- قادري أحمد حيدر
2-ملاحظات على تعقيب عبدالباري على ما كتبته:
إن المقدمات الخطأ، في الخلط أو عدم الفصل، بين مرحلة “حركة التحرر الوطني” ومرحلة إقامة أنظمة ودول ما بعد الاستقلال، هو الذي قاد تفكير الاستاذ الصديق/عبدالباري
إلى النتائج الخطأ. فهو على سبيل المثال، يقول بالنص :
“المنظومة الاشتراكية انقرضت و”حركات التحرر الوطني” حلت محل الاستعمار”!! وهو قول وحكم سياسي غير مفهوم، لا في المعنى ولا في المبنى، ومن الصعب قبوله هكذا على عواهنه، دون توضيح سياسي وتاريخي لمعنى قوله إن “حركات التحرر الوطني” حلت محل الاستعمار!!
أما حديثه عن أن بعض كبار كتاب اليسار الأمريكي اللاتيني قدموا قراءة لمعنى أو مفهوم “الاستعمار الداخلي” وحتى “القابلية للاستعمار”، كما هي عند مالك بن نبي، فلذلك تناول مختلف وسياق بحثي ومفهومي وتاريخي مختلف.
والبداية مع الأستاذ والصديق/ عبدالباري كانت في الخلط بين مرحلتين تاريخيتين مختلفتين، كما سبقت الإشارة. وللتدليل على ذلك الخلط والارتباك ، سأنقل اليكم نصاً كاملاً من خطاب عبدالباري كما هو، واترك الحكم لكم.
يقول عبدالباري: “الصين الشعبية –القائد الميداني لحركة التحرر الوطني ، وهي آتيه منها – هكذا يقول عبدالباري- أصبحت هي الإمبريالية الجديدة، وفيتنام، رأس الحربة والإبنة البكر الأكثر شهرة في حركات التحرر الوطني، تنسق اليوم مع الأمريكان في مواجهة “الإمبريالية الجديدة”. كل هذه الحركات – والكلام لعبدالباري – نشأت في ظل الوجود الاستعماري وبعضها قريب منه، ولم تكن كلها مقاتلة وحصل الكثير منها على الاستقلال سلمياً”.
نجد أنفسنا مع/ وفي هذا النص مع جملة من الأفكار والمفاهيم المركبة فوق بعضها بعض، ومتداخلة بقضايا واشكالات سياسية وعملية وتاريخية مختلفة مجموعة كلها في داخل نص أو فقرة واحدة ( صغيرة)، لا يمكنك الخروج منها بفكرة واحدة سديدة متماسكة ومترابطة.
وإذا حاولنا تفكيك هذه الفقرة أو هذا النص ، فسنجد أنفسنا أمام التالي:
1-الفكرة الأولى “أن الصين الشعبية القائدة الميدانية لحركة التحرر الوطنية لأنها آتية منها”، شخصياً لأول مرة أسمع بأن الصين هي القائدة الميدانية لحركة التحرر الوطني . وقد يكون الخطأ لجهل مني في عدم المتابعة، لأدبيات حركات التحرر الوطني في تلك المرحلة، وقد يكون اجتهاداً سياسياً خاص بعبدالباري ، مثل اجتهاده بأن طالبان ” حركة تحرر وطني” .
وفي كل الأحوال، لا أجد صلة أو معنى لإيراد هذه الفكرة أو القضية بما يدور النقاش حوله.
2-الفكرة أو القضية الثانية، أنها، أي الصين كما في النص والسياق، أصبحت هي الإمبريالية الجديدة وهو كلام غير مفهوم لا علمياً ولا مفهومياً و لا سياسياً ولا تاريخياً.
فكيف هي “القائدة الميدانية لحركة التحرر الوطني”، وهي في الوقت ذاته “الإمبريالية الجديدة”؟
ثم ما هو المقصود بــِ”الإمبريالية الجديدة”، وفي أي سياق ورد هذا المعنى في الكتابات السياسية التاريخية، حول حركة التحرر الوطني؟! والأهم، هل لمثل هذا المفهوم قيمة معرفية وفكرية وسياسية نقدية يعتد بها، وما علاقته بما يدور حول أن طالبان “حركة تحرر وطني”؟ أو حتى حول كل معنى ” حركة التحرر الوطني”؟
3-الفكرة أو القضية الثالثة ، أن فيتنام كذلك رأس حربة والإبنة البكر الأشهر في حركات التحرر الوطني تنسق اليوم مع الأمريكان في مواجهة “الإمبريالية الجديدة”، والذي يفهم من نص عبدالباري أنها الصين، وقد يكون الاتحاد السوفيتي، وهو ما يعني أن هناك تحولات في حركة السياسة والمصالح جرت، فتبدلت المواقع في قلب السلطة، والدولة الفيتنامية، وبالنتيجة تغيرت اتجاهات إدارة السياسة والمصالح بين الأطراف المختلفة.
وهذا حق سياسي ومصالحي للجميع. فحيثما كانت المصلحة يذهب إليها الجميع ، ونحن نتحدث في شأن سياسي/ مصالحي عام. ولأن عبدالباري ما يزال يتعاطى مع الصين، وفيتنام باعتبارهما “حركة تحرر وطني” نتيجة عدم الفصل فيما بين مرحلة ما قبل الاستقلال، وما بعدها، نجده يستمر في اجترار ذلك الخطأ السياسي والتاريخي، لأن منهج القراءة التاريخية لديه، في تقديري، غير صائب، أو غير دقيق وحاسم في الفصل بين المرحلتين.
4-أما كون أن بعض قوى وفصائل حركة التحرر الوطني حصلت على استقلالها السياسي سلمياً دون خوض كفاح مسلح، فذلك أمر طبيعي مع أوضاع سياسية اجتماعية تاريخية خاصة بها، وموازين قوى داخلية وخارجية، ولطبيعة تكوينية خاصة بهذا المجتمع أو ذاك البلد، قادت الجميع، وأوصلتهم إلى تبني خيار الانتقال السياسي لإنجاز الاستقلال عبر المفاوضات السلمية.
فما هو الجديد في ذلك؟
والسؤال : ما هي صلة هذه الفقرة كلها، وغيرها، بسؤال أن طالبان “حركة تحرر وطني”، ولماذا هذا الدوران أو الاستطرادات حول قضايا لا صلة لها بجوهر الموضوع المطروح للبحث والنقاش؟ بعد هذه الفقرة مباشرة، يورد عبدالباري فقرة مطولة، أجد نفسي مضطراً لتقديمها إليكم. تبدأ الفقرة بالقول : “وجود الأوطان سابق للأديان والمعتقدات السياسية والأيديولوجية وتصنيف “وطني”، “رجعي”، “إسلامي”، “مرتد” و”شيوعي”، …إلخ نجم عنها كوارث في المنطقة العربية وآلت إلى صراعات دامية، واغتيالات واعتقالات وتهجير ومصادرة للحريات”. وهذا كله صحيح. على أن المهم، في تقديري، هو قراءة كل ذلك في سياقه الموضوعي التاريخي، في إطار كل حالة ومرحلة على حدة، وضمن شروطها الذاتية والموضوعية، وخصوصيات مراحل كل تلك الصراعات، وليس بالحديث المجرد والمطلق. علما أن نقاشاً كهذا لا يتسع له مقالات صغيرة وفي تعبيرات سياسية، صحافية عامة.
والسؤال بعد كل ذلك: أين هي الفكرة والقضية المطلوب نقاشها واثباتها في كل هذه الفقرة؟ كلام في العموميات كيفما اتفق وفي البديهيات الفكرية والسياسية/ التاريخية العامة، ولكنها لا تقول شيئاً محدداً له معنى يخدم إثبات أو نفي ما يدور من حوار : هل طالبان “حركة وطني”؟
بعد الفقرة السالفة المذكورة مباشر، وبدون مقدمات ولا تسلسل أو ترابط في الأفكار وفي السياق، يقفز عبدالباري إلى عبارة أو فكرة جديدة لا علاقة لها بما قبله ليقول: “ذكرني إنكار الأستاذ قادري لما قلته عن “نشأة بعض حركات التحرر في أحضان الاستعمار”، بنقاش دار بين الاستاذ علي باذيب واسماعيل الشيباني، في سبعينيات القرن العشرين الماضي في عدن، أثناء الحوار حول “الوحدة اليمنية”، ذكر باذيب حينها شيئاً عن نشأة الحركة الوطنية في ظل الوجود البريطاني، فغضب الشهيد اسماعيل ورد عليه بقسوة.. المأساة أن الحركات السياسية التي وجدت في عهود الاستعمار عجزت عن تحقيق الاستقلال –والكلام لعبدالباري- فقد كان سقف الحريات لا يسمح بتحقيقه، ما أفسح السبيل أمام قوى تعتمد القوة، وتستهين بالعمل السياسي، والحريات العامة والديمقراطية ، وحرية الرأي والتعبير، وهذه القوى في جل البلدان المستعمرة لم تكن ديمقراطية بالأساس، وكان اعتمادها المطلق على القوة وعندما حققت الاستقلال أصبح السلاح وسيلتها المثلى لحكم البلد، وأداتها الوحيدة للهزء بالقوى الديمقراطية التي ناضلت لسنوات، ولم تنجز الاستقلال، واعتبرت نضالها ثرثرات برجوازية صغيرة، وصنفتها كعملاء للاستعمار وليس الأمر كما رأى قادري أنها لم تصبح دكتاتورية إلا بعد تسلم السلطة والأمثلة تأتي”.
أوردت نص عبدالبارى كاملاً لأعيد تذكير القارئ به، ولأناقش ما جاء فيه من حديث.
أولاً، أنا لم أنكر عليه ما قاله. هذا حقه ليقول ما يشاء من آراء، ومن وأفكار وتحليلات . ما قمت به أنني اختلفت مع قوله إن حركات التحرر أو حتى بعضها، نشأت في أحضان الاستعمار ، هكذا بالجملة وبالمطلق، لأن الفكرة تحمل معنى الحكم التعميمي والاطلاقي على ظاهرة تاريخية، وهو بهذا المعنى حكم لا تاريخي. وما قلته وذكرته أن “حركة التحرر الوطني” لم تنشأ في أحضان الاستعمار، وإنما في مناخ وظروف الهيمنة الاستعمارية وفي حالة نقض للوجود الاستعماري. والفارق كبير بين قراءة عبدالباري وبين قراءتي وتفسيري وتحليلي لمعنى نشأة ظاهرة “حركة التحرر الوطني”. هناك جيوش استعمارية شكلها الاستعمار لخدمة مصالحه، فتخرج من بينها، افراد أو مجاميع وطنية في سياق العملية التحررية الوطنية والثورية، وهذا أمر طبيعي. ومعروف حالة “الجيش الاتحادي” في جنوب اليمن الذي التحقت العديد من قياداته “البعض من مجموعة العقداء”، إلى صف “الجبهة القومية” تحديداً وانحازت بعض هذه القيادات العسكرية كأسماء وافراد، لخيار التحرر الوطني، لأن الجبهة القومية وغيرها من القوى السياسية. اخترقت ذلك الجيش بكوادر منها للشغل من داخل الجيش لصالح خدمة العملية السياسية والتحررية الوطنية. ومعروف للجميع كيف انحاز “الجيش الاتحادي”، أو أقسام قيادية وقاعدية منه إلى صف ثورة 14 أكتوبر 1963م.
وبهذا المعنى، فإنني وجدت في تعبير وتوصيف عبدالباري التعميمي والاطلاقي حول نشأة حركة التحرر الوطني في “أحضان الاستعمار”، وصفاً غير دقيق ويجافي القراءة الموضوعية التاريخية، فضلاً عما ينطوي عليه من معنى ودلاله سلبية لحركة التحرر الوطني.
في السياق الذي أوردته عن عبدالباري، ستلاحظون أنه اقحم اسمي الفقيد الأستاذ: علي باذيب، والشهيد/ اسماعيل الشيباني، دون أن يخدم ذلك الاقحام والاستشهاد المعنى الذي يرغب في تأكيده ، وكأن اقحام الاسمين في السياق زائد عن الحاجة ولا معنى له، لأنه لم يقل ماذا قال الطرفان، من أفكار ومفاهيم حول الوحدة، تعزز وتقوي من معنى الفكرة التي يذهب إلى تأكيدها.
واضح أن مشكلة الخلط وعدم التمييز والتفريق بين مرحلة “حركة التحرر الوطني” ومرحلة ما بعد الاستقلال وبناء الدولة هي ما يقود تفكير عبدالباري إلى ذلك الارتباك والاضطراب في القراءة وفي التحليل السياسي. فإصراره على عدم التمييز بينهما يجعله يتعاطى في التحليل والتقييم وكأنها مرحلة واحدة .
فهل صحيح كما يرى عبدالباري أن “المأساة أن الحركات السياسية التي وجدت من عهود الاستعمار ، عجزت عن تحقيق الاستقلال”؟ وهو هنا لم يحدد بالضبط عن أي حركة، أو مرحلة يتحدث، وعن أي استقلال يقصد : مرحلة ما قبل الاستقلال عن المستعمر، أو ما بعد انجاز الاستقلال الوطني، والشروع في محاولة بناء وإقامة الدولة الوطنية الجديدة ، وهي المحاولة التي لم تتحقق، أو بتعبير دقيق لم تنجز كاملة، وإنما أسست في العديد منها لدول فاسدة ومستبدة ،وهنا اتفق كلية مع الاستاذ الصديق/ عبدالباري .
ففي المرحلة المرتبطة بمقاومة المستعمر، لم تكن المهمات الديمقراطية والتعددية لها الأولوية في صلب اجندات قوى وقيادات التحرر الوطني، – وعبدالباري يفهم ذلك أفضل مني- ولا يمكننا مطالبتها بذلك، لأن الأولوية لإنجاز الاستقلال وطرد المستعمر الأجنبي. وبهذا المعنى، فإن الحركات السياسية التحررية انجزت مهمة الاستقلال، ولم تعجز عن تحقيق الاستقلال”، وإلا ما كنا انتقلنا إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وبناء الدولة الوطنية التي تعثرنا لأسباب عديدة في انجازها، وهي مشكلتنا القديمة / الجديدة، التي ما نزال نعاني منها حتى اللحظة.
وهنا لا اختلاف مع ما يذهب إليه عبدالباري في أن معظم التجارب السياسية الوطنية العربية وحتى العالم/ ثالثية ، فشلت أو قصرت أو عجزت عن استكمال مهمات التحرر الوطني والسياسي والديمقراطي، خاصة في مجال الحريات والحقوق السياسية
(دولة المواطنة)، وفي بناء التنمية الاقتصادية الانتاجية، وفي احترام الدستور، ورفض التعددية السياسية والحزبية. وهنا يتضح الفارق السياسي النوعي بين مهمات المرحلتين ، مرحلة الاستقلال عن المستعمر، ومرحلة بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة التي فشلت في انجازها واقامتها على أرض الواقع.. أي مرحلة الاستهانة بالعمل السياسي ، والحريات العامة والديمقراطية، لأنها لم تكن ديمقراطية في داخلها، ولا في التعاطي مع الٱخر في خارجها، ومن هنا صعود حالة الاحتكام إلى القوة، وإلى السلاح في حسم الاختلافات داخل بنى الأنظمة السياسية ما بعد الاستقلال. والنماذج على ذلك عديدة، وهو ما أشار إليه محقا الاستاذ الصديق/ عبدالباري، ومعه كل الحق، على أن لا يسقط هذا الكلام في العموم على كلتي المرحلتين، أو على أي ظاهرة أو مرحلة بالجملة.
إن التاريخ السياسي لحركات التحرر الوطني العربية والعالمية يقول إنها انجزت مهمات الاستقلال الوطني في التحرر من المستعمر، “وليس عجزت عن تحقيق الاستقلال”، كما يشير عبدالباري، ولكنها عجزت أو فشلت في تحويل الاستقلال الوطني ،إلى تنمية سياسية (مشاركة سياسية للجميع في إدارة السلطة)، وإلى تنمية اقتصادية انتاجية / وإلى حياة سياسية ديمقراطية ، وتعددية، سياسية وحزبية ومجتمع مدني فاعل، وصولاً إلى بناء دولة المواطنة المتساوية، دولة الحقوق والحريات.
إن ظاهرة أو حالة الأحكام المطلقة والتعميمية نجدها تتخلل بعض فقرات خطاب عبدالباري، وهذا وجدته حاضراً في مقالات صغيرة، تقرأ حركة طالبان وليس في كتاب، وهو أمر يضر بمحتوى الكتابة عموماً، سواء الكتابة السياسية أو التاريخية وينتقص منها جميعاً، لأنها تحرف القراءة عن خط سير الموضوعية والتاريخية ، وتعكس ضعف حضور المنهجية في التفكير بالعقل النسبي. وهي عموماً ظاهرة أو حالة حاضرة عندنا جميعاً -بدرجات متفاوتة- حين نكتب مقالات صغيرة / صحافية.
وللتدليل على ذلك أورد كمثال ، التالي: يقول “كل الحركات القومية العربية للأسف الشديد نشأت قومية، وانتهت قروية ومناطقية وأسرية، والأحزاب الشيوعية ابتدأت أممية وانتهت بصفتها أسرة واحدة: خالد بكداش، ووصال مثلا – يقصد زوجته – (…) ولا يحق حجب الوطنية عن طالبان أو غيرها بسبب اعتقاداتها”. وهذا الاستشهاد أو الحديث جاء في سياق التأكيد من أن طالبان.” حركة تحرر وطني” .
فهل صحيح، كما يشير الأستاذ الصديق / عبدالباري، أن كل الحركات القومية يمكن جمعها بهذه الصيغة الجمعية الاطلاقية، من أنها تحولت إلى قروية ومناطقية؟ وهل صحيح كذلك أن الأحزاب الشيوعية ابتدأت أممية وانتهت بالجملة بصفتها أسرة واحدة؟ اعتقد أن هذه الاحكام القطعية/الاطلاقية،التي اصدرها عبدالباري والتعميمات المجردة غير محببة، ولا تليق بكاتب مقتدر، خاصة ونحن نتحدث عن وحول قضايا سياسية، وتاريخية. فهل حالة خالد بكداش، يمكن اسقاطها على جميع الأحزاب الشيوعية العربية؟!
علما أن هناك احزاباً قومية تاريخية تفاعلت ايجابيا مع محيطها الداخلي والقومي والتحرري العالمي، في كل المنطقة العربية، وتحركت معرفياً وايديولوجياً وسياسياً وتنظيمياً في اتجاه تقديم قراءات نقدية لنفسها ولمجتمعها وللفكرة التي انطلقت منها، وتحولت إلى مواقع فكرية وسياسية وتنظيمية جديدة (يسار اشتراكي/ ماركسي)، كما أن هناك احزاب شيوعية عربية، قدمت ومن مرحلة مبكرة، منتصف الستينيات قراءات معرفية وايديولوجية معمقة ومغايرة للتجربة التي انطلقت منها (الحزب الشيوعي اللبناني)، حيث قدم الحزب الشيوعي اللبناني، رؤى نقدية حول جملة من المسائل، الوطنية والقومية والاممية،وحول الموقف من الدين،ومن البرجوازية أو الراسمالية، هل هي وطنية،أو أن التسمية الاصدق والادق، هو تسميتها بالراسمالية المحلية، … إلخ.
أنا أذكر هنا الحزب الشيوعي اللبناني ليس كحالة استثنائية كما قد يتبادر إلى ذهن بعض القراء، وإنما كمثال فقط. ولكن، وحتى لا يبدو الأمر وكأنه حالة استثنائية، أشير هنا أيضاً إلى الحزب الشيوعي السوداني، هذا الحزب الذي ساهم بصورة رئيسية فعالة في أكثر من انتفاضة سلمية في حياة السودان السياسية، ناهيك عن مساهمته في يوميات الحياة السياسية/ الاجتماعية للسودان الشقيق، فقاد المظاهرات، ونظم الإضرابات العامة، وفي ثورة اكتوبر،1964م السلمية التي عصفت بحكم العسكر الاستبدادي، كان مشاركاً في صناعة البرلمان الديمقراطي،وكان للحزب الشيوعي السوداني دور بارز وكبير في الثورة وفي بناء السلطة الديمقراطية،وهو الحزب الذي كان يمارس العملية الديمقراطية في داخله في ظروف العمل السري الصعبة ،ناهيك عن الفترات الديمقراطية/ العلنية المحدودة،.. وفي مسيرته النضالية قدم العديد من الشهداء.. وكلنا يذكر كيف استشهد بعض قادته الكبار، على يد سلطات النميري سيئ الذكر، وهم الشفيع أحمد الشيخ، وعبدالخالق محجوب وهاشم العطا، والجدير بالذكر أنه كانت للحزب الشيوعي السوداني بعض الآراء في بعض القضايا العربية، وبالذات في القضية الفلسطينية، لا تتفق تماماً والإتجاه السياسي للقيادة السوفيتية.
أريد القول إنه كان حزباً جماهيرياً /سلمياً،ديمقراطياً،يعتز بتوجهاته السياسية ولا يخشى المجاهرة بها علناً. وبهذا الصدد، ذكر لي أحد الأصدقاء الذين درسوا في أوربا الشرقية، وبالذات في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا آنذاك، أنه حدث أن أقيمت ندوة سياسية في النصف الأول من عقد سبعينيات القرن الماضي، حضرها أحد قادة الحزب الشيوعي السوداني ذاكراً، في معرض حديثه، رؤية الحزب حيال القضية الفلسطينية والتي كانت لا تتفق تماماً مع رؤية القيادة السوفيتية آنذاك. وعند فتح باب الأسئلة، تقدم أحد الحاضرين بسؤال للقائد الشيوعي السوداني بشأن الكيفية التي يواجه بها الحزب برؤيته تلك القيادة السوفيتية، وكيف يتعامل معها. فإذا بالقائد الشيوعي السوداني يرد بهدوء وحزم بأن قيادة الحزب تسعى في حوارها مع القيادة السوفيتية لأن تقنعها بوجهة نظرها قدر ما تستطيع. وإذا بعاصفة من التصفيق تشل القاعة..
لا أؤد أن أسترسل في سرد العديد من الحالات التي تنفي بالقطع مقولة أن الأحزاب المعنية التي أوردها الصديق عبدالباري هي أحزاب عائلية،وٱلت إلى اسرة واحدة، ولكن- هنا- فقط: ماذا يقول في حزب اتحاد الشعب الديمقراطي؟! حزب عبدالله باذيب ،واحمد سعيد باخبيرة وعبدالله عبدالمجيد السلفي وعلي باذيب وابوبكر باذيب إلخ”؟!
كم أتمنى أن يكون ما كتبه الصديق عبدالباري في هذا الشأن مجرد “سحبة قلم” لا قناعة دفينة.
وهناك احزاب شيوعية عربية، اختلفت في داخلها حول تقييم ونقد بعض اخطاء تجاربهم الوطنية والقومية ومواقفهم الاممية، المطلوب تصحيح مسارها، حتى انشقاق بعضها على نفسها تنظيمياً إلى جناحين، أو اتجاهين، وفي ظروق حصار وقمع شديدين،( العراق)، ومن هنا صعوبة تقبل الاحكام التعميمية والمطلقة التي اصدرها الاستاذ الصديق/عبدالباري، حول ان الاحزاب الشيوعية العربية بأنها تحولت إلى اسرة واحدة!!
ففي ذلك إجحاف وظم للفكر وللسياسة وللتاريخ، ناهيك عن قسوة غير مفهومة، في إصدار احكام متطرفة ( لا تاريخية)، على التاريخ السياسي والوطني لاحزاب سياسية وتاريخية لها صفحات نبيلة وخالدة في تاريخ شعوبها واوطانها.