- عبدالكريم الرازحي
منذ ان عاد رجلها الميت من البحر، عاد النبض إلى قلبها ،والدم إلى عروقها ،والابتسامة إلى شفتيها، والروح إلى جسدها، وبعد إن كانت ضامرة شديدة النحول، دوما عابسة وملامحها حزينة وبائسة، أضحت في خلال أسبوع خضراء مزهرة، ومتوردة الخدود، وفي وجهها فرح طفلة وجدت لعبتها الضائعة.
وحتى تغيض نساء القرية اللاتي قاطعنها ،ونبذنها، وعزلنها، ونفرن منها، ومن الحديث معها
كانت كلما خرجت لجلب الماء من النبع تخرج بملابس نساء البحر وهي بكامل زينتها، وعنقها يزدان بعقود اللؤلؤ والمرجان ،وتبدو كأنها سلطانة تمشي متبخترة ومختالة بالحلي والحُلَل ، لكن نساء القرية كن يلمزنها كلما مرت من أمامهن ،ويتهامس قائلات :
-” موينفع الفشرة والزوج ميت !!”
وكان ان أزددن حقداً عليها، واحتقاراً لها، وشماتةً بها ،بعد أن سمعن من جارتها سُفَرْجَلة بأن الرجل الميت يضربها، ويوسعها ضربا، ولشدة احتقارهن لها صرن يتعففن من ذكر اسمها، وإذا ذكرنها يذكرنها بصفتها :” زوجة الميت”
لكن غصونا كانت غير مكترثة بمقاطعة نساء القرية لها وكانت مكتفية برجلها الميت ولاتغادر بيتها وإذا غادرته تخرج على عجل وتعود على عجل حتى إذا وصلت ووضعت جرة الماء في المطبخ أو في بيت الماء جرت تستلقي بقرب زوجها الميت وتظل تتشمّمه، وتتمسّح به، وتدعك نهديها فوق صدره المالح ملوحة البحر، وتنتظر موعد قيامته .
بعد مرور ادأسبوع على عودته تبين لها بأن سلطان الميت أفضل من سلطان الحي الذي عرفته قبل ذهابه إلى البحر. كان لايعصي لها أمرا ، ولايعترض على ماتقوله، أو تفعله ، ولايغضب منها ، ولايرفع صوته فوق صوتها ،لكن أكثر ماكان يعجبها فيه هو انها كلما طلبت منه ان يلعب معها لعبة شنق اليهودي يلبي طلبها، ولايتردد. ولكثرة ما أعجبتها تلك اللعبة كانت حتى في غير أوقات اللعب تدنو منه وتمسك بآلة الشنق وتقول له بغنج وهي تنفخ فيها من روحها :
-“هيا يا سلطان يا حبيبي قم اشنق اليهودي “
وكان هو يلبي رغبتها ، ويعمل جهد طاقته لإسعادها، والترفيه عنها، وتعويضها عن السنوات العشر التي قضاها في البحر بعيدا عنها .
وبعد أن كانت الأيام والليالي تمر عليها بطيئة، ثقيلة، رتيبة ومملة، بما في ذلك ايام وليالي العيد غدت كل ايامها ولياليها أعيادا، ولم يحدث أبدا أن شعرت بالملل، أو بالرتابة، أو ساورها شعور بالضجر. والسبب أن رجلها الميت -بعد إن شبع من رؤية العالم والناس -صار ملكها، وصار من حسن حظها أنه عاد إليها والعالم كله في جعبته. وكان في الأوقات مابين شنقٍ وآخر يحكي لها حكايات عن البحر، وعن عالم ماوراء البحر، وهي تصغي، و تنصت إلى حديثه، وتستمتع بحكاياته، وتشعر وهو يحكي بقشعريرة لذيذة شبيهة بتلك القشعريرة التي تجتاح جسدها أثناء الجماع:
-“خبرك ياسلطان حالي يخلِّيني اقَشْبِبْ”
كانت تنسحر بحكاياته عن البحر، وعن العالم الذي ذهب إليه ، وكانت تُستَثارُ، وتشعر وهو يحدثها عن العالم الواسع بأنوثتها تتمدد وتتسع ويخالجها احساس بعد ان ينتهي من حديثه بانها اكثر انوثة من كل النساء في القرية وبان زوجها الميت أكثر حياة من كل الأحياء وأكثر حضورا.
كانت سعيدة معه إلى درجة لاتُصدّق ولم يكن ثمة ماينغِّصُ عليها سعادتها سوى نساء مدن البحر . إذ كلما تخيّلت ماكان يفعلهُ رجلها معهنّ يتملّكها شعورٌ بالغيرة منهن وبالغضب من رجلها الميت وتقول محدثة نفسها :
- “عشر سنين وهو يلعب معاهن لعبة شنق اليهودي والله ماسامحه على الشهوة اللي سكبها ببطونهن “
وكثيرا ماتمنّت لوانه حيٌ كيما تعاقبه على خياناته لها ..وكانت تقول بينها وبين ونفسها :
-” والله لو هو حي كنتو قطعتو زبُّه ورجمتوبُه للأدمم “
لكن غصونا كانت تعرف كيف توظف تلك الغيرة لصالحها !!وكيف تستخدمها وقود للوصول إلى ذرى شاهقة من النشوة!!
وذات ليلة كانت صرخاتها من فرط نشوتها قد تخطّت سقفها، وتجاوزت حدودها، ووصلت إلى أقصى مدىً لها، وكان ان تباينت التفسيرات، والتاويلات بشأن صرخاتها تلك، وهل هي صرخات ألم ووجع، أم هي صرخات لذة ونشوة ،وهل الرجل الميت يضربها !! أم يعاشرها !!
وبسبب تباين التفسيرات تباينت ردود الفعل وكان وكيل الشريعة حمود السلتوم قد راح يهوِّل من الخطر الذي قد ينتج عن وجود الرجل الميت في القرية ولم يكن يهمه إن كان يضرب زوجته أم يعاشرها !!وانما كان كل همه هو أن يستفيد من تلك الخلافات ومن تلك المخاوف، وباعتباره وكيل شريعة أستغل خوف أهل القرية من الرجل الميت وكراهية نساء القرية لزوجة الميت وراح يعزف على وتري الخوف والكراهية، وكان إن وثق به أهل القرية ووكّلوهُ للتحدث نيابة عنهم وتقديم شكوى باسمهم وذهب حمود السلتوم إلى بيت الحكومة وتكلم أمام الحاكم عن الرجل الميت وعن مخاوف أهل القرية من وجوده
قال له القاضي غالب يسأله : - كيف عرفتم ياحمود إنه ميت ؟
قال له حمود السلتوم : - كلهم أهل القرية ياقاضي غالب يشهدوا إنه رجع من البحر ميت ..
وزوجته غصون بعدما راح القاضي شاهر يشتي يزوره ظهرت من الطاقة وقالت له :
-سلطان ميت
وأكبر دليل ياقاضي على موته هو انه مايخرجش من بيته كل اللي يرجعوا من البحر يوم ثاني يخرجوا ويسلِّموا على أهل القرية هذاماخرجش من حين وصل ويوم وصوله اعترف ل فازعة وقال لها بأنه رجع من البحر وهو ميت .
وراح وكيل الشريعة يحدث حاكم حيفان عن زوجته غصون وكيف أنها تخرج وهي بكامل زينتها وجيدها يزدان بعقود اللؤلؤ والمرجان وقال له : - “يقولوا ياقاضي غالب رجع ومعه كنز”
قال القاضي غالب وقد اخذ لعابه يسيل : “ميت وإلا حي لابد من القبض عليه “
وسرعان ما أنتشر الخبر وراح الناس الذين كانوا موجودين في بيت الحكومة من جميع القرى يتحدثون عن الرجل الميت الذي عاد من البحر، وعن الكنز الذي في بيته، وعن القاضي غالب الذي أمر بالقبض عليه وكان بعضهم يثني على القاضي غالب ويقول مادحا : - “القاضي غالب حقّاني يحكم على الحي والميت.”
والبعض الآخر يذمُّه قائلا : - “القاضي غالب لا حي يرحم ولا ميت “
وبعد صلاة العصر عاد وكيل الشريعة حمود السلتوم بصحبة ثلاثة من العسكر ..
وكان أهل القرية الذين تجمعوا في الساحة يرقبون العسكر الثلاثة وهم يتقدمون باتجاه بيت الرجل الميت وينتظرون على قلق ما الذي سوف يحدث !!
يتبع ..