- ضياف البراق
لستُ موضوعيًا ولا من دعاة الموضوعية.. لا أتفق مع المحايدين ولا أثق بهم ولن أكون محايدًا.. أنا مُنتمٍ لكن بالمعنى التحرُّري الكوني للانتماء.. انتمائي ينساب في مستوى المحبة.. والمحبة قيمة كونية تعلو على ما دونها من القيم.. وإليها أنتمي باستمرار.. وأعتز بكوني مزيجًا من الحداثة الفلسفية والروحانية الصوفية.. وبكوني، على مستوى العروبة، أحب جمال عبدالناصر بل وأعدّه واحدًا من أصدق وأنقى أولئك الأخيار في تاريخ الكفاح الإنساني.
أستطيع أن أعيش بلا ضجيج ولكني لا أستطيع العيش بلا موقف واضح وشريف. مع أن يقيني الراسخ هو أن الالتزام بالموقف المنحاز الشريف مسؤولية صعبة جدًا؛ إذ كثيرًا ما يَجرُّ على صاحبه تهديدات شتّى. وأستطيع أن أُميّزَ بين المثقف العضوي والمثقف المحايد من مسافة بعيدة. المثقافة المحايد لا تنطبق عليه أدنى شروط المثقف العضوي. تزدهر الثقافة حيث تكون المعارَضة وتموت في منطقة الحياد. إذَنْ، المحايدون ثقافتهم مكانها اللائق يجب أن يكون في المقبرة.
لن تجدوا بين كل الأنبياء نبيًا واحدًا كان محايدًا أو بلا انتماء. فالسيد المسيح، مثلًا، انتمى بكامل ضميره ولُغته للفقراء والمستضعَفِين، أي للمسحوقين جميعًا فواجَهَ لأجلهم رجال الدين والأموال. والحقيقة أن رجال الدين يميلون دومًا إلى رجال السلطة والثروة وليس للفقراء والضعفاء.
اللانتماء يعني الهروب من وجه الحرية والهروب أيضًا من وجه الحق والحقيقة إلى وراء الغيوم الكاذبة. اللامنتمي شخص ممسوخ بلا موقف. ما قيمة المثقف الذي يسير في خط الحياد لينالَ الحب والرضا والدعم المالي من جميع الأطراف المتصارعة على الكراسي؟
إنه الحياد بهدف التكسُّب وحسب. والقيمة الحقيقية لا ينالها إلا ذلك المثقف الذي يغرس قدميه في خط المعارَضة ويسير مُعارِضًا إلى النهاية.
أنا مزيج من جيفارا وجمال عبد الناصر وأحب غاندي وأنتمي لكل أحرار العالم الأنقياء. وعندما أتكلم عن نفسي هكذا، فإنني لا أقصد امتداحها، حاشاني، ولكن لأنني لا أستطيع كتمان كلمات الحق في صدري. ثم إنني أدرّب نفسي على شجاعة الاعتراف يومًا بعد اليوم، والكتابة وسيلتي إلى ذلك السبيل. ولكي لا يزعجكم كلامي أيها المحايدون فإنني أقول لكم: أنا لست ضدكم كأشخاص ولكني ضد زيفكم وأنانيتكم وجنونكم التعيس. وعندما يقول لك مثقف إنه محايد فاسأله بلا تردّد: ماذا تعني بالحياد؟ فبالطبع، لن يستطيع أن يجيب عن سؤالك بشكل واضح أو مُقنِع. والمتشدقون بالموضوعية الزائقة في الساحات الثقافية أكثرهم من المحايدين. وهؤلاء مجرد جثث تنضح بالروائح الكريهة.
اللعنة على موضوعية شياطين الثقافة. واللعنة على حياد المثقفين الانتهازيين. والحداثة عندنا لم تزل سطحية وخاوية بسبب تصرفات المحايدين المعاقين المحسوبين أو المُهيمِنين عليها. إنهم، بحيادهم التافه، إنما يساعدون الرجعيين على هزيمة أي موقف جديد صادر عن ثقافة حداثية. الحياد ليس صوتًا لمن ليس لهم صوت. هكذا، لا يمكننا أن نخلط بين عدمية الحياد ومعنى الانتماء. المثقف الثوري يناضل من أجل ازدراع المعنى مكان العدمية. إنه يثور على الظلام ويُبدِع الضوء انطلاقًا من تغيير الداخل قبل الخارج، وتغيير الجذور قبل القشور. المحايد شمعة مُطْفَأة. والمناضِل سَيلٌ من ضوء الدافق والمتجدِّد على الدوام.
أنا متعصب للحرية النزيهة وأكره حرية الفالتين من الأخلاق والمسؤولية. أكره الحرية المغشوشة. والبشاعة أكثر حريةً من المحبة؛ لأنها مُنفلِتة بكاملها، أي سائرة بلا التزامات ولا قيود، وأمّا المحبة فتسير على إيقاع الخير المُنتظِم. ولكن حرية الشر سلبية لا معنى لها. وأنا مع صوت المحبة ثائرًا ضد المنحازين بحيادهم إلى جهات الشر. هناك طهارة وهناك نجاسة وأنت اختر أين تقف. أمّا الحياد فيعني الغناء مع الطهارة والرقص مع النجاسة. فلا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار، بحسب تعبير نزار قبّاني. إذن الحياد مجرد لعبة واهية. وأهل الباطل، في كل العالَم، هم دائمًا أصحاب انتماءات ضيّقة وأوهام كبيرة ويمارسون الشر على أنه هو الحق بعينه. وهذه حقيقة الرجعيين عندنا.
قيس اختار ليلى واحدة وانحازَ إليها دون غيرها من النساء. لا حياد في حالة العشق. والحرية أسمى حالات العشق الإنساني ومن معانيها عدم الحياد، خصوصًا حين ينشب الصراع بين النور والظلام في ميدان واحد أو عدة ميادين.
يبقى حياد المثقف خارج حقيقة الحرية وميدان الكفاح الثوري. والمحايدون لا يصنعون الثورات ولا يشاركون فيها بصدق وعشق وإنما يستغلونها ويسرقون ثمارها بعد أن يشعلها الثائرون.
وليلايَ أنا هي الحرية القائمة على مبدئية الشرف والمسؤولية. لا أستطيع اللعب بصمت أو المواجهة من وراء قناع، ولهذا أكره الأقنعة، وأخاف النزول إلى مستوى أصحابها. نَعمْ، لستُ محايدًا، أنا حتى نخاع ضميري ثائرٌ على المتبلطِجين والأنانيين والمتوحِّشين في أي اتجاه كانوا ولو في أقصى اليسار. انتمائي ضد هؤلاء جميعًا.