- قادري أحمد حيدر
2- ملاحظات على تعقيب عبدالباري حول ما كتبته.
الشيء الواضح من تقييم الأستاذ الصديق/ عبدالباري من أن طالبان “حركة تحرر وطني” أننا أمام قناعة أيديولوجية وسياسية عميقة راسخة في ذهنه، ولذلك هو ينافح عنها في أربعة موضوعات/ مقالات، وبإصرار يستحق عليه كل والتقدير والاحترام.
في تقديري، هي رؤية سياسية صادرة عن قائد سياسي محنك له باع طويل في ممارسة السياسة والتنظير لها، كما أنه رجل فكر وثقافة، وليس كما حاول أحد الزملاء القول بأنه خطأ سياسي.فالعزيز/ عبدالباري ليس ممن يرمي الكلام على عواهنه، والدليل هو ذلك الاصرار على تثبيت وتأكيد رؤيته حول أن طالبان “حركة تحرر وطني”.
فهو يقول في مقالاته المختلفة حول طالبان و”حركة التحرر الوطني”: إنها “لم تعد طالبان بعد الطرد من السلطة إرهاباً وإنما حركة تحرر وطني” . و”طالبان كحركة تحرر وطني آتون من المدرسة الحنفية الحقانية الأكثر تفتحاً وعقلانية”، وكأن ذات الأمر من التفتح والعقلانية ينطبق على طالبان كما يدل ويوحي إليه المعنى والسياق . كما يقول – كذلك- عن طالبان: “وهي الآن حركة تحرر وطني تحمل وتعبر عن الإرادة العامة لشعبها الافغاني” !! فهل صحيح أن طالبان تعبر عن الإرادة العامة للشعب الأفغاني؟! هذا في مقاله عن “عودة طالبان لحكم افغانستان”، إلى قوله عن طالبان إنها “حركة وطنية افغانية بإمتياز”. وهنا لا يصبح للتعجب والغرابة أي معنى في وصف الاستاذ الصديق / عبدالباري لحركة طالبان بأنها “حركة تحرر وطني بامتياز”، فذلك يتفق مع تقديره ورؤيته الخاصة لمفهوم “حركة التحرر الوطني”، كما يراها هو، وخاصة بعد وصفه ورؤيته أن هتلر النازي في تقديره وحكمه، هو وطني ألماني”، وليس مواطناً ألمانياً كما اتصور أنا، والفارق هنا عظيم بين “مواطن”، “ووطني”!! وسنأتي مرة ثانية على معنى “المواطن” و”الوطني” و”الوطنية” في خطاب الاستاذ الصديق / عبدالباري.
ومع أن عبدالباري يرفض الفصل والتمييز بين مرحلة حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار الأجنبي، وبين مرحلة انجاز الاستقلال الوطني عن المستعمر وبناء الدولة،- وهو ما سنأتي اليه لاحقاً- إلا أنه يمييز بدقة ووضوح بين مرحلتي “مقاومة طالبان”، للاستعمار الأجنبي طيلة العشرين سنة الماضية بعد طردها من السلطة. وبين مرحلة صعودها ثانية إلى السلطة. ويمكن العودة إلى ذلك في ما كتبه، ومحاولته التماس الأعذار لها، وصولاً إلى حد المبالغة بقوتها العسكرية من أنها أي (طالبان( كانت تقاوم 24 دولة أجنبية)، وكل ذلك ليجوز اعطائها صفة حركة تحرر وطني بامتياز!!
وحول قراءتي لطالبان، وتعقيبي في هذا الحيز على ما كتبه الاستاذ الصديق / عبدالباري في مقالته، بتاريخ 8 سبتمبر 2021م تعقيباً على ما كتبته في الحلقات الثلاث، ونشره تحت عنوان “طالبان كحركة تحرر وطني في وطنية حركات التحرر وصفاتها الأخرى” سأحاول الرد على ما كتبه –في مقالاته المختلفة- حيثما كان ذلك مفيداً ويساهم في إثراء موضوع النقاش في صلبه دون الانحراف بالنقاش إلى استطرادات وتفصيلات صغيرة وكبيرة قد لا تكون لها صلة بجوهر الموضوع ، وعدم إيرادها أو حذفها من النص لن تنقص من رده/ تعقيبه شيئاً، لأنها في الأصل خارج الموضوع وزائدة عن الحاجة، كما أتصور، على أنني أجد نفسي مضطراً لمناقشة ما ورد في تعقيبه حول بعض ما كتبته.
إن ردي أو تعقيبي على عبدالباري يأتي في إطار كتابة موازية مختلفة مع ما يذهب إليه في توصيفه لطالبان باعتبارها “حركة تحرر وطني”.
واضح من سياق مقالاته/ موضوعاته التي نشرت، والتي سأتطرق إلى بعض ما ورد فيها، من أن للأستاذ الصديق/ عبدالباري مفهوم خاص “لحركة التحرر الوطني”، وهذا حقه، وهي رؤية سياسية يعمل على نشرها وللتأصيل لها من خلال موقفه السياسي الواضح والمعلن حتى الآن من طالبان، من أنها “حركة تحرر وطني”. يقول في رده/ تعقيبه الأخير على ما كتبته، التالي:
“إني أنظر إلى طالبان كما هي، بينما ينظر إليها الآخرون حسب ما يريدونها أن تكون، أو حسب فهمهم لحركات التحرر الوطني الحاكمة – ولا أعرف لماذا أضاف هنا كلمة “الحاكمة”- في بعض بلدان القارات الثلاث والتي حققت استقلالاً شكلياً لبلدانها.
أما كونه شكليا فلطرد المستعمر فقط، كما تفعل طالبان اليوم، بينما قراءتي البسيطة والمتواضعة لهذه الأنظمة – كما يقول عبدالباري – فقاضية بأنهار رجعية أيضاً”، وهو دفاع حتى آخر قطرة حبر عن طالبان باعتبارها “حركة تحرر وطني”!! وهي رجعية مثلها مثل انظمة التحرر الوطني، التي حققت استقلالاً شكلياً في كل المنطقة، وستلاحظون هنا كما ورد في حديث عبدالباري،مشابهته أو مساواته بين طالبان،وحركة التحرر الوطني!!.
وهنا يسمح لي أخي الأستاذ والصديق/ عبدالباري أن أقف أمام هذا النص بالتركيز على محتواه، وعلى ما جاء فيه، بالقراءة والتحليل والنقد.
أولاً: نحن ننظر إلى طالبان كما هي – وعفوا لاستخدام لغة الجمع التي استدعاها خطاب عبدالباري ليس إلا – والأهم، ننظر إليها كما هي تقول عن نفسها في وعيها العميق/ ورغبتها الدفينة والمعلنة للجميع، وفي حلمها بالعودة بأفغانستان إلى القرن الأول أو الخامس الهجري لا فرق!! وهو ما كانت تمارسه بالأمس،عندما كانت “حركة تحرر وطني”، حسب تقدير عبدالباري، وهو ذاته ما تمارسة اليوم والٱن .
أوليس ذلك هو ما تقوله طالبان، بل وما تنفذه على صعيد الممارسة العملية طيلة عقدين وأكثر من سلطة حكمها لأفغانستان بالحديد والنار؟ وحتى بعد طردها من السلطة السياسية، فإنها استمرت تحكم جميع المناطق الواقعة تحت سلطتها بذات العقلية البدائية ” القروسطية”، وهو ذاته ما تعيد تكرار انتاجه اليوم وبعناد عجيب ، لا يضاهيه في العناد سوى إصرار عبدالباري على اعتبارها “حركة تحرر وطني”، رغما عن أنف طالبان، والأهم ضداً على حقائق الواقع الصلبة، الحقائق الذاتية والموضوعية القائمة على الأرض وليس ما نتمناه، كما يذهب إلى ذلك عبدالباري، وكأنه عكس الآية، بنقل ما يتصل به إلى من يخالفه في الرأي وفي الرؤية وفي منطق التفكير والتحليل ، حول أن طالبان – كما أرى – لا صلة لها بأي معنى من المعاني بمفهوم “حركة التحرر الوطني” .
ثانياً: نحن / أو أنا – على الأقل – لا يمكنني الجزم بالقول عن ظاهرة، أو حركة سياسية تاريخية، أو أنظمة سياسية بالجملة إنها رجعية !! فهكذا حكم لا صلة له بالفكر النقدي، ولا بفهمنا لفلسفة التاريخ في سياق تجلياتها الفكرية والسياسية التاريخية.
والأمر الآخر الذي لم أفهمه في حديث عبدالباري في النص/ الفقرة المذكورة هو قوله: “حققت استقلالاً شكلياً لبلدانها. أما كونها شكليا – كما يقول – فلطرد المستعمر فقط !! والسؤال للعزيز الأستاذ الصديق / عبدالبارى أليس هذا الاستقلال الذي اسماه بالمطلق شكليا، وفي مكان آخر اسماه استقلالاً غير حقيقي ، وكأنه هدية مجانية من المستعمر، أليس ذلك الاستقلال هو ثمرة كفاح سياسي وطني وقومي لهذه الشعوب في القارات المختلفة.
ألم تقدم التضحيات والآلاف من الشهداء طيلة عقود للوصول إلى هذا الاستقلال الشكلي، حسب وصفه؟ وهل من حق أي منا، أن يوصف بالجملة تلك الاستقلالات بأنها شكلية ورجعية بالجملة؟ وكأن عبدالباري هنا يقول ضمنا بأنها استقلالات لا معنى لها، أو إنها لم تحقق ما هو مطلوب منها، مع أنها فعليا انجزت مطلبي السيادة والاستقلال الوطنيين. ولا يمكننا مطالبة القوى السياسية التي تكافح لطرد المستعمر وفي تلك المرحلة التاريخية المحددة، بأكثر من تلك المهمة المنتصبة أمامها.
والسبب في هذا المنطق الخطأ في القراءة والتحليل إنما هو آت من أن عبدالباري لم يفرق أو يفصل تاريخيا بين ظاهرة أو حالة ووضعية “حركة التحرر الوطني” وهي في سياق المواجهة والمقاومة للوجود الاستعماري / الأجنبي المباشر، وبين الوضع السياسي الانتقالي من حالة ووضع “حركة التحرر الوطني” لطرد المستعمر وجيوشه، إلى مرحلة إقامة النظام السياسي والدولة الوطنية الجديدة .. وواضح من سياق البناء المعرفي والفكري والسياسي في موضوعات عبدالباري حول “حركة طالبان” وحركة التحرر الوطني”، أن هناك خلطا بين مرحلتين مختلفين: مرحلة مقاومة الاستعمار الأجنبي، وهي مرحلة تاريخية مستقلة بذاتها ، تقرأ هكذا في جميع الأدبيات السياسية والتاريخية حول “حركة التحرر الوطني”، وبين الحالة أو المرحلة السياسية التاريخية الانتقالية، أي مرحلة التحول إلى سلطة سياسية “دولة وطنية جديدة”، وهو الذي شهدته القارات الثلاث بنماذجها السياسية المختلفة.
والخلط بين المرحلتين يعني موضوعيا وتاريخيا، تغييب وطمس خصوصية وذاتيه وموضوعية وتاريخية كل مرحلة على حدة، مرحلة مقاومة الاستعمار الاجنبي حتى طرده، وهي مرحلة مختلفة سياسياً ونوعياً عن مرحلة نيل الاستقلال الوطني، وما بعده، فلكل مرحلة وضعها الخاص، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ومن حيث القوى السياسية والاجتماعية، وكذا من حيث التحالفات ، ومن حيث المهام والحاجات الموضوعية الملحة الخاصة بكل مرحلة على حدة. فكل مرحلة تختلف ذاتياً وموضوعياً عن المرحلة الأخرى من حيث الدور السياسي والمهام ..إلخ.
إن عدم التمييز والتفريق بين المرحلتين وخصوصية وتاريخية كل واحدة منها عن الاخرى هو الذي قاد الاستاذ الصديق/ عبدالباري إلى ذلك الخلط في القراءة وفي التحليل السياسي، وإلى التعاطي مع المرحلتين وكأنهما مرحلة سياسية واحدة، بل ويغضب على من يقولون بضرورة الفصل وعدم الخلط.
واتمنى على المختصين في التاريخ الحديث والمعاصر، وكذا المهتمين في الشأن السياسي والتاريخي العام أن يدلوا بدلوهم في هذا الصدد بالعودة إلى كل ما كتب منا جميعاً للمساهمة والمساعدة في بلورة رؤية/ موضوعية تاريخية مشتركة تقربنا من فهم ما يجري، على طريق إزالة حالة اللبس والخلط بين المرحلتين، وبالنتيجة بين المفاهيم والأفكار التي تنتج عن ذلك الخلط بين المرحلتين التاريخيتين اللتين اشرت إليهما.. وهو ما ادعو إليه، فذلك يجنبنا الكثير من التشوش والتخليط في القراءة حول ظاهرة طالبان وغيرها، وبالنتيجة حول “حركة التحرر الوطني”، ومن هي اليوم والعالم يدخل العقد الثالث من الٱلفية الثالثة، بل وحول كل ما يجري في بلادنا اليوم .
وفي تقديري أن ذلك الخلط بين المرحلتين هو الذي جعل عبدالباري يصور ويشبه طرد المستعمر (الأمريكان) من قبل طالبان اليوم بأنه “حركة تحر وطني”، بل وإلى مساواة قادة طالبان باعتبارهم وطنيين، ومساويين لجميع قادة حركات التحرر الوطني في العالم!! .. مساوون لهم في الوطنية، وليس في الحق في المواطنة كإنتماء جغرافي وإلى وصف جميع أنظمة الحكم بعد الاستقلال وبضربة ايديولوجية قاضية بأنها رجعية، وهو حكم أيديولوجي/ سياسي اطلاقي، مجاف للتفكير الموضوعي، والنسبي/ التاريخي، في القراءة، ويضعف بالضرورة بنية التحليل السياسي النقدي في عرض عبدالباري للأمور والقضايا المطروحة للبحث. ولن أدخل في تفاصيل هذا النقاش، فقوله السابق الذي أوردته عنه يقول كل شيء. وكلي أمل بمشاركة الجميع في هذا الحوار، لإضاءة جوانب قد لا نراها في حوارنا الثنائي، مع أن هناك العديد من الباحثين والمثقفين والأدباء والكتاب قد أدلوا بدلوهم في هذا الاتجاه، بقولهم إن طالبان ليست “حركة تحرر وطني”، خلافا لما ذهب إليه عبدالباري، وسافرد لذلك فقرة مستقلة.
وأتمنى أكثر لو جرى ربط ما يدور من حوار حول “حركة التحرر
الوطني” ،بالدلالات المعاصرة، لمعنى ” التحرر الوطني”،وبما يجري في المنطقة العربية، وفي بلادنا على وجه الخصوص لتكون الفائدة أعم، ولنفتح آفاقاً أرحب وأعمق لقراءة ما يحصل، وهل نحن أمام سيرورة جديدة معاصرة لمعنى “حركة التحرر الوطني”، أو لاستكمال ما لم ينجز في المرحلة الأولى والثانية من كفاحنا السياسي والوطني والديمقراطي التحرري؟ وهو سؤال مفتوح للقراءة أمام الجميع، وليس حكما ذاتيا قاطعا حول هذه الفكرة/ المسألة. لأنها بذاتها-كفكرة- ما تزال بحاجة للحوار،وللبحث المعمق من الجميع .
أما حديث عبدالباري عن ربط اليسار بين الاستقلال الحقيقي، – حسب تعبيره – وكأن هناك استقلالا حقيقياً، واستقلالاً غير حقيقي – وبين البعدين الاقتصادي والاجتماعي، فذلك – في تقديري- له صلة بمدى وضوح، أو عدم وضوح الرؤية والموقف عند بعض قوى حركات التحرر الوطني،التي كانت، لمهمات ما قبل الاستقلال ولما بعد انجاز الاستقلال. وبطبيعة الحال، هذا لا ينطبق على جميع قوى وتيارات ومكونات حركات التحرر الوطني التي كانت، إلا بدرجات مختلفة ومتباينة فيما بينها.
فالبعض منهم، وعلى رأسهم “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل” – وغيرها على المستوى العالمي – قدمت رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية طبقية ووطنية شاملة –من وجهة نظرها- لمرحلة التحرر الوطني ما قبل الاستقلال، وكذا لمهمات مرحلة ما بعد نيل الاستقلال، وهي المتجسدة في “الميثاق الوطني”، الصادر عنها في العام 1965م. وهو الأمر الذي كان واضحاً – كذلك – في أدبيات اليسار الماركسي اليمني، وفي رؤية وخطاب “حزب البعث العربي الاشتراكي” إلى حد ما.. على أن ذلك الأمر لا يمكننا اسقاطه على مجمل أو مجموع حركات التحرر الوطني العربية والعالمية، فهناك حالة طرد للمستعمر تمت عبر النضال السياسي والبرلماني والدستوري: سوريا ، لبنان، وكان “جلاء”، المستعمر وجيوشه، وعودة الطبقة الرسمالية المحلية، والاقطاعية لقيادة السلطة والدولة.
وهناك من كانت أهدافهم السياسية منحصرة في انجاز مهمة مقاومة الاستعمار الاجنبي، وطرده، عبر الكفاح المسلح وهذا صحيح، وما بعد ذلك ليس هناك من وضوح سياسي لما بعد انجاز مهمة الاستقلال الوطني، (طرد المستعمر) ، من حيث ما هي طبيعة السلطة والدولة التي يريدون اقامتها، مضمونها الاجتماعي الاقتصادي الطبقي؟ وما هي المهمات المطلوب انجازها، وكيف؟ وبمن؟ أي من هي قوى التحالف السياسي والاجتماعي والوطني لهذه المرحلة .
ومع أن “الجبهة القومية” قدمت تصوراً سياسياً واجتماعياً/ اقتصادياً فضفاضاً لمضمون الدولة من منظورها الأيديولوجي الخاص، ولكنها فشلت أو عجزت عن تحديد من هي قوى ومكونات التحالف السياسي / الوطني لبناء الاقتصاد ولإدارة المجتمع، ولقيادة السلطة والدولة، بعد أن احتكرت ذلك في حزبها الحاكم “القائد للدولة والمجتمع”، كما في دستور الدولة، وفقاً لما كان سائداً ومعمولاً به في فترة الصراع الدولي، بين المعسكريين، الاشتراكي والراسمالي” الحرب الباردة”.
ومن هنا مصاعب التحول السياسي والديمقراطي، والمعوقات الذاتية والموضوعية، الإقليمية والدولية، التي وقفت دون استكمال بناء دولة مواطنة للجميع بالمعنى السياسي الديمقراطي، وليس بالمعنى الاجتماعي “العدالة الاجتماعية”: الذي طبقته الجبهة القومية، والحزب الاشتراكي، بعد انجاز مرحلة التحرر الوطني الأولى، في صورة طرد الاستعمار البريطاني . ومن هنا صعوبة اصدار احكام أيديولوجية / سياسية مسبقة ونهائية على أنظمة ما بعد الاستقلال بأنها رجعية ويمينية، بالمطلق، كما أشار إلى ذلك عبدالباري الذي وقع في ذات الخطأ السياسي التاريخي الذي وقعت فيه قيادة “الجبهة القومية” وهي سلطة، حين قدمت فرزاً أيديولوجيا/ سياسيا اعتباطيا وعبثيا حول ما سمي في حينه “اليسار” ، و”اليمين الرجعي”، و”اليسار المتطرف” اقصد في تلك الفترة والمرحلة، وقعت الجبهة القومية في ذلك الخطأ وهي في خضم صراعات سياسية متخلفة انحصرت في الرأس القيادي، فيما بينها، صراعات غير ديمقراطية على السلطة. أما الأستاذ / عبدالباري فلا عذر له أن يستمر في اجترار خطأ استخدام تلك الشعارات والمفاهيم حتى يوم الناس هذا، بالحديث العبثي عن اليسار واليمين وعن “الرجعية” بالمطلق في قلب “حركة التحرر الوطني”، سواء في سياق مقاومة الاستعمار الاجنبي أو بعد نيلها الاستقلال مباشرة.
واشارتي الاعتراضية هنا، فقط للاستخدام غير الدقيق، لمفاهيم اليسار، واليمين، واليمين الرجعي، واليسار المتطرف، حيث مارس البعض، في قيادة الجبهة القومية، عملية لي لعنق المفاهيم وعسف لاستخدام الشعارات والمصطلحات، في توظيفها في غير مكانها، ومواضعها، ليتم إسقاطها، لخدمة لحظة واهداف سياسية ٱنية، لإزاحة طرف سياسي مطلوب اقصائه من السلطة،، هو استخدام يحكمه ويتحكم به المنطق السياسي الصراعي المتخلف، وليس المعنى المعرفي الفكري، والتحليل الاجتماعي/ الاقتصادي العميق لمعنى ومفهوم اليسار، واليمين. ..إلخ .
دائما تقود القراءات المتعسفة للمفاهيم والمصطلحات والشعارات، وكذا القراءات اللا تاريخية للتاريخ الاجتماعي والسياسي، إلى نتائج مشابهة لها في الشكل والمحتوى. ومن هنا حساسية التقييمات التعميمية والاطلاقية التي نلحظها ونلمسها في تناول عبدالباري لطالبان، ولحركة التحرر الوطني، ولغيرها من السياقات السياسية والتاريخية.
من المهم قراءة وبحث أي ظاهرة أو مرحلة في سياقها الموضوعي التاريخي. ذلك أن فصلها عن ذلك السياق “أسباب التنزيل” حسب التعبير الفقهي/ السياسي الإسلامي، يقودنا إلى تقديم تشخيص ومعالجات ومفاهيم وأفكار لا صلة لها بالقضية المطروحة للبحث والنقاش .