- عبدالكريم الرازحي
بعد تحذيرات الأمهات لهم.. كان الأطفال يمرون من امام بيت الرجل الميت مروراً سريعاٌ ، ويجرون جرياً، وعيونهم ملتصقة بالارض وكأن هناك وحشا يلاحقهم .
وذات يوم وهم في طريق عودتهم الى بيوتهم وقد انتهوا من اللعب حدث مايشبه التحدي بين الطفل فُرَيْسْ ابن قُرُنُلَةوبين بضعة من اطفال القرية.
قال لهم فريس بانه لايخاف من الرجل الميت وانه عند مروره من امام بيته سوف يمر مرورا عادياًولن يجري مثلهم .
قالوا له وقد استفزهم كلامه :
- موقدّرك يابن قرنفلة !!
قال لهم فريس :”اقدر ..واقدر اعاين لاوجه الميت واقول له : السلام عليكم “.
لكنهم راحوا يتهكّمون عليه ويسخرون منه ويقولون له يعيِّرونه بأنه ابن امرأة : - انت ابن مَكْلَفْ!! موقدرك تعاين لاوجه الميِّت !!
قال لهم :” والله اننا اقدر اعاين لاوجهه”
قالواوهم في غيضٍ منه : - نتحداك يابن قرنفلة
قال لهم فريس :تشارطونا !!
قالوا : نشارطك.
قال : ايش باتندولي لوقدرت ؟
قالوا – بعدان تغامزوا فيما بينهم –
-” نشتري لك حلاوة من الدكان”
قال لهم معترضا :لاااا حلاوة لا
قالوا :نشتريي لك هريسة
قال وهو يواصل اعتراضه :
-لاااااهريسة لا
قالوا : نشتري لك سمسمية
قال لهم : لا اااااا سمسمية لا
وكانوا كلما عرضوا عليه صنفاً من اصناف الحلوى الموجودة في دكان القرية رفض عرضهم.
وفي الاخير قالوا له : - “طيب قل لنا ايش تِخْوَريافريس يابن قرنفلة وماهوا اللي بنفسك ونحنا نشتروه لك “
قال لهم : طاحونية
قالوا له : واللي يترجع ؟
قال لهم فريس : “اللي يترجع ايركم بامه ولوانتم ترجعتم ايري بامهاتكم”
وكان ثمة اطفال يحبونه ويخافون عليه فراحوا ينصحونه ويقولون له: - “يافريس اللي يعاين لاوجه الميت يموت ،وامك قرنفلة مافيش معاها غيرك”
وطلبوا منه ان يتراجع عن المراهنة ،وعن القيام بهذه المغامرة التي قد تكلفه حياته.
لكنه رفض ا لتراجع عن القيام بمغامرته تلك.. وكان على استعداد من اجل حلوى الطاحونية ان يقوم بمغامرة اعظم من مغامرة التوقف عند بيت الرجل الميت والنظر اليه .
ايامها كانت حلوى الطّاحُونِيَة حديثة الدخول للقرية ولم تكن تشبه غيرها من الحلويات التي تُصنع في” الراهدة” اوتلك التي تأتي من عدن .كانت فائقة اللذة، وكان طعمها ينقل اطفال القرية من الواقع الى الحلم ،ومن العادي الى الخارق .وكانت في نظرهم مقياسا للسعادة. بها يقيسون سعادتهم. ويكفي ان يطعمها احدهم حتى يعرف طعم السعادة ويبقى سعيدا طوال اليوم.
كان الطفل فريس طفلاً شقياً يتيم الاب، في الثامنة من عمره ، يقضي نهاره في اللعب، وفي تسلق الاشجار ، والضياح ،والهوى السحيقة. وكثيرا ماكان يصعد الى الذرى الشاهقة حيث اعشاش النسور .حتى انه في اكثر من مرة كان يعود من مغامراته ومعه بيوض طيور، وافراخ نسور. وفي واحدة من مغامراته سقط وانكسرت ساقه ولم يعد بمقدوره ان يتحرك من مكانه وعند ماابلغ الاطفال امه قرنفلة راحت تستنجد برجال القرية ان ينقذوه فكان ان ذهبوا الى المكان الذي سقط فيه ومعهم المِحَفّة التي ينقلون بها الموتى وحملوه فوقها الى البيت.
وفي مرة اخرى كان على وشك ان يموت بسبب لدغة ثعبان وذلك بعد ان راح يتحرش بثعبان قرب بيت الولي شعلان ويريد اخراجه من مخبئه .
وكان اهل القرية كلما سمعوا عن مغامرة من مغامراته يقولون منزعجين من شقاوته :
-” فريس هذا ابن مكلف مافيش معه اب يضبطه “
ولانه يتيم وليس له اب يحُدُّ من حريته في الحركة فقد نشأمتحررا من سلطة الاب ومتحررا من الخوف الذي تزرعه الامهات القلقات والخائفات في نفوس اطفالهن بحجة خوفهن عليهم. كانت امه قرنفلة تتركه وشأنه، وتترك له الحبل على الغارب .حتى انه الوحيد الذي كان يعود الى بيته في اي وقت يشاء . بعد المغرب اوبعد صلاة العشاء اوحتى بعد منتصف الليل.
ولانه بلااب يضبطه كان الاطفال يغيرون منه، ويحسدونه ، ويتمنون لوانهم ايتام مثله .ولشدة غيرتهم وحسدهم كانوا يسخرون منه ويقولون عنه :
- “فريس هذا ابن مكلف”
لكن الطفل فريس لم يكن يزعل او يغضب عندما يقولون عنه:” ابن مكلف” ولاعندما ينسبونه الى امه قرنفلة .
وكان يشعر في قرارة نفسه بأنهم يحسدونه لانه من دون اب ولانه حر والوقت ملكه ولان امه قرنفلة لاتصعد وقت المغرب الى سطح بيتها تناديه وتقول له : - “فيسع روِّح “
كانت امهاتهم كل يوم وقت الغروب يصعدن الى سطوح بيوتهن و يطلبن منهم ان يسرعوا بالعودة الى بيوتهم وكانت اصواتهن وهن ينادينهم ويكررن النداء تزعجهم وتبدو لهم شبيهة بنعيق الغربان و لشدة ما ينزعجون من نداءاتهن المتكررة ومن قولهن لهم : - ” فيسع روِّحُوا “كانوا يعودون غاضبين ويقولون لهن محتجين :
-” لِمَوْ قرنفلة ماتطلعش السقف تصيِّح لابنها فريس مثلكن وتقول له : فيسع روح!!
امابعد عودة الرجل الميت فقد زادت مخاوفهن، وتعاظم قلقهن على اطفالهن الذين بدورهم ازدادوا انزعاجا من امهاتهم حتى لقد صاروا في قرارة انفسهم يتمنون لوان لهم امهات مثل قرنفلة ام فريس. عندما اقتربوا من امام بيت الرجل الميت اجتاحهم شعور بالرعب وجروا مسرعين، ومرعوبين، وعيونهم في الارض كمااوصتهم امهاتهم. ثم وقد تجاوزوا البيت وشعروا بالامان توقفوا ينتظرون فريس وراحوا يراقبونه ليرون ماالذي سوف يفعله !!وهل سيجرؤ على التوقف امام بيت الرجل الميت!! والنظر الى وجهه!! ام انه سيجبن ويخاف ويخسر الرهان!!. كانوا في قرارة انفسهم يتمنون ان يجبُن، ويضعف، ويجري، ويفعل مثلهم الا انه مرّ مروراً عادياٌ، وراح يسير ببطءٍ فيما دقات قلبه راحت تجري وتتسارع من الخوف .
لكن خوفه من ان يخسر حلوى الطاحونية كان اقوى من خوفه النظر في وجه الرجل الميت .
كان الرجل الميت يجلس بجوار الطاقة وعيونه على المقبرة .وكان على الطفل فريس ان يخطو بضعة خطواتٍ ليصل الى النقطة التي يمكنه من عندها رؤية وجه.
وسمع فريس وهو يقترب اصواتا تدمدم وتدوي في راسه وتطلب منه ان ينجو بنفسه ويلوذ بالفرار .لكنه لم ينصت لها وظل يتقدم بنفس الإيقاع البطيئ وعندما اصبح مقابل طاقة الديوان توقف وقبل ان يلتفت استجمع اقصى مالديه من قوة روحية ومن رباطة جأش ثم التفت جهة الطاقة وراح يحملق في وجه الميت الجالس بجوارها ثم صاح بفزع وبكل صوته : السلام عليكم
ولحظتها نسى نفسه ودارت الدنيا في راسه وراح يجري والدنيا تدور وعندما وصل كان شاحبا شحوب الموتى .لكن الاطفال احاطوابه ،واستقبلوه استقبال الابطال ،وراحوا يسالونه عن الرجل الميت ،وعن صورته، وهل كان يلبس كفنا كما تقول فازعة!! وحكى لهم فريس وهو يسترجع نَفَسَه بانه ابصرالميت بجوار الطاقة وهو بالكفن .وقال لهم بان الرجل الميت ابتسم له بعد حياه وقال له : “السلام عليكم “
. قال لهم ذلك بصوت مرتعش ومتقطع ومفعم بالخوف.
قال له اولئك الذين راهنوه وخسروا الرهان :
-” الميت لايبتسم ولايضحك لكن انت ابن مكلف وامك علمتك الكذب “
وحلف فريس يمينا براس امه قرنفله بأنه لايكذب وبان الميت ابتسم
وشهد اطفال القرية الذين كانوا خارج لعبة الرهان ومجرد مراقبين بانهم شاهدوه وهو ينظر ناحية الطاقة التي يجلس الميت بجوارها وسمعوه وهو يقول له : السلام عليكم
وحكموا على الذين تحدوه وراهنوه ان يعترفوا بانهم خسروا الرهان
لكن اطفال الرهان الاشرار كانوا قدبيّتوا النية وبدلا من ان يصطحبوا فريس الى الدكان في الجانب الآخر من القرية ويشترون له علبة طاحونية جروا مسرعين ولاذوا بالفرار وكان يجرون ويضحكون من المقلب الذي اعدوه ل فريس ابن المكلف .
ولشدة ماكان فريس مغتاضا منهم راح يشتمهم بكل صوته : - ايري بامهاتكم
وكانوا هم يردون عليه ويشتمون امه قرنفلة وهو يرد وليس بعاجز لكن صوت ضحكاتهم كانت تنغرز فيه كالسكاكين وتجعله يتألم ولاحظ الاطفال الشهود كم هو مقهور ومتألم وحزين. وشعر فريس بأنهم كادوا له ومكروا به واحبوا ان يسخروا منه ويضحكوا عليه وذلك مااوجعه وآلمه. عند وصوله البيت ذهب مباشرة الى فراشة ونام من دون عشاء وحين لاحظت امه قرنفلة ان ابنها ذهب للنوم من دون ان يتعشى انزعجت ودخلت تسأله ماالذي فيه!! ولماذا ينام بدون عشاء!! وهل هو مريض!!
قال لها بانه لايشعر بالجوع. ونفى ان يكون مريضا.. وعندها تركته امه وذهبت لتصلي صلاة العشاء وفي منتصف الليل استيقظت من نومها على صوت ابنها وهو يكلم نفسه
وحين اقتربت منه ولمست جبهته وجدت حرارته عالية وسمعته يقول وهو في حالة هذيان : - “اخور طاحونية يما اشتري لي يما طاحونية انا فدالك “
قالت له امه وهي تتالم لاجله : “بكرة الصبح اشتري لك من الدكان “
قال فريس مواصلا هذيانه :” بني ايري يما كذبوا علي ايري بامهاتهم ”
وسالته امه وهي تضع خرقة مبتلة بالماء فوق جبهته كيما تهدئ من حرارته:
-” من هم اللي كذبوا علوك يافريس!! “وطلبت منه ان يحكي لها ماالذي حدث!!
وراح فريس يواصل هذيانه ويحكي لامه عن الرهان وعن الرجل الميت وعن حلوى الطاحونية ويكرر نفس الشتائم لاولئك الذين تحدوه وراهنوه وسخروا منه وخسروا الرهان. كانت الحمى تشتد وفريس يواصل هذيانه بايقاع متسارع ويطلب من امه ان تسرع وتسعفه بالطاحونية وامه تتوجع وتقول له :
-” الدكان ذحين مقفّل يافريس لكن الصبح بدري شابكرللدكان واشتري لك طاحونية”
قال لها فريس : “اشتي يما آكل آكل آكل طاحونية لما اشبع”
قالت له امه وقد فاضت الدموع من عينيها - “والله لابكر الصبح واشتري لك طاحونية تاكل لوما تقول بس”
قال لها فريس : “ماشابكرش الصبح يما “
قالت له امه وقد اغتسل وجهها بدموعها : - “لمو يافريسي ياابني مشتبكرش الصبح !!لمو تهدُب لنفسك!! “
قال لها فريس بصوت واهن :” شاموت يما “
وسال امه عن الجنة وهل فيها طاحونية: - تقولي يما في طاحونية بالجنة والا لا!!
وعجزت امه ولم تدر ماذا تقول!! ولابماذا ترد على سؤاله!!
وعندما شعر بأن امه لم ترد قال لها :
-” يقدر ربي يخلق جبل بالجنه كله طاحونية “
قالت امه وهي تكاد تنفجر بالبكاء : - “يقدر ربي يافريس يقدر يخلق جبال كلها طاحونية”
وعندها ابتسم فريس واكتسى وجهه بالفرح وقال وهو يمسك يد امه ويقبلها :
-” احبك يمّا “
وظلت امه بجانبه تحاول بخرقتها المبلولة وقف تقدم الحمى.. لكن الحمى راحت تتقدم ساخرة من خرقة قرنفلة المبلولة بالماء .
عند الفجر ذهبت قرنفلة وصلت فرضها ودعت الله في صلاتها ان يشفي ابنها من الحمى وعندعودتها وجدت روحه قد غادرت جسده مثل طائر يغادر عشه
ولشدة ايمان قرنفلة برحمة ربها رات روح ابنها فريس ترفرف وتحوم وتحلق فوق جبال بيضاء بلون الثلج.