- عبدالكريم الرازحي
حين اخبروا القاضي شاهر بعودة سلطان المِلْحْ قال وقد تفاجأ بالخبر :
-” اذا رجع فمعنى هذا انه مامتش، اوانه غرق ونجا من الموت ،اوربما خبر موته الذي وصل الينا خبر كاذب “
قال له مبخُوت الهَكَبْ :
-“سلطان ياقاضي شاهررجع ميّت “
قال القاضي شاهروقدتفاجأ :
-“موتقول يامبخوت !! رجع ميت !!”
واكد له مبخوت بأنه رجع ميتاً .واخبره بماحدث للجدة فازعة وكيف انها اصبحت مشلولة بنصف جسد ،ونصف عقل، ونصف صوت .
لكن القاضي شاهر صاحب المقولة الشهيرة :” الموتى لايعودون من الموت” سخر من كلامهم، ولم يقتنع بخبر عودة سلطان الملح ميتا. واقترح على ا لموجودين في ساحة القرية زيارته، والسلام عليه، والاطمئنان على صحته، وكذا تهنئته بسلامة العودة.
غير انه لااحد من الموجودين وافق على اقتراحه والسبب انهم جميعا كان لديهم يقين بأنه ميت .
قال له حمود السَّلتُوم -وقد لاحظ تصميمه على زيارة الرجل الميت- :
-” ماتنساش ياقاضي شاهر بأن بينك وبين سلطان ثأر!!
قال القاضي شاهر- وقد لسعتهُ كلماته حدّ الوجع- :
-” موقدك تخرّف ياحمود !! مو من ثأر بيني وبين سلطان !!”
قال حمود السلتوم وهو يبتسم ابتسامةً ذات مغزى :
- “لوانت نسيت ياقاضي علينا نذكرك .. كنت طمعان بزوجته غصون وكنت ناوي تتزوجها .. ولوسلطان رجع من البحر وهو حي ..كان شسامحك ..لكن رجع ميت والميت حتى لومات ثأره لايموت.
وبعد كلام حمود السلتوم تردّدالقاضي شاهر وكان على وشك ان يحجم عن الذهاب. لكنه شعر بان التراجع بات صعباً فكان ان حسم امره، وقرر الذهاب.
عند وصوله بيت الرجل الميت راح يطرق الباب ويواصل الطرق لكن لااحد رد عليه .
وقبل ان يفكر بالانصراف اطلّت غصون من طاقة الديوان وهي بكامل زينتها وانوثتها وعندما ابصرته في الباب تجاهلته وقالت كأنهالاتعرفه :
-” منو يدق الباب ؟”
قال لها القاضي شاهر :”اناياغصون”
قالت غصون – :” منو انت ؟”
قال وهو مستفز من تجاهلها له :” انا القاضي شاهر “
وسالته عماجاء به!! فقال لها بانه جاء ليسلم على زوجها سلطان الملح.
قالت له غصون بنبرة محتدّة وهي تغلق الطاقة :
-” سلطان ميت ياقاضي “
لحظتها سرت قشعريرة رعب في جسده واستدار راجعا الى الساحة وهو في حالة ذعر وذهول وحنق وراح يتساءل بينه وبين نفسه :
-“هل معقول سلطان الملح ميت!! واذاهو ميت ايش اللي يخلِّي غصون تظهر من الطاقة وهي بكامل زينتها وانوثتها !!وايش اللي يخلِّيها تتجاهلنا وتسأل من انا!! وكأنها لاتعرفنا وهي داري اننا القاضي شاهر الذي يحبل النسوان من اول ليلة!!
كان زعلانا من غصون وحاقدا عليها وفي نفس الوقت تعاظم حبه لها وصار يحبها بحقد ويشتهيها بجنون
عند عودته الى الساحة تحلّقوا حوله يسالونه عن زيارته للرجل الميت فكان ان اخبرهم برد غصون وكيف انهاظهرت من الطاقة وهي بكامل زينتها وقالت له :
- “سلطان ميت”
وعندها شعر كل اولئك المتواجدين في الساحة بأن وجود غصون في بيت رجل ميت امرٌ غير طبيعي وقال حمود السَّلتُوم مخاطباً القاضي شاهر والموجودين :
-” مارايك ذلحين ياقاضي شاهر!! مارايكم ياجماعة!! هل معقول نترك الرجل الميت يعاشر غصون !! هل هذا يجوز!! “
قالو يسألونه : “كيف عرفت ياحمود انه يعاشرها !!
وذكرهم حمود السلتوم بماقاله القاضي شاهر عن غصون وكيف انها ظهرت من الطاقة وهي بكامل زينتها
وحتى يقنع الحاضرين بانه يعاشرها قال لهم :
-خالتها قبول طلبت منها الخروج من بيت الميت والرجوع الى بيت اهلها وهي ترفض.
وبعد كلام حمود السلتوم ارتفعت اصوات غاضبة تطالب بإخراج غصون من بيت الرجل الميت ولو بالقوة .
وعندما ابصر حمود السلتوم القاضي شاهر صامتاً شارداً قال يستفزّه : - “القاضي شاهر باين عليه زعلان وغيران لان الرجل الميت يعاشر غصون “
قال مبخوت الهكب في محاولة منه لمواساة القاضي شاهر : - “غصون ياحمود هي الخاسر. لان زوجها سلطان ولو يعاشرها مايقدرش يحبلها لأنه ميت لكن القاضي شاهر حبّل زوجاته الثلاث اكثر من مرة. ويقدر يحبّل المرة وهي ميِّت “
ولحظتها ابتسم القاضي شاهر ونطق وقال لهم : - “غصون زوجته ومش من حقنا نخرجها من بيت زوجها “
قال حمود السلتوم معترضا : - الامن حقنا ياقاضي.. وعيب في حقنا نتركها تنام مع الرجل الميت وكأن القرية خلت من الرجال” واضاف قائلا :
- غصون هذي مغرورة وبها كِبْر .. بعد خبر موت سلطان زوجها تقدموا لها كثيرين وانت ياقاضي واحد منهم لكنها ردتكم كلكم وكأنها تشتي تقول :
-” سلطان الميت افضل من رجال القرية كلهم “
وفيمالاذ القاضي شاهر بالصمت قال الموجودون في الساحة بأن ماقاله حمود السلتوم صحيح وطلبوا من القاضي شاهر ان يفتيهم : - قل لنا ياقاضي شاهر:” هل يجوز لها تنام مع زوجها وهو ميت؟”
لكن القاضي شاهر لاذ بالصمت. بعد ان غرقت القرية في الظلام .استيقظ الرجل الميت من نومه وطلب من زوجته غصون ان تلحق به الى غرفة المفرش كيما يريها الكنز الذي احضره لها.
كان الكنز يتكون من ثلاثة صناديق كل صندوق اكبر من الآخر. كان الصندوق الاصغر مليئا بالعملات الورقية والمعدنية. الفضية منها والذهبية. وكان في ظن الرجل الميت وهو يفتحه بان غصونا حين ترى كل تلك النقود سوف تشهق من الفرح. لكنها راحت تنظر لمحتويات صندوقه بلا مبالاة ،وبدون اكتراث، ولم يصدر عنها مايشي بالدهشة ،او بالفرح .
وشعرالرجل الميت بامتعاض من موقفها ثم فتح الصندوق الثاني وكان اكبر من الاول و يحتوي على عقود من اللؤلؤ والمرجان .لكنه حين راح يختلس النظر اليها ليرى ردة فعلها وجدها في حالة شرود تنظر ببرود، وبدون احساس وانفعال. فازداد امتعاضا وحنقا منها ثم فتح الصندوق الثالث والاكبروكان مليئا بسبائك الذهب .واعتقد الرجل الميت بأن الذهب الذي يخطف لمعانه ابصاروقلوب وارواح النساء سوف يخطف بصرو قلب وروح غصون ،وسوف يثيرها ،ويحرك مشاعرها، وشهيتها، ويفتح وجهها المتجهّم والمغلق.
لكن غصونا كانت ماتزال متجمّدة، ومتجهّمة، ومتخشّبة، وكان وجهها مايزال مغلقا وبإحكام.
ومن شدة الغضب فتح الرجل الميت حقيبة تشبه الغرارة وراح يدخل يده فيها ويخرج منها :
فساتين زاهية الالوان وقمصان نوم . مناديل، ومقارم، وملابس داخلية .صنادل وجوارب . مراهم ودهانات ومواد تجميل ، امشاط واكسسوارات وعطورات. وكان الرجل الميت يلقي بتلك الاشياء الرخيصة بنزق وحنق وبدون اكتراث وكأنه يلقي بنفايات .
ولم تستطع غصون ان تحتمل تصرفاته وهو يلقي في ارضية المفرش بتلك الاشياء الاستثنائية التي نقلتها من الواقع الى الحلم، ومن العادي الى الخارق.
كانت لحظتها مصعوقة ومندهشة ومستثارة من هذا الكنز الذي يتعامل معه زوجها بازدراء. وكأنها غير مصدقة من ان هذا الكنز يخُصُّها راحت تُلَمْلِمْهُ من ارضية المفرش على عجل وتجري به الى غرفة نومها. وهناك امام المرآة راحت تلبس وتخلع ،وتخلع وتلبس من جديد، وتجرب هذا وذاك من الفساتين، وتنظر الى صورتها في المرآة ، وتعيد النظر في الفستان الذي لبسته ،وتلبس غيره .بعدئذٍ وقد عثرت على فستان يتناغم مع جسدها، ومع ذوقها راحت تسرّح شعرها، وترسمُ وجهها مستخدمةً كل المواد ،والاقلام، والالوان التي احضرها الرجل الميت من مدن البحر . وبعد ان طلت شفايفها بالاحمر ،ووضعت اللمسات الاخيرة على لوحة وجهها .رشت شيئاً من العطر على رقبتها ،وفيمابين نهديها ، ورات نفسها في المرآة اصغر من عمرها بعشرة اعوام، واجمل مما كانت عليه ليلة زفافها .
لحظتها، وقد غدت بكامل زينتها وانوثتها شعرت غصون بأن تلك الشهوة التي كبتتها خلال عشر سنوات، وتحايلت عليها بالصبر ،والصلاة والدعاء. تتجمع بين ساقيها، وتكاد تحرقها. فكان ان اندفعت الى الديوان وارتمت في حضن رجلها الميت .
كان خوفها قد تبدّد ،وكانت قد اقنعت نفسها بأن زوجها سلطان الذي احضر لها كل ماكانت تحلم به يستحيل ان يكون ميِّتا او ان يكون حبه لها قدمات .
ليلتها وهما سامران في الديوان حدثته عن الاشاعة التي راجت حول موته غرقا في البحر، وعن الخُطّاب الذين تقدموا لها..وحكت له كل شيئ ..بمافي ذلك غضب امها .وقالت له بأنها لم تصدق خبر موته وانما كانت تصدق قلبها :
-” كان قلبي ياسلطان يقول لي انك حيّ، وانك شترجع وكنتو اصدقه “
كان الرجل الميت يصغي اليها ..وكانت هي تواصل الحكي، وتخبره بمعاناتها ،وصبرها، وانتظارها له طوال عشر سنوات ،وكيف انها كانت تشتاق له، وتتوقع عودته في كل ليلة، وفي كل عيد. وبعد ان حكت له كل شيئ حدث اثناء غيابه حكت له مايقوله اهل القرية بعد عودته من انه عاد ميتا وراحت تضحك .
قال لها سلطان بكلمات ميتة لاحياة فيها :
- كلام اهل القرية صحيح ياغصون اناميت.. رجعت من البحر واناميت .
لكن غصوناوقد ظنته يمزح قالت له وهي تواصل الضحك والتمرغ فوق صدره المالح : - “احبك ياسلطان حتى لوانت ميت”
قال لها الرجل الميت :” لكن انا ميت ياغصون رجعت وانا ميت” .
قالت وقد انطفأت ضحكتها وبدا على وجهها الفزع : - مو تقول ياسلطان ! كيف رجعت وانت ميت !!
ورد عليهاسلطان بصوتٍ باردٍ منطفئٍ وخال من حرارة المشاعر: - ” البحر ياغصون لا يعطي دون مقابل.. و مقابل الكنز الذي اعطاه لي اخذروحي ”
قالت غصون -وقد سرت في جسدها قشعريرة-: - من صدق ياسلطان انت ميت والاتفجِّعني !!
قال لها و ملامح وجهه الميّت تشي بصدق كلامه: - اناميت ياغصون ..روحي ميّتة .. قلبي ميّت .. احاسيسي. مشاعري . عواطفي ..كل شيئ داخلي مات.
قالت له وقد تملكها الرعب : - وحبك لي ياسلطان !!قل لي عادك تحبني اولا!!
قال لها الرجل الميت بان الحب الذي كان يملأقلبه مات ولم يعد يحبها .
وسألته غصون بصوت مرتعش ومتهدِّج وكأنها غير مصدقة ان يكون حبه لها قدمات : - من صدق ماتحبنيش ياسلطان !!
قال لها وهو ينظر من طاقة الديوان الى المقبرة : - الصدق ياغصون مافيش في قلبي حب.. لا لك.. ولالاهلي.. ولا للقرية .
وبعد ان صارحها بعدم حبه لها سالته غصون وهي موجوعة من كلامه : - ولمو رجعت ياسلطان مو الفائدة من رجوعك؟
قال لها الرجل الميت : - رجعت من اجل اعطيك الكنز
قالت له وهي تكاد تنفجر من الالم : - “شُلْ كنزك.. مواعمل بالكنز!! انت كنزي ياسلطان.. عشر سنين واني صابر ومنتظرلك.. عشر سنين واني اذوب مثل الشمعة من شوقي لك.. لموعاد رجعت!! رجعت بس تعذبني !!حرام علوك ياسلطان.”
ولحظتها خرجت تجري باتجاه غرفة نومها . ومثل المجرم الذي يعمَد الى اخفاء اي دليل قد يدلُّ على جريمته .نزعت فستانها، وتخلّصت من زينتها ..حتى احمر الشفاه ازالته من شفتيها.. ورات انه لافائدة من ان تتزين لرجل ميت .ومثلما ينكسر الغصن .انكسرت غصون ليلتها. انكسر فرحها بعودة زوجها، وانكسرت رغبتها .ولم يعد بها رغبة لاللجنس ولاللنوم ولاللحياة.
كانت شهوتها التي تجمعت بين ساقيها قد تبخّرت، وتجمّعت في سماء عينيها على هيئة سحابة سوداء من الدموع .وبمجرد ان صعدت الى سرير نومها .. اجتاحتها رغبة عارمة في البكاء . بكت شبابها ،وضياع عشر سنوات من عمرها ،وبكت على امهاالتي ماتت وهي تحلم بحفيد يُحْيي ماتبقى من ايامها. وحتى لايسمع الجيران صوتها وهي تبكي خنقت صوت بكاءها بالوسادة وواصلت البكاءبحرقة شديدة والم شديد.
يتبع