- عبدالكريم الرازحي
كان القاضي شاهر موجودا في الساحة لحظة وصول العسكر وعندما ابدى استنكاره، واستياءه من استحضار، وجلب العسكر الى القرية قال له وكيل الشريعة حمود السلتوم :
- “ياقاضي شاهر الميت يضرب غصون كل ليلة ونحنا خايفين عليها “
واردف وكيل الشريعة قائلا بانه ذهب الى الحكومة برغبة اهل القرية وبتوكيل وتكليف منهم.
لكن اهل القرية انكروا انهم وكّلوه بالذهاب للحكومة ليجلب العسكر.. وانقسموا حول وجود العسكر في قريتهم. بعضهم ايّدَ ،والبعض الآخرعارض وجودهم. وهناك من اتهم وكيل الشريعة حمود السلتوم بأنه استغلّ مخاوف اهل القرية من الرجل الميت وطلب من الحاكم ارسال العسكر لغرض في نفسه ،وفي نفس الحاكم .
وبعد ان انقسموا حول وجود العسكر وتباينت مواقفهم.. انقسموا ثانية حول الرجل الميت وحول ماذا سيكون رد فعله :
هل سيخرج من بيته ويمضي مع العسكر الى بيت الحكومة!! ام سيرفض الخروج!!
بعضهم قال سيخرج ..والبعض الآخر قال لن يخرج. وقال صالح الدقم :
-” نحنا العكابر نخاف من العساكر وعسكري واحد يقدر يسوقنا قدّامه مثل الغنم لكن سلطان الملح ميّت والميّت مايخاف من العسكر.
قال له سيف الطويل :
-“هولا ياصالح عسكر الدولة معاهم صميل يخلي الميت يقوم من سابع موتة”
واختلفوا حول الرجل الميت: وهل هو ميت؟ ام لا؟ وقال بعضهم بانه ميت.. بدليل ماحدث للجدة فازعة وقال البعض الآخر بأنه ليس ميتاً بدليل انه يضربُ زوجته غصون ويوسعها ضربا ويجعلها تصرخ طوال الليل من الالم .
ثم اختلفوا حول صراخ غصون وهل هي تصرخ من الالم ام من اللذة!! وفيما هم مختلفون ومنقسمون على انفسهم كان العسكر يخبطون باب الرجل الميت وينادونه ان يخرج :
-” اخرج ياسلطان الملح “
-“جاوب الحكومة ياسلطان الملح”
وعندما اطلت غصون من طاقة الديوان وقالت لهم :
-” سلطان ميت “
قالوا لها : امر الحكومة يمشي على الحي والميت
وراحوا يخبطون الباب بقوة اشد ليجبروه على الخروج .
كان خبر وجود كنز في بيت الرجل الميت قد فاقم حقد اهل القرية وقال عبده قاسم :
- هذا بخيل ..من بخله، ومن خوفه على الكنز كذب على فازعة، وعلينا ،وعمل نفسه ميت من اجل يحمي كنزه مننا وكأننا في نظره سرق .
وبسبب غضبهم من سلطان الملح الذي اخفى كنزه عنهم ،واخفى نفسه، واعتصم ببيته.
تملكتهم رغبة في الانتقام وصاحوا قائلين : - “اللي مايحب لقريته الخير مانحب له الخير والحاكم احق بالكنز “
وقال مبخوت الهكب :
-” الكنز من نصيب الحاكم وغصون من نصيب القاضي شاهر ونحنا علينا ندفع اجرة حمود السلتوم وكيل الشريعة اللي جلب لنا العسكر “
ولحظتها ارتفعت اصوات تطالب بطرد العسكر من القرية ومنع الحاكم من الاستيلاء على الكنز لكن هذه الاصوات سرعان ماتلاشت واختفت وخفتت في خضمّ الاصوات القوية والعالية وكان وكيل الشريعة حمود السلتوم كلما خف غضب اهل القرية على الرجل الميت وخفّت اصواتهم راح يذكرهم بالشلل الذي اصاب فازعة : - “رجع بس يفجّع فازعة ويسبِّب لها مرض الفالج “
ولشدة حقدهم عليه راحوا ينتظرون خروجه من بيته ليلعنوه ويشفوا غليلهم منه .
اما القاضي شاهر فكان قد وسّط لزوجة الرجل الميت خالتها قبول كيما تقنعها بأن الحي افضل من الميت .وهو رغم معارضته لوجود العسكر الذين جلبهم حمود السلتوم للقرية الاانه كان يشعر بان حموداوهو يتآمر مع الحاكم للوصول الى الكنز يمهد في نفس الوقت الطريق له للوصول الى غصون . وكان يشعر في قرارة نفسه بأنه سوف يُجنُّ ويصاب بالجنون ان لم يتزوج غصون ويكسرها بعد ان كسرته
وكانت غصون قد كسرته مرتين .مرة عندما فضّلت الغائب على الحاضر .ومرة اخرى عندما فضلت الميت على الحي.
ارتفع صوت أذان المغرب وذهب الكل للصلاة في المسجد وبعد الصلاة عادوا الى بيوتهم ولم يبق في الخارج سوى عسكر الدولة لكنهم بعد ان خلت الساحة من اهل القرية وانتشر الظلام
داخلهم شعور بالخوف ثم مالبثوا ان سمعوا صوتاَ خافتاً وكان ذلك صوت فازعة .
قالت لهم وهي تمُطُّ رقبتها من شباك غرفة نومها وتمُطُّ صوتها ليسمعوها :
-“روِّحوا ياعيالي مابكمش سخَا.. الميّت لوخرج وانتم بباب بيته شِتْقَنَّشْكُم ”
وكان ان سرت قشعريرة رعب في اجساد العساكر وراحوا يستفسرون منها عن الرجل الميت وهل هو ميت حقاًام ان زوجته تخوّفهم !!
وحكت لهم فازعةكيف انها اول من راتهُ عند عودته من البحر، واول من تكلمت معه ،و كيف انها اصيبت بالشلل ،واصبحت عاجزة عن الحركة.
وسالوها عماتقصده بقولها : شِتْقَنَّشْكُم !!
قالت لهم بأن الميت يخرج بالليل من بيته ويهبط الى المقبرة ولو هو ابصرهم عند باب بيته اوصادفهم في طريقه سوف يسحبهم معه الى العالم السفلي .
وكانت فازعة من حين وصول الرجل الميت ماتنفكُّ تتحدث عنه ، وعن عالم الموتى، و عن الزيارات التي يقوم بها الموتى لبعضهم البعض .وكيف ان اكفانهم تضيئ في الليل وتملأالمقبرة بالأضواء.
حين سالها العسكر عن موعد خروج الرجل الميت!! قالت فازعة :
-” الميت يخرج بعد صلاة العشاء وهو لابس حقه الكفن .”
وبعد كلام فازعة شعروا كمالوان الرجل الميت على وشك ان يظهر لهم ،ويتجسّد امامهم. ولشدة ماكانوا مرعوبين غادروا القرية ولاذوا بالفرار .لكن فازعة وهي تحدثهم عن خروج الرجل الميت من بيته ونزوله الى المقبرة لم تكن تخترع لهم، اوتؤلف حكاية مرعبة من راسها لترعبهم ،وتجبرهم على الرحيل .وانما كانت تقول لهم ماتراه ،وماراته بعينيها.
كانت قد اشتهرت بقدرتها على التواصل مع القوى الخارقة،ومع الشجر ،والحجر، ومع الينابيع، وكافة قوى الطبيعة حتى انها اثناء ذهابها الى اي مكان في القرية كثيرا ماكانت تتوقف لتتكلم مع حجر او عُشْب .اولتسلم على صخرة اوشجرة.
وقيل بأن الوحي الذي بدأ يتنزّلُ عليها من حين انقطاع دورتها الشهرية لم ينقطع ولم يتوقف عن النزول. وحتى بعد ان اصيبت بالشلل استمر الوحي يتنزَّل عليها لكنها من قبل وصول الرجل الميت ،ومن قبل إصابتها بالشلل .كانت تصعد لسقيفة بيتها لتلقِّي الوحي اما بعد ان اصيبت بالشلل، وغدت مقعدةً في غرفة نومها .فقدكان الوحي ينزل اليها ،و يتنزّلُ عليها وهي متخشِّبة فوق سرير نومها. وكانت فازعة هي اول من عرفت بخبر الكنز الذي جلبه الميت ،وهي التي اخبرت نساء القريةوقالت لهن بان سلطان الملح باع روحه للبحر مقابل الكنز :
-” سلطان يانسوان من طمعه بكنوز البحر باع للبحر روحه ورجع مملوح جسد بلا روح “
كانت فازعة امراة ذات مخيِّلة جامحة. وكانت مخيِّلتها تقومُ بوظيفة عقلها، وبوظائف حواسها الخمس .وطوال عمرها- وحتى من قبل ان يتنزّل الوحي عليها-وهي تفكر و ترى وتسمع بخيالها.ترى الجن ،والعفاريت ،والملائكة، والشياطين، وتسمع اصواتهم. ومن بعد ان اصيبت بالشلل حرصت ان تكون قعادتها ملاصقة للشباك المطل على الساحة،وعلى المقبرة، لترى كل مايجري في عالم القريةوفي عالم الموتى . ولانها صادقة ولاتعرف الكذب فقد كان هناك من يصدقها حتى عندما تقول أشياء لاتُصدّق .وعندما قالت لنساء القرية بان الرجل الميت يخرج بعد صلاة العشاء من بيته متجها الى المقبرة صدّقنها مع ان الحقيقة هي ان الرجل الميت منذ عودته لم يخرج من داره ولم يغادرها لافي الليل ولافي النهار .
كان كل ليلة يصعد الى سطح الدار بعد ان ينتهي من شنق اليهودي وهناك في سطح داره المطلة على المقبرة يشعر كأنه في ظهر السفينة يسترجع حياته في البحر، ويسترجع ذكرياته عن المدن والنساء، ويظل يحدق في النجوم التي تملا السماء . فقد كان له من بين تلك الاعداد الهائلة نجوم صديقة يحبها ،ويحب ان يستعيد ذكرياته معها .ومثلما كان الليل في البحر احب اليه من نهاره كان ليل القرية احب اليه من نهارها. ولشدة ماكان يعشق ليل القرية كان يبقى في السقف الى الفجر حتى اذا نزل لينام وجد زوجته غصون تنتظره بقميص نومها الازرق بلون البحر.
في صباح اليوم التالي عندماعرف اهل القرية بأن العساكر خافوا من الرجل الميت ولاذوا بالفرار تأكد لهم بان موت سلطان الملح كان موتا حقيقياوليس مجازا وعندها تفاقم خوفهم من الرجل الميت. واما النساء لشدة خوفهن على اطفالهن فقد رحن ينصحنهم ويطلبن منهم عند المرور من امام بيت الرجل الميت ان يمروا سريعا وعيونهم لاصقة بالارض ولايلتفتوا ناحية البيت اوناحيةالطاقة وقلن يحذرنهم :
- “كونوا اجروا جري وعيونكم بالقاع والتهموا تلتفتوا للطاقة “
وحين سال الاطفال امهاتهم عن سبب تحذيراتهن لهم بعدم الالتفات الى الطاقة قلن لهم : - “الميت يجلس جنب الطاقة واللي يلفت لاجهة الطاقة ويبصر الميت ،
والاالميت يبصره يبكر ميت .”
لكن الطفل فُرَيْسْ قال لاترابه الاطفال : - اقدر الفت لاجهة الطاقة واعمل سلام للميت
قالوا له : ماتقدرش يافُرَيْسْ
قال لهم :تتحدونا
قالواله : نتحداك
ومثلما باع سلطان الملح روحه للبحر مقابل الكنز
كان الطفل فريس على استعداد لان يبيع روحه مقابل حلوى الطحينية