- عبدالكريم الرازحي
قال لها يومها وهو يغتلي من الغضب :
- الضرب ماعاد ينفع معك ياعُلُوم واليوم مافيش ضرب.. اليوم في طلاق. مهلتك نص ساعة ياتقولي لي لمن بعتي الفوانيس!! ياوطلقتك !!
وعندها امتقع وجه علوم من الرعب. ولشدة خوفها من ان يطلقها سيف الطليس اصيبت ذاكرتها بالإسهال. اشتغلت، وتحركت ،ولانت بعد يباس، ورطبت، واستعادت ليونتها ولياقتها وفي خلال عشر دقائق كانت علوم قد تذكرت اسماء النساء اللاتي باعت لهن الفوانيس.
لكن الطليس كان كلما بَرَد السوق يحمي فوقها.. وكلما خسر القى باللوم عليها وحمّلها مسئولية خسارته .
وكثيرا ماكان يقول لها :
-“ايام ماكنتي شاب كان السوق حامي وبعدماعجّزتي ياعلوم السوق برد” .
وكانت علوم تتألم من كلامه ،وتشعر بأنه يعيِّرها بكبر سنها وهي التي اخذ منها الدكان عمرهاوشبابها، وجعلها تشيخ قبل الأوان. وفي نفس الوقت كانت تتألم لأجله عندما يكلمها عن الخسارة وتتمنى في قرارة نفسها لوان بمقدورها ان تساعده في تجنيبه المزيد من الخسائر .
وذات صباح قال لهاوهو يتناول فطوره
- “ياعلوم امس وانا راقد حلمت حلم “
قالت له علوم : خير ان شاء الله
قال لها : شفت ملاك نازل من السماء وبعدما نزل جلس جنبي وقال لي : - “ياطُلّيس لو تشتي السوق يحمي وتشتي دكانك يرجع مثلما كان اتزوج موزة بنت غانم المُوَسِّح “.
قالت له وقد صدّقته : “مادام وهو ملاك اسمع كلامه الملائكة مايكذبوش “
قال لها : الملاك قال لي : “لاتتزوجش الابعدماترخّص لك علوم وتروح بنفسها تخطب لك “
قالت علوم وقد اعجبها كلام الملاك :
-“اني مرخّص لك وشاروح بنفسي اخطب لك موزة من امها حمامة مادام والدكان شرجع مثلما كان”
وشعرت علوم وهي تخطب له موزة من امها حمامة بانها تقوم بمهمة جليلة وهي إنقاذ الدكان وانقاذ زوجها . لكن الحقيقة هي ان الطليس كان يُكبِّر الاشياء ويضخِّمها امام زوجته علوم ويوهمها بانه على وشك الإفلاس. وكان يتعمد ذلك من اجل يشعرها بالذنب ويهيؤها للقبول بزواجه من موزةبنت غانم الموسِّح ذلك ان امها حمامة بحكم القرابة بينها وبين علوم ماكانت لتقبل ان تزوجه بنتها موزة لولم تأت علوم بنفسها لتخطبها له.
كان الطليس يطمع بها منذ كانت طفلة تتردد على دكانه .وكان كلما اقبلت يتساءل بينه وبين نفسه :
-كم باقي لها هذي الموز ة لوماتنضج ؟
ثم يسالها عن عمرها :
-كم عمرك ياموزة ؟
كان عمرها ثمان سنوات حين ابصرها في الدكان لاول مرة
وبعد ان صار عمرها اربعة عشرة سنة زاره الملاك في المنام ولم تمض سوى بضعة ايام على زيارة الملاك حتى تحقق حلمه بالزواج من موزة بعد انتظار دام ست سنوات.
بعدزواجه من موزة قال لزوجته علوم : انتي اجلسي بالبيت وارتاحي وموزة بدلك بالدكان
لكن الطليس هجر علوم وهجر البيت واستقر هو وموزة في الدكان.
وكانت علوم تطبخ في البيت وتحمل لهما الطعام الى الدكان الصبوح والغدا والعشاء .
وبعدان تُحضِر لهما الصبوح تسأل زوجها سيف الطليس وتقول له :
-“شتروِّح تتغدي ياسيف والااندي الغدا للدكان “؟
وكان الطليس يطلب منها ان تحضر الغدا للدكان
وبعدان تحضر الغدا تساله عن العشاء وتقول له :
- “شتروِّح تتعشي بالبيت ياسيف والااندي العشا للدكان “
ويطلب منها ان تحضر العشا للدكان .
وهكذا كل يوم.. تاتي بالصبوح وتساله عن الغدا !!وهل سيتغدى في البيت ام تحضره للدكان!! وتاتي بالغدا وتسأله عن العشاء!! وهل سيتعشى بالبيت ام تحضر ه للدكان .!!
ولم تكن علوم بعد زواجه من موزة تطمع باكثر من كلمة تنمُّ عن شوقه الى بيته وكانت تحدث نفسها قائلة :
-” موفيها لو اجا هو وموزة يتعشوا ويرقدوا بالبيت بدل مايرقدوا بالدكان !!
كان مكوثهما في الدكان يوحي لاهل القرية بأنها غير راغبة في مجيئهما للبيت وكان ذلك يقلقها ويؤذي مشاعرها .وعندما اقبل رمضان توقعت علوم بانهما سيغادران الدكان الى البيت اوانهما سيفطران عندهالكن ذلك لم يحدث وكانت قبل موعد اذان المغرب تحمل اليهماالفطور وفي السّحَر تحمل اليهما السحور .وفي صباح يوم العيد ساورها شعور بان الطليس سيخرج من المسجد بعد صلاة العيد ويمر ليسلم عليها سلام العيد وكانت قد جهزت له ولضيوفه فته باللبن والسمن والعسل .لكنه لم يمر للسلام ولا للطعام. وفي ليلة العيد بكت علوم الى ان ابتل فراشها بدموعها وشعرت ليلتها بأن دورها كزوجة انتهى ولم يبق لها سوى القيام بدور الخادمة .ومع ذلك ظل الامل يراودها في عودة زوجها اليها لكنها وقد اقبل العيد الكبير فقدت الامل في استرجاعه وفقدت شهيتها للحياة وفي صباح اليوم التالي لم تنهض من نومها ولم تحضر الصبوح الى الدكان كعادتها وفي الظهر لم تحضر الغدا وعندما حضر المطلس الى البيت ولم يجد نارا في المطبخ عرف انها ماتت واجهش بالبكاء.
بعد زواجه من موزة كان الطليس يهجو زوجته علوم ويقول لاولئك الذين يلومونه على هجرها:
(- ابليس لو شافِهْ يهرُبْ/
/لقْفِهْ / لوقعِّتْ مسْرُبْ /
/اسنانِهْ مثل الخُرْبُبْ /
/ نُخْرَتْهَا مزْقُمْ يُبْيُبْ /
/شمِّهْ / ياويلكْ تقْرُبْ /)
واما موزة فكان ماينفك يمدحها ويثني عليها ومن شدة حبه لها لم يكن يخالف لهاامرا وكل ماتقوله اوتقترحه يراه صوابا وكان يقول :
- “موزة ربي ميّزها ووهبها جسم مرة وعقل رجّال “
وكان وجودموزة في الدكان يجذب الزباين وغير الزباين والذي لايشتري يتفرج ويعود ليتحدث عنها وعن جمالها ومثلما كان الناس في السابق يتحدثون بانبهار عن دكان الطليس صاروا يتحدثون بنفس الإنبهار ولكن هذه المرة عن موزة زوجة الطليس وكانوا يقولون : - موزة من صدق موزة
وكان بعضهم يقول لها بحضور الطليس : - ايش اللي خليك ياموزة تتزوجي هذا الربح ؟
وكانت هي تضحك والطليس يزعل ويقول للشخص المعني : - “اخرج يازنوة من دكاني “
ولم تمض سوى اسابيع على وجود موزة في الدكان حتى حمِي السوق ونفذت البضاعة لكثرة الطلب وكان الطليس سارح راجع للراهدة يشتري بضاعة ويحمِّلها فوق الحمير الى دكانه في حيفان والدكان مليان مشترين ومتفرّجين وموزة تلبي رغبات الزباين وتنتقل من زبون الى آخر مثلها مثل النحلة حين تنتقل من زهرة الى زهرة .اما اولئك الذين اتوا من اجل يتفرجوا عليها فكانت توزع عليهم ابتساماتها وكان ذلك يشبعهم ويرضيهم فقد كان لها ابتسامة ساحرة توزعها على الجميع بدون استثناء اما ضحكتها فكانت عملة صعبة وكان الناس يقولولون :
-” ابتسامة موزة فضة وضحكتها ذهب”
والبعض منهم يقولها بطريقة اخرى :
-” ابتسامتها قُرُوش وضحكتها جنيهات “
عندما اقترحت موزة على الطليس ان يدخل الى دكانه احمر الشفاه وغيره من مستحضرات التجميل رفض الطليس وقال معترضا بان النساء في القرى لايعرفن كيف يستخدمن احمر الشفاه !!ولاوقت لديهن للزينة!! وكان لديه خوف من الخسارة غير ان موزة اصرت على اقتراحها وقالت له :
- انت مودروك بالنسوان !!
وكان دخول احمر الشفاه الى دكان الطليس علامة من العلامات البارزة والفارقة في تاريخ قرية العكابر وبحسب تعبير فقيه القرية :” علامة من علامات قرب قيام الساعه”
لكن موزة لم تكن تبيعه وانما كانت تحتفظ به في دكانها
وكان على المراة التي تريد ان تطلي شفايفها باحمر الشفاه ان تأتي الى الدكان وتطلب من موزة ان تلوّن شفايفها بالأحمر وبحسب تعبير نساء القرية ب “الحامورة”
ولأن الرجال في العصر يكونون مخزنين في بيوتهم فقد كانت النساء يجئن اليها وحدانا وزرافات و يخرجن من عندها وهن مبودرات ومحومرات وكانت موزة تأخذ منهن ثمن البودرة والحامورة وثمن الخدمة وبعضهن من فرحتهن بحُمرة شفايفهن يدفعن اكثر من المطلوب. وكان ثمة نساء يجئن من قرى بعيدة وعند وصولهن الدكان يصلن متعبات وبمجرد ان ترش موزة البودرة على خدودهن وتطلي شفايفهن بأحمر الشفاه حتى ينتعشنَ ويتألقنَ ويتوهجنَ ويركضنَ في طريق عودتهن الى قراهن كأحصنة السباق.
كان احمر الشفاه يرفع معنويات نساء القرى ويفعل فعله فيهنّ ويقوي شعورهنّ بأنوثتهنّ ويجعلهنّ في مزاجٍ رائقٍ ورائع .ومثل اولئك الذين ينتشون بعد ان يحتسوا كأسا او كأسين من النبيذ كان يحدث لهن مثل تلك النشوة بعد ان تلوّن موزة شفايفهن بالاحمر.
وتجتاحهن رغبة عارمة في المرح واشواق لاحدود لها لأزواجهن الحاضرين منهم والغائبين
لكن فقيه القرية كان يهيجُ مثل الثور حين يبصرهن راجعات من دكان الطليس وشفايفهن محمرة حُمرة الجمر وكان يربط بين احمرار شفايفهنّ واحمرار نار جهنم .