- طاهر شمسان
منذ أيام مضت تداولت وسائل التواصل الاجتماعي رأيا بشأن حرب السعودية ضد اليمن قاله جورج قرداحي قبل تعيينه وزيرا للإعلام في لبنان. قرداحي وصف هذه الحرب بأنها عبثية ويجب أن تتوقف مشيرا إلى أن الحوثيين يتصدون لعدوان واضح على بلدهم وأنهم في موقف الدفاع عن النفس. كلام قرداحي هذا جاء في برنامج (برلمان شعب) بثته الجزيرة أون لاين، ويحسب للرجل أنه كان شجاعا في إبداء رأي يعلم مسبقا أنه لن يوافق هوى كثيرين في اليمن وفي جواره الإقليمي. لقد كان بمقدور قرداحي أن يصدر رأيه بقدر كبير من الدبلوماسية لكنه آثر أن يكون صادقا مع نفسه وأن يقول دون مواربة ما بدا له على أنه الحقيقة.
وبصرف النظر عن كون قرداحي قوميا عروبيا له تاريخ معروف في هذا السياق وله انحيازات واضحة وصريحة للقضايا القومية العربية عبر عنها في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موقف قبل موقفه الأخير هذا، وبعضها كان متعلقا بالحرب في سوريا، وكلها مواقف معروفة ومعلنة في الميديا. وبصرف النظر أيضا عن كون الرجل يصدر عن أيديولوجيا وقناعات-من النوع الذي يجري تقييمه ضمن صراع المحاور في المنطقة -فإن ما يعنينا في هذا المقام هو ما أثاره تصريحه الأخير بشأن الحرب في اليمن دون أن نلتفت إلى موقعه في حكومة لبنان، فتلك من أمور السياسة، أما ما نريده في هذا المقال هو أن نمر بسرعة على المواقف المختلفة التي دارت حول التصريح (الرأي) المشار إليه وعلى وجه التحديد المواقف التي صدرت عن ناشطين يمنيين في مجال السياسة وفي وسائل التواصل الاجتماعي وذلك بعد سبع سنوات من العدوان الغاشم.
لقد استفز رأي قرداحي غرائزية بعض اليمنيين الذين ذهبوا يسرفون في ذم الرجل والتجني عليه وإعلان كراهتهم له عوضا عن التقاط كلامه والبناء عليه باعتباره صيحة تستدعي صحوة الضمير الوطني الذي باعوه مقابل دنيا رخيصة يصيبونها. وقليلون جدا هم أولئك الذين حاولوا أن يناقشوا رأي قرداحي بما له وما عليه في سياق الحرب على اليمن وليس في سياق شخصية الرجل والتفتيش في ضميره ومصادرة حقه في القول والتعبير.
ومبالغة في تشويه صورة قرداحي ذهب بعضهم يوهمنا بأنه قد قبض عليه متلبسا بجرم مشهود كان يخفيه وراء كارزميته التي تبدو على ظاهرها البشاشة والسماحة، وليس هذا الجرم شيئا سوى “اصطفاف” الرجل في المحور الإيراني ضد العرب والعروبة، مع أن مواقف قرداحي معروفة لنا من زمان وهي إن التقت في بعض تفاصيلها مع المحور الإيراني فلا يعني ذلك أن الرجل مرتهن في أحضان إيران، بل وليس من حق أحد أن يتهمه بذلك ولا أن يصادر عليه حق التحيز مع أي طرف كان سواء كان هذا الطرف هو إيران المعادية لإسرائيل أو الإمارات المطبعة معها والمتوددة لها.
إلى متى سنظل متهافتين على إنتاج التهم وصب اللعنات على المختلفين معنا ومصادرة حقهم في أن يصرحوا بما يرونه؟! إلى متى سنظل منشغلين بهذه المهاترات عما نعيشه في واقعنا اليمني البائس؟ إلى متى سنظل نستعرض غرائزيتنا في أقبح صورها وأبشع منطوقاتها؟! إلى متى سنظل نوهم المخدوعين بنا بأن ما نقوله هو وحده الصواب الذي يجب أن يؤخذ مستغلين مواقعنا وأمية جماهيرنا في تكريس رمزيات زائفة نستغلها أسوأ استغلال لتسويق ما ليس في صالح الوطن ولا المواطن.
كثيرا ما يجري الترويج في وسائل التواصل الاجتماعي لتحليلات سطحية تصدر عن مصطفين مع وضد، وكثيرا ما تستعر معارك الذم والقدح والمكايدات والملاسنات الشخصية لينشغل بها جمهور التواصل الاجتماعي عن القضية الأساسية وهي مشكلة الحرب في اليمن. وبدلا من البحث والتنقيب في جذر المشكلة نجد جمهور المتلقين مستغرقا في البحث عما قاله (س) في عرض (ص) وما قاله (ق) عن عمالة (ك)، وكل ذلك يمكن غض الطرف عنه على اعتبار أن من يتصدون لهذا النوع من التحليل المحسوب على السياسة هم ممن ليس لهم أي تأهيل علمي يعتد به وأن تحليلاتهم كلها من قبيل التنفيس والإنشاءات الذاتية التي تعبر عن الأنا والرغبة في جلب الأضواء. لكن الأمر يختلف كثيرا عندما تصدر تقييمات في غاية السطحية عن شخصيات رمزية متمرسة في السياسة أو هكذا استقر في وعي الناس، أو عن شخصيات في مواقع المسئولية، وأخرى لها تأهيل أكاديمي وعلمي رفيع يفترض أن يترتب عليه قدر ملحوظ من احترام الذات واحترام الآخر الذي يتلقى عنها.
إن مصيبتنا في الحرب الراهنة أن مشعليها من الداخل هم أكثر من في اليمن غرائزية والأكثر بعدا عن العقلانية لأسباب موضوعية في تكوينهم وفي التمكين لهم، غير أن المصيبة تكون أكثر خطورة عندما تأتي من أولئك الذين يقدمون أنفسهم على أنهم أرباب المعرفة من القيادات الثقافية والسياسية للمجتمع وفي الوقت نفسه يهربون من التشخيص الموضوعي للمشكلة واقتراح المعالجات الدقيقة إلى التسلي بإنشاءات فيسبوكية تضليلية يزايدون بها ويتكسبون منها في وقت يعاني فيه اليمن من تكالب الساسة الحمقى ومشاريع التمزيق الإقليمية ويعيش فيه ملايين اليمنيين ظروفا مأساوية يبدو معها الموت رحمة وكرامة.
يا سادة يا كرام: إن تصريحاتكم الدنكشيوتية المكرورة لا تفعل شيئا سوى إضافة المزيد من البلبلة والغموض وإلهاء المخدوعين بكم عن جوهر القضية وتحويلهم إلى جمهور من الشتامين الغارقين في الغرائزية والانفعالات والتقييمات الجوفاء.
يا سادة يا كرام: إن جذر الحرب موجود في العقل اليمني أي في بنية الوعي المتخلفة التي تتساوون فيها مع عبد الملك الحوثي وعلي عبد الله صالح وعبده ربه منصور هادي وعلي محسن الأحمر وحميد الأحمر والزنداني والآنسي واليدومي وعيدروس الزبيدي وهاني بن بريك وكل من يُنظِّر لهم ويبرر أفعالهم. ولو أننا نظرنا إلى الأمر بهدوء سنجد أن المشكلة تكمن في الطريقة التي يُحكَمُ بها هذا البلد وتدار بها خيراته وموارده وثرواته، ومن هذا الجذر تتكاثر كل مشكلاتنا على امتداد تاريخ طويل من الصراعات والحروب ودورات العنف. وعوضا عن هدر الطاقات في مهاجمة قرداحي وغير قرداحي علينا أن ننظر في أسباب الحرب وأن نعمل على إنهائها بأي كلفة كانت ننتصر فيها وبها للوطن والمواطن بعيدا عن المحاور والاصطفافات التي يدفع اليمنيون ثمنها دما غزيرا.
يا سادة يا كرام: بمقدوركم أن تستثمروا خبراتكم السياسية ومواقعكم الرمزية في اجتراح الحلول والمعالجات وإنتاج الرؤى بدلا من الإدمان على المعارك الفيسبوكية، واعلموا أن الوطن يحتاج إليكم في الداخل مهما كان الثمن فليس دم أحد منكم أغلى من دماء اليمنيين الذين خدعوا بكم وتركوكم تصنعون على حسابهم الجاه والمال والمكانة الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ما أسهل ان ندين جورج قرداحي أو ان نمدحه ولكن ما لا نريد أن نبحث فيه هو تلك الذهنية التي تسمترىء الحروب في الداخل والخارج.
صار من الصعوبة بمكان ان نبحث عن الحل وأن نتضامن من أجله، وأن ننشىء سردية وطنية جامعة!
صنعاء 30 أكتوبر 2021