- عبدالرحمن بجاش
يخاف الناس من الموت ، يعتمد الأمر على التربية …
الشعوب المتقدمة تعرف انه خاتمة الحياة ، لا يدوم سوى المعبود ..لذلك لا يشغلون انفسهم بالخوف منه ، يظلون ينجزون كأنهم يموتون غدا …
الفراق هو الذي يخيف ، ان تجد عزيزا لديك وقد غادرها ورحل وبدون حتى استئذان أو أدإعلام …
يكون للموت هنا فضيلة، تقف لحظة لتستعيد أنفاسك اللاهثة ، وتستعرض الفيلم من أوله ، والأهم أنك تستعيد الإنسان فيك ، التفكر في الكون ، وفي نفسك ، ما قدمت ، وما بقي ، هذا إذا كنت واعيا …
اللطم على الخدود لايجدي ، فالحياة لابد أن تتواصل ، لابد …
أجمل مافي الموت ربما لحظة اعادة ترتيب قيمك ، ومن خلالها تعيد تقييم كل ما أنت عليه ، حتى حكمك على الآخرين ، ففي لحظة شطط قد تضع إنسان ما في خانة اللاقيم ، وتذهب بعيدا في قراءته ، يأتي الموت ، فإذا كنت شجاعا أعدت الأمور إلى نصابها ..
أسوأ الأمور أن تظل تكتشف الآخرين بعد أن يرحلوا ….
هذا الإنسان هو من جعلني أكتشفه في حياته ، أكتشفته شجاعا …
متى ؟
عندما ظهر على الناس هنا وقال : أنا مصاب بالسرطان …ما قاله جعلني أعيد ترتيب أجزاء الصورة ، فإن تكون نظيف النفس أزرق الروح كالسماء مافي قلبك على لسانك فأنت شجاع …شجاع إلى حد القسوة ، صريح إلى حد أن تجرح ، الجرح الذي لا يسيل منه الدم …
الدكتور عبد الرحمن جميل كان شجاعا ، وكنا نقرأه بضيق اللحظة ومشاعرنا حينها ، تأتي أحكامنا متسرعة ، يأتي الموت وهنا الحكمة يرفع أمامك الاشارة الحمراء ” قف هنا ” وراجع …
يوم أن كتبت أشيد بشجاعته ، أتصل بي مرتاحا ، وهكذا هو الإنسان تفرحه الكلمة الطيبة ، وبشجاعته أشاد الناس جميعهم، وظل طوال الوقت يتعامل مع الحالة بشجاعة وفهم ..
أنقطعنا لبعض الوقت انقطاعا تاما ، وأنا من النوع الذي لا أقطع نهائيا ، تأتي لحظة أحن إلى هذا وذاك ، عندي القدرة على تجاوز المواقف، ومد الجسور…
أتصلت به ، جاء صوته كالمعتاد جهوريا : ” أيش هذه المفاجأة ياعبد” ، هكذا كان يدللني رحمه الله ، لا أريد أن أظهر في هذه اللحظة العاطفية منافقا وأقول أنه كان الإنسان الذي لا قبله ولا بعده ، فقد كان رحمه الله إنسانا كأي منا ، له سلبياته وله ايجابياته ، جاء الموت ليعزز الإيجابي منها ، قال : ” ظننت أنك حظرتني وقاطعتني ،- كان قد حصل ثمة موقف جعلنا نزعل من بعض – ، قلت لايمكن ، وذهب يضحك وبصوته العالي المفخخ بالضحكة العالية تجاوزنا ما حصل ، ورحت أسأله عن حاله ، وتكلمنا كثيرا ، كان مرتاحا جدا لاتصالي ، هكذا يفرح كطفل سريعا ، ويعود كلمعة البرق ….
الدكتور عبدالرحمن تربطني به علاقة قرابة تجمعنا بأخوته الشيخ درهم سعيد فارع رحمه الله ، وفؤاد له الرحمة ، وفيصل أطال الله في عمره ، أخوته من والدته واللواء النبيل محمد سعيد فارع فرع من فروع الشجرة اليانعة الظلال…
والدته شهد أو هند مننا ، تنحدر من أصلنا ، ولذلك يخاطبون والدي ب” الخال ” ..وأنا كنت أنادي تلك المرأة التي ربت رجالا يشار إليهم بالبنان ، كانت من قوة شخصيتها أن تجبر كل من يقترب منها على احترامها ، كنت أناديها :” ياعمة ” ، ويا ويلي لو أسأت لأهلها بكلمة …
كانت تحب عبدالرحمن باعتباره :” الجحاشة ” ، والنساء يحببن المولود الأخير بشغف …
ذكريات حميمة جمعتنا بهم منذ الصغر، حكيت عنها مرات كثيرة ، وكلما كنت أختلي به أهمس في أذنه : أين ذهبت بحمارك الصغير؟؟؟ ، فتصدر عنه ضحكة مدوية : أحترم نفسك أيش من حمار…
كان ناجحا ومتميزا كاخوته ، بدأ في الحديدة ، يرحم الله الأخ الأكبر عبدالحميد جميل فارع ، وذلك الذي لايزال الحزن يسكن نفوسنا عليه الدكتور محمد جميل فارع ….شق طريقه دارسا حتى أكمل في الإتحاد السوفيتي ..
الدكتور عبد الرحمن جميل سعيد فارع من جيل الحلم، الجيل الذي فتح عينيه على صوت المذيع :” هنا صنعاء إذاعة الجمهورية العربية اليمنية ” مبشرا بالثورة ، ليتجه أمثاله بحماس لاحدود له نحو المدارس، يتذكر معي ويتذكر من مر على شارع 26 سبتمبر العظيم بتعز أن ” بن ناصر” كان أحد علاماته ، وكان يشتم الذاهب والآتي ، بل ويستأجره من يدفع ليشتم من يريد ، كان بن ناصر عندما يرى طلبة يحملون الكتب بأيديهم يقف رافعا يده بالتحية ، لست أنا من شاهده ، بل كل البلاد التي كانت في ذلك الشارع الذي مرت منه اليمن ومن شارع صنعاء وقلب تهامة تتدفق إلى شارع علي عبد المغني تبحث عن الكتاب والدفتر والقلم من أجل المستقبل ، وتبحث عن السلاح لتدافع عن الحلم الكبير….
حتى إذا تدفق المال على الأدوات قتلوا كل جميل في حياتنا ….
الدكتور محمد جميل فارع مبدع كبير، حرم من التدريس في كلية الطب بجامعة صنعاء لأنه فقط أكثر كفاءة من الذي حرمه !!!!
عاد جميلنا من الاتحاد السوفيتي محملا بالحماس والآمال الكبار لرد الجميل للوطن وغيره الآلاف …
لكن ” حزب اعداء الحلم ” أبى إلا أن يقف في طريقهم ، ليعيد بسطوة الأمن والتجويع والتشريد والتصنيف القسري ، والاخفاء أمثاله إلى البيوت …
أعيد الدكتور عبدالرحمن إلى البيت بعد أن كان مديرا عاما للصيدلة في وزارة الصحة، أعاده الحزب الحقير اياه ….
لم يحبط ، نقل سلاحه إلى الكتف الآخر، وحارب في جبهة أخرى ، ربى وعلم أولاده لتراهم الآن علامات ناجحة ، أسامة ، أحمد ، إياد ، أكرم ، فانتصر هنا …
لاتزال ضحكته تدوي في الإنحاء منتصرا…
سينتصر جيل الحلم يوما بواسطة الأجيال القادمة ، لا مفر، فالعالم يذهب بعيدا بالعلم ، وهنا من يتقاعس ستجرفه الروبوتات ….
نم يا صاحبي بسلام ، عليك سلام الله …