- قادري أحمد حيدر
1-هل طالبان “حركة تحرر وطني”؟
أنا هنا – فيما أكتب – لا أقرأ ولا أناقش طالبان: “العقائدية”، و”الجهادية”و ” التكفيرية”، وما تقوله طالبان عن نفسها، بل أقرأ وأتحاور مع آراء وأفكار الأستاذ الصديق/ عبدالباري طاهر، الذي أتصور –أقول أتصور- أنه يحمّل “حركة طالبان” ما لا تحتمل من المعاني والدلالات الأيديولوجية/ السياسية، العصية علي، وعلى البعض من أمثالي على الفهم والاستيعاب.
وفي تقديري، أن حركة طالبان ذاتها هي الفيصل بيننا، فهي الأصدق في التعبير عن نفسها، كــ”هوية سياسية”، ومن هي في الفكرة، وفي الواقع، وفي الممارسة السياسية تحديداً.
ففي الفكرة/ الأيديولوجية/ المذهبية ،
الأمر واضح، على أن الاختلاف والحوار مع عبدالباري حول معناها السياسي، من هي في الممارسة السياسية، وفي مضمون وطبيعة صراعها العسكري والسياسي مع الحكومة الأفغانية التابعة للأمريكان التي سقطت، ومع الأمريكان،- الذين هندسوا صناعتها- والذي يغالي عبدالباري بالقول، إنها قاتلت وقاومت 24 دولة أجنبية، كما يتردد في الخطابات الصحافية السيارة الملحقة بطالبان، وباكستان النظام، ومن يدور في فلكهما!! ومعلوم للجميع عملية الصراع العسكري والسياسي بين طالبان، والحكومة الافغانية التابعة، والأمريكان، كيف تمت وملابسات ذلك الصراع العسكري والسياسي، والذي ما يزال يكتنفه الكثير من الغموض، وما تزال تداعيات ذلك الخروج الأمريكي من أفغانستان والذي يثير أكثر من سؤال مستمراً على كافة المستويات، وذلك حديث يطول شرحه، قد نأتي إليه في سياق تناولات قادمة، لأنها في هذا الحيز خارج نطاق سؤال: هل طالبان “حركة تحرر وطني” أم هي غير ذلك؟
إن طالبان تقول عن نفسها، إنها “حركة اسلامية/ جهادية” مهمتها وغايتها النهائية/ الاستراتيجية إقامة الإمارة الاسلامية على منوال “الخلافة الاسلامية”، وإن وطنها المنشود هو وطن ودولة الخلافة ،”دولة المؤمنين/ في مواجهة دولة الكفار”، دولة معلوم حدودها عند جماعات الاسلام السياسي بجميع تصنيفاتهم وتعريفاتهم المذهبية/ الدينية، وأن ذلك لن يكون إلا “بتطبيق الشريعة الاسلامية”، وهذا الخطاب تقوله ” القاعدة”، و” داعش”، كما تقوله وتمارسه ” طالبان “، وهو المنتزع من متن تأويلات بعض اتجاهات الفقه/ والفكر السياسي الاسلامي التاريخي، قبل أربعة عشر قرنا، على قاعدة “لا حكم إلا لله”، ونموذجها العقائدي/ والسياسي التطبيقي رأيناه خلال العقدين المنصرمين من حكم طالبان، وهو ما تعمل اليوم على إعادة إنتاجه بعد عودتها ثانية للسلطة، أو عودتها من رحلتها في/ ومن كفاحها “الوطني والتحرري”!!،لتهزم شعبها وتقتله بإعادته إلى العصور البدائية في التاريخ، وهي العودة التي قدمت إلى افغانستان راكبة على حصان ” التحرر الوطني”، و ” الوطنية” التي ينظر لها البعض، في اعتبار ” طالبان”، ” حركة تحرر وطني” .
إن طالبان، تقول وتمارس، بل وتنفذ على أرض الواقع، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود سياسة تحرير الشعب الافغاني من الحرية ومن السيادة على أرضه، ومن المواطنة، بل ومن ابسط الحقوق، وهي مستمرة في ذلك حتى اللحظة، والعالم يدخل عتبات العقد الثالث من الألفية الثالثة. ومع ذلك يصر عبدالباري على اعتبارها “حركة تحرر وطني”!! وهذا حقه وخياره الأيديولوجي والسياسي في القراءة والتوصيف والتحليل, وكل ما اكتبه وسأكتبه هو رأي مغاير لما يذهب إليه عبدالباري، على طريق بلورة رؤية سياسية موضوعية واقعية وتاريخية حول ما يدور الجدل حوله. وهو في تقديري أمر طيب ومحمود، قد يساهم في إثراء الحوار على طريق انضاج وبلورة رؤى فكرية، نقدية إضافية، معاصرة حول معنى “حركة التحرر الوطني”، في الأمس واليوم.
وهنا أجدني متفقاً مع الرأي القائل من أن طالبان “لم تكن فصيلاً وطنياً أفغانياً خالصاً في هويته، بل هي جزء من تنظيم أصولي دولي يهدف إلى إقامة نظام “الخلافة الاسلامية”، على مستوى العالم أجمع. فهي بهذا المعنى حركة عالمية ذات أيديولوجية. فاشية (مع تحفظي على تعبير فاشية) ومن أنها ليست حركة وطنية (…) كما أنها لا تمثل الهوية الاجتماعية الوطنية الافغانية، بقدر ما تمثل فئة قبائلية/ هي البشتونية،(أو إثنية/لافرق)، ولا تمثل مجموع مكونات الشعب الأفغاني. وبهذا المعنى، لا تعكس ولا تمثل المعنى الوطني والتحرري للشعب الأفغاني”، الشعب المغيب والمقموع من الجميع: من طالبان، ومن الحكومة التابعة، ومن الأمريكان، حيث الأغلبية العظمى من الشعب الأفغاني الصامتة، وغير الصامتة، خارج المعادلة السياسية والعسكرية التي تتحرك في نطاقها طالبان. وهذا القول يسرى على ما يجري في أفغانستان منذ أكثر من ثلاثة عقود وحتى اللحظة.
إن سمات وخصائص ومواصفات “حركة التحرر الوطني”، في معظم التاريخ السياسي التحرري، لا صلة لها بما تعنيه وتمثله حركة طالبان. ومن المهم أن تدرس وتقرأ في سياقها كجماعة مسلحة عقائدية “جهادية”، تكفيرية معادية للسياسة، وللحياة والعصر، ناهيك عن أنها لا تمثل مصالح أغلبية الشعب الأفغاني، ومن أنه لا أفق سياسي/ عملي لاستمرارها كدولة أو حتى إمارة اسلامية إلا ضمن تربيطات أقليمية ودولية ولفترة مؤقته، تكون فاتحة لحروب داخلية/ أهلية لا تتوقف.
وضمن هذا التصور الذي أقدره ولا أفرضه على أحد، لا أرى في طالبان “حركة تحرر وطني”، أو أنها يمكن أن تكون فاتحة جديدة معاصرة لمعنى “التحرر الوطني” بأي معنى من المعاني.
إن “حركة التحرر الوطني” لم تنته كما يتصور البعض، ولكن قطعاً لن تكون طالبان، عنوانا لهذه البداية الجديدة للتحرر الوطني، انتهى الشكل والمعنى القديم لحركة التحرر الوطني، ولكن تمظهراتها الجديدة/ المعاصرة، تعلن عن نفسها في أكثر من شكل ومن معنى، وفي أكثر من مكان، وبهذا المعنى ستبقى “حركة التحرر الوطني معاصرة”، في لبوس، وفي معان جديدة، تعكس وتمثل روح العصر، ما دامت الظاهرة الاستعمارية الكولونيالية عبر الصيغة الإمبريالية/ الاقتصادية والمالية والعسكرية قائمة في إعادة تدوير الظاهرة الإمبريالية كأعلى شكل للاستعمار مع صيرورة العولمة، ومحاولتها تغليب بُعدها العسكري والاقتصادي والمالي الاستعماري لنهب ثروات الشعوب الأخرى، تغليب ذلك على العمق والبعد الإنساني للعولمة، عبر الاحتلالات المباشرة للدول والشعوب في صورة غزو واحتلال العراق، وافغانستان، وليبيا، وعبر الأدوات المحلية المختلفة، “الوكلاء”، كشكل جديد،للامبريالية.
أو ليست الحكومات العراقية الاسلاموية الشيعية، والسنية التي قدمت عبر الدبابات الأمريكية، واحدة من هذه العناوين السياسية الاستعمارية الجديدة ، التي تتطلب مقاومة سياسية إبداعية نوعية “حركة تحرر وطني ” معاصرة؟ وكذلك، أليست حركة “طالبان” في طبعتها القديمة/ الجديدة واحدة من هذه الأدوات؟ ولن يخرج ما يجري في العراق، وسوريا (شبه المحتلة من أكثر من ثلاث دول أجنبية)، وليبيا، واليمن، ولبنان، عن كونها مؤشرات سياسية لمحاولة وضعها جميعاً تحت القبضة الاستعمارية الإمبريالية الجديدة، إما بالاحتلال المباشر، أو غير المباشر عبر (الوكلاء)، أو من خلال العمل لتفكيك وتقسم الدول، إلى ” كانتونات”، ميليشوية،كما يحصل في بلادنا اليوم، وتحت شعار المحاصصة الطائفية والقبلية، وضمن صراعات إقليمية دولية تملأ القوى الأجنبية فيه فراغ ساحاتنا الوطنية والقومية، وهو ما نشاهده في أكثر من حالة عربية، من فلسطين، إلى العراق إلى سوريا وليبيا واليمن، بعد أن تحولت إيران/الدولة القومية، إلى رمزً سياسيً بديلاً وحاملاً لشعار القومية العربية، ولتحرير فلسطين، عبر ما يسمى ” فيلق القدس”!!، بعد أن إمتلأ الفراغ السياسي بالحضور القومي: الايراني، والتركي، والاسرائيلي/ الصهيوني.
وشخصياً، لا أتفق مع من يرى أو يقول بأن “حركة التحرر الوطني” انتهت.
والحقيقة إنه انتهى شكلها ومعناها القديم أو تراجع، على أن الظاهرة في طريق صيرورتها إلى معنى جديد للتحرر الوطني، والتحرر السياسي والاقتصادي، والحقوقي، والديمقراطي، والإنساني، هي رحلة كفاح سياسي مدني مفتوحة على المستقبل، لاستكمال معنى التحرر السياسي، والوطني والديمقراطي في تمظهراته الجديدة / المعاصرة.
فكما كان للاستعمار القديم بعدين: بُعد حداثي، وبُعد استعماري، فالعولمة في وجهها الإمبريالي الكولونيالي كذلك لها ذات البعدين، بُعد الهيمنة الاقتصادية العسكرية والمالية والخدماتية، في طابعها الاستعماري/ الكولونيالي الجديد، وبُعد، التقدم العلمي الصناعي، التكنولوجي، في صورة ثورة الاتصالات والمعلومات، والتقانة واقتصاد المعرفة.
وبالعودة إلى صلب الموضوع السياسي والمباشر المختلف حوله:
هل طالبان “حركة تحرر وطني” أو أنها تعبير وتجسيد عن حالة تندرج ضمن ما نسميه “حركة تحرر وطني”، أتصور أنني قد رددت على هذا المنطق من القراءة والتحليل وقدمت رأيي الخاص حول ذلك في ثلاث حلقات ، تحت عنوان “طالبان بين العقائدي والعسكري والسياسي”، حيث ناقشت الموضوع تحت ثلاثة عناوين فرعية، هي وجهة نظري الخاصة ، وليست فصل الخطاب.. هي أفكار أولية قابلة للنقاش، وللبحث والإضافة والتعديل، على أنها في اتجاهها العام وجهة نظر مضادة ومقابلة لمن يقول بأن طالبان “حركة تحرر وطني”.
ومن البداية، من المهم التأكيد على أن ما نطرحه جميعاً في هذا الشأن/ الحواري، هو وجهة نظر ، ولا أحد منا يمتلك الحقيقة المطلقة، نحن نتحرك في نطاق التفكير النسبي، وليس الأفكار المطلقة المقدسة، خاصة ونحن نتحدث في شأن سياسي وتاريخي، وما يزال في حالة صيرورة.. هي وجهات نظر مطروحة للنقاش أمام الجميع ، لأن للحوار الجاري اليوم/ والآن حول طالبان و”حركة التحرر الوطني” قد نجد له صدى، أو صلة وصل بما يجري في بلادنا اليوم، حول خطاب البعض عن “مقاومة العدوان” ومواجهة “الاستعمار الأجنبي”، ومن أننا أمة/ أو شعب يقف في مواجهة “عداون استعماري”،مع أن ما يمارسونه ضد شعوبهم أسوأ وابشع من أي استعمار خارجي، ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولأن معنى الحديث في الحالتين قد نجد له أوجه شبه في من يرى أن طالبان، والجماعة الحوثية في هذا السياق لهما ذات المعنى والصفة من “التحرر الوطني” ، ومن أنهما سياسيا ، وأيديولوجيا وجهان لعملة واحدة، مع اختلافات وخصوصيات ذاتية وموضوعية تخص كل منهما على حدة.
وباب القراءة والاستنتاج والتأويل في هذا السياق، حول نقاط التلاقي، والتقاطع بين الجماعة الحوثية، وطالبان، وهي قراءة مفتوح لمن يريد وضع النقاط على الحروف.
إن اوجه الشبه بين “طالبان”، والحوثيون”انصار الله”، ماثلة في أكثر من بعد ومستوى: أولاً كليهما،جماعة، أو حركة عقائدية/ مذهبية/سياسية عصبوية، على اختلاف معنى ومفهوم العصبوية. ثانياً، كلاهما، حركة مسلحة، تعكس مصالح وتوجهات جماعة معينة، ولا تمثل مجموع مصالح كل مكونات المجتمع، ثالثاً، هدف كل منهما الوصول للسلطة والثروة بالقوة المسلحة، واقصاء جميع المكونات السياسية والمذهبية. رابعاً، كلاهما تحرك من ارياف الجبال القبلية الوعرة، لينتقل لقصر الرئاسة ، بدون ممهدات. خامساً، لكل منهما ارتباطاته الاقليمية، وحتى الدولية بهذه الصورة أو تلك، سادسا، كل منهما يقول إنه يقاتل العدو الاجنبي، وهو مرتبط بدول خارجية. سابعا، كلاهما قفز للسيطرة على السلطة بسرعة قياسية / خلال أيام، وصولا لاستيلائهما على العاصمة، ثامناً، الحوثيون، وطالبان، في الممارسة الواقعية، يفرضان نموذجهما الخاص على كل المجتمع والدولة في صورة مذهبة المجتمع، واسلمة الدولة، بقوة السلاح، وبقوة الارهاب السياسي والمذهبي. تاسعاً: الطرفان المسلحان، صادرا وغيبا وهمشا مؤسسات الدولة، واستبدلاها بالميليسيات الخاصة بهما . عاشرا،الجماعتان: طالبان في (كابول )، والحوثيون في (صنعاء)، لايثقون إلا بجماعتهم الصغيرة جدا، ولا يعترفون بالاخر إلا ملحقا بهم ومنفذا لمشيئتهم،حادي عشر، الطر فان صادرا وغيبا الدولة بالسلطة، وازاحا السلطة/النظام السياسي،(مؤسسات الدولة)، بالميليشيات المذهبية، والقبلية، وجميع أوجه الشبه المشار اليها، فيما بينهما، لا يقول أن أي منهما له صله ولو من بعيد بمعنى ” حركة التحرر الوطني”.
واعتقد أنني في مداخلاتي في الحلقات الثلاث السابقة، قد حاولت القول والتأكيد من أن حركة طالبان ليست “حركة تحرر وطني” وبالنتيجة كل من يماثلها في المعنى والسيرة. بل وأضيف كرأي، أن اعتبار طالبان “حركة تحر وطني” هو أعظم إهانة لمعنى التحرر الوطني، وهو أسوأ تشويه لمفهوم وقيم “التحرر الوطني”، ولنضالات الشعوب في سبيل الحرية والسيادة والاستقلال، لا يقل سوء عما تمارسه طالبان في الأمس واليوم ضد المجتمع الأفغاني وضداً على مستقبل إقامة دولة وطنية مدنية حديثة لعقود طويلة قادمة.
باختصار شديد، إن التنظير السياسي من أن طالبان”حركة تحرر وطني”، قد فتح شهية البعض للقول عن مثيلاتها من جماعات الاسلام السياسي المذهبية/الطائفية القبلية،في ارتباطاتها الاقليمية والدولية بأنها”حركة تحرر وطني”وهي اعظم جناية سياسية ، ترتكب بحق معنى ومفهوم التحرر الوطني .