها سلساً،ناعماً نعومة الحرير .وكان ينسدلُ وينسكبُ مثل شلال الى ماتحت ركبتيها. وكانت سعيدة تحس بجماله حين تلمسهُ، وحين تتحسّسهُ بأصابعها ،وحين تغسلهُ بالماء والصابون، ومن بعد عندما تدهنهُ بالزيت ،او عندما تمرِّر المُشط وتمشطهُ من دون جُهد .وكانت اجمل لحظاتها الى جانب لحظات الغناء هي تلك اللحظات التي تمسكُ فيها بالمُشط وتبدأ بمشط شعرها.. ومثلما كانت تنسى نفسها اثناء الغناء ،وتنسى انها عمياء .كانت وهي تمشط شعرها تشعر كأنها تغني. وكان يساورها شعور بأنه يكفي ان يبصر ها فتىً من فتيان القرية وهي تمشط شعرها حتى يطرق الباب طالبا يدها . ومن شدة اعجابها بشعرها وايمانها بسلاسته ونعومته وجماله كان اقصى ماتتمناه هو ان يراه الفتيان بدلا من رؤية عينيها المطفئتين. لكن شعرها كان هو الآخر محبوساً داخل قطعة من القماش اسمها “المَصَر”
ومن فوق المصر هناك” المَقْرَمَة” وكان من الصعب رؤيته وهي تعبر دروب القرية .اما في البيت فكانت امها كلما ابصرتها في السقف تمشّط شعرها تنهرها وتقول لها :
-” غطّي شعرك ياسعيدة ..كم مرة قلت لك لاتكوني تمشطي شعرك بالسقف”!!
تقول لها سعيدة وهي مستفزة من كلامها:
- لمواغطُّوه يمّا ؟
تقول لها امها: - ” لوانتي عمياء ماتبصريش العيال.. العيال معاهم عيون يِرَوْمِك وانتي تمشطي شعرك. “
وكانت سعيد تستفز من كلام امها وتقول لها محتدّة : - “مُوفيها لورأوني امشط شعري!! اني نفسي اشاهم يبصروا شعري بدل مايبصروا وجهي”
تقول لها امها متهكمة : - “مو تحسبيهم لو راوا شعرك شجويجروا ويدقوا الباب!! ويقولوا اجينا نخطب سعيدة .
هم بعدما يبصروا شعرك شِجلسُوا يضحكوا ويقولوا سعيده العمياء فرح بحقِّه الشعر كل ساعة وطلعت السقف تمشطه “
قالت سعيدة وقد جرحها كلام امها وزادها احباطا فوق الاحباط :
-” اني داري بك يمّا حتى لو جاخطيب يخطبني شتقولي له سعيدة عمياء وشترجِّعوه من الباب”
وكانت سعيدة تشعر بان امها لاتحب لها الخير ولاتريدها ان تتزوج وتغادر البيت .
من بين فتيات القرية اللاتي كانت سعيدة تشعر نحوهنّ بعاطفةٍ كبيرة ،وتربطها بها علاقة صداقة متينة .فتاة اسمها “شُمُوع” كانت الاثنتان بعمر واحد. نشأتا معاً،وكبرتا معاً، وكانتا من طفولتهما تتشاركان الفرح ،والحزن، والاسرار. وكل واحدة تخبئ سرها عند الاخرى ،وتحتفظ بسر الاخرى عندها .وكانت شموع التي تزوجت قبل سعيدة بسنوات هي اول من ضوّت لها ،وسلطت الضوء على ليلة الدخلةوعلى اسرار تجهلها . قبلها كانت سعيدة تسمع من الفتيات اللاتي تزوجن نُتَفاًعن ليلة الدخلة لاتسمن ولاتغني من جوع. كان في ذهنها سؤال بشأنها كعميا ء لكنها لم تكن تجرؤ تسألهن ثم ان علاقتها بهن لم تكن تسمح بذلك. وكان السؤال الذي ظل يدور في ذهنها هو :
- هل ليلة الدخلة عند العمياء هي نفسها عند الفتاة غير العمياء؟
وحدها صديقتها شموع اجابت على السؤال الذي أرّقها لسنوات ذلك انها بعد زواجها حدثتها شموع وهي في غاية السعادة عن ذلك الجمال اللا محدود الذي راته في ليلة الدخلة واستشعرته واستمتعت به.
يومها سالتها سعيدة عمااذا كان بمقدورها هي العمياء -فيما لوحالفها الحظ وتزوجت- ان ترى ذلك الجمال اللامحدود وتستشعره وتستمتع به بنفس القدر الذي تستمتع به غيرها !!
وكان رد شموع هو ان عماها لن يمنعها من رؤية جمال ليلة الدخلة ومن استشعاره والاستمتاع به وقالت لها : - “يسمّوْمِي ياسعيده ليلة الدُّخلة وهي ليلة الخَرجَة.. تخرجي من بيتكم لابيت زوجك، وتخرجي من الغُدْرَه للضوء، وتبصري الدنيا تضوِّي قدامك “
قالت لها سعيدة :
-” تقولي ياشموع شبْصِر الضوء مثلك”!!
واكدت لها شموع بانها سوف تبصر ضوء ليلة الدخلة وسترى امامها دنيا غير الدنيا التي عرفتها وحياة غير الحياة التي عاشتها .
وسألتها سعيدة عن ليلة الدخلة وهل هي اجمل ام ليلة القدر ؟ - اين اجمل ياشموع ليلة الدخلة والاليلة القدر؟
قالت لها شموع : ليلة الدخلة ياسعيدة اجمل من ليلة القدر الف مرة
ومن حينها راحت سعيدة تنتظر ليلة الدخلةبكل جوارحها. وكان عليها من بعد حديث صديقتها شموع ان تنتظر الف ليلة وليلة مجيئ تلك الليلة التي هي اجمل الف مرة من ليلة القدر.
عندماتناهى الى سمعها صوت جرس الحمار عرفت جلجلة بأن الحمار الذي يقترب من بيتها هو حمار الحمّار سيف انعم شيخ الحمَّارة وقالت جُلجُلة تحدث نفسها :
- “حمار شلِّك ياسعيدة وحمار يردِّك “
وكان حمار سيف انعم اكثر ارتفاعا من بقية حمير القرية، واكبر حجما، واكثر ضخامة، وفوق هذا كان قوي البنية ،يحمل ضعف حمولة الحمار العادي، وسرعته ضعف سرعته، ولم يحدث ان تلكّأفي النقيل ،اوجثا،اوبرك من ثقل الحمولة كما تفعل بقية الحمير.
وسالته جلجلة وهي تحدِّق في حماره الا بيض المخضّب بالحِنَّاء إن كان بمقدوره ان يقدم لها خدمة في طريق عودته !!
قال لها : من عيوني ياعمة جلجلة قولي لي موهو المطلوب مني وانا اعمله !!
وطلبت منه جلجلة ان يمر على بنتها سعيدة في “وادي الشوَّيْفَة” عند عودته من الراهدة .
واستغرب سيف انعم من كلامها وقال يسألها : - موودّاها سعيدة وادي الشويفة !!
قالت له جلجلة: “سعيدة ياسيف تزوجت ابن الحمّار عبد الجليل “
قال لها الحمّار سيف انعم وهو مستغرب: ايحين وقع العُرُس؟ وكيف ماعرفناش !!
قالت له جلجلة : جِزِع عبد الجليل عصر وشلّها فوق الحمار من غير مهر ومن غير عقد ومن غير فرح.
وسالها عن اسم ابن عبد الجليل الذي زوجته بنتها فقالت بانها لاتعرفه ولاتعرف اسمه.
وصاح الحمار سيف انعم محتجا : كيف هذا ياجلجلة كيف ترضي لبنتك تتزوج من غير مهر ومن غير قاضي يعقد بها ومن غير شهود ومن غير ماتعرف اسم زوجها هذا حرام لايجوز !!
قالت جلجلة وكانت طيبة عقلها صغير وقلبها كبير: - موفيها!! الزوج سترياسيف وسعيدة الحمد لله لقت زوج يسترها وبعدا الاثنين كانوا عجلين عبد الجليل عَجِل على الرجعة لابلاده وسعيده عَجِل على الزواج واني كنتو مربوش .
ومن شوقها لرؤية بنتها لم تستطع جلجلة كبح جماح دموعها ووعدها سيف انعم وقد ابصر ساقية من الدموع تجري فوق خدود وجهها المليئ بالتجاعيد بانه سوف يمر على سعيدة في طريق عودته ويردفها خلفه فوق الحمار .
ولشدة فرحتها مسحت جلجلة دموعها بطرف كم قميصها وقالت تدعوله : - “ربي يرزقك ياسيف انعم ياشيخ الحمّارة يااللِّي حمارك شيخ الحمير”
يتبع الحلقة الثانية والاخيرة
–