- ضياف البراق
كان دومًا يتكلم هنا ثم اختفى أو انتهى أو مات هناك. هل كانت حياته أشبه بمحاولة سريعة في حلمٍ قصير عابر؟
أكان له معنى في هذه الأشياء الخاوية؟
أكانت هذه الطرقات تعرف مَن هو؟
هل ابتلعتْهُ رحلةُ البحث عن المعنى؟
عملية البحث عن الحقيقة تحتاج إلى زمن أطول من عمر الإنسان بكثير.
رمال ورياح وحرائق وشكوك خطيرة وكلمات مريضة بالحُمّى والزّكام والخَواء. الحياة تُتلِف كلَّ معنى، إنها حقًا مَتْلَفَةٌ مُرعِبة!
في البداية كان يقول: المعنى في الشبابيك، في الموسيقى، في نهود الجميلات، في قصائد العشق الفلسفي، في الزهور..
ثم صار يتساءل: هل المعنى في لزوميات المعرّي أم في تساؤلات سقراط أم في شذرات وجراح سيوران؟
كان لا يفعل شيئًا سوى التهريج الكثير في أي مكان يجد فيه مُتسَعًا لفوضاه الكئيبة. هو الذي ظل يحاول باستمرار حتى أصابه اليأسُ فصار يقول: لا يجب أن نحاول، بل لا يجب أن نتكلم أو نكترث لأي شيء، بل لا شيء أمامنا سوى الحريق الهائل، لم تكن محاولاتي إلّا كأعقاب السجائر الرخيصة المرمية فوق الأرصفة تحت أقدام المشاة.
لا، ذلك الصعلوك لم يمت قط..
ها هو قد عاد يحاول بلا يأس، متناسيًا أنه قد أقسم ألاّ يحاول. إنه ذو مزاج غريب، وله قلب شديد النسيان سريع الاستجابة لليأس، أو للعبث.
ليس له بيتٌ إلّا في النسيان الأبدي.
مع ذلك، هو لا يَنسى أن المعنى الحقيقيَّ كامنٌ في الغياب لا الحضور، في الموت لا الحياة، في الظلام لا الضوء.
فهل سيجد لنفسه معنى هذه المرة؟
ها هو يَبكي كأنما يضحك على نفسه. والبكاء ضرْبٌ من استدعاء الأمل. ألا يكونُ المعنى في الأمل الذي ترفضه أيها اليائس؟ فالذي يتكبَّر على الأمل لن يصل إلى أي معنى.
أليس تكرار المحاولة يعني أن نواصِل التحدي الفارغ، أن نواجه الفشل بالفشل، ونعجن الأمل باليأس، وهكذا، حتى نصل إلى تلك النهاية الوخيمة؟
عاد يبحث عن المعنى في بقايا الأمل الذي حطّمتْهُ يدهُ اليائسة.
عاد بلا ذاكرة، مُنتشِرًا في جميع الزوايا، مُسرِعًا إلى المجهول كالريح الهوجاء التي تطارده من قفاه.
لا معنى في الأمام، ولا في الوراء ما يستحق المعنى. لكن، لا تحكم على الحياة من مجرد إحساسك بفقدان المعنى، فذلك ليس من العدل.
على الأرجح، عاد ليكرر الخطأ ذاته، ويتلقّى هزيمةً جديدة من جهة الغبار. عاد متعطِّشًا للسباحة في الهاوية المفتوحة في جرثومة التاريخ الحاضر.
عندما كان يتسكّع بمفرده، حائرًا، ذات مساء، سأله الرصيفُ القذر البارد: من أنت أيها الصعلوك التائه؟
وسأله الشارعُ المزحوم بالتعساء: لماذا نحن هنا؟
وقال له صديقه عباس:
عِشْ بالتمرد الناضج، بالسخرية العميقة، ولا تبحث عن المعاني فالعالَم كله يفتقر إليها..
وقال له جاره السكران: لا تثق بالمعنى الذي تقدمه لك الأديان، لا تثق إلّا بعقلك الحر..
وها هي حبيبته تعانقه بقولها: لا تنكسر، في السجون أيضًا ينبت الوردُ..
فيأخذها إلى حضنه ويقول لها: حين ينمو الوردُ في قلب الطفل، تستيقظ غابةٌ من الذئاب في قلب الطاغية!
عاد المجنون إليكم بهذا السؤال القبيح:
أين المعنى في كل هذا الغُثَاء الكوني الخانِق؟