- كتب: محمد ناجي أحمد
(1)
وُلِد جار الله عمر عام 1942 قبل وفاة والده بستة أشهر، بقرية كُهال ، ناحية النادرة بمحافظة إب. أبو ه معلم كُتّاب القرية “فقيه المعلامة” الذي يدرس الأطفال القرآن الكريم والخط وبعضا من الحساب. درس جار الله في المعلامة ثم واصل الدراسة في المدرسة الشمسية بذمار، ثم في عام 1960 التحق بالمدرسة العلمية بصنعاء، وبعد الثورة التحق بالمدرسة الإعدادية، وفي عام 1965م التحق بكلية الشرطة، وحين زار الرئيس جمال عبد الناصر صنعاء في ذلك العام شارك جار الله مع طلبة كلية الشرطة في ذلك الاحتفال…
ومما يتذكره جار الله من ذلك الاحتفال الخطاب الشهير لجمال عبد الناصر، وكلمة الأستاذ محمد محمود الزبيري، وقصيدة للشاعر عبدالله البردوني ظلت بعض ابياتها عالقة في ذاكرته، ومنها :
ومن جمال ومن أسمى جمالا
معجزات من المدى تتوالى
وشموخا يسمو على كل فكر
وكل قمة يتعالى
يا لصوص العروش عيّبوا جمالا
واخجلوا أنكم قصّرتم وطال.ص34-35.
يشير جار الله إلى أنه في الأيام الأولى من اندلاع الثورة السبتمبرية حصلت عمليات قتل كثيرة طالت بعض أنصار الإمام، وبسبب الأوضاع التي تحملها أية ثورة قُتِل الكثير من الوزراء والمسؤولين في عهد الإمام منذ الأيام الأولى للثورة، وبعضهم كان لا يستحق الإعدام، ولكن الثورة تكون دائما أشبه بسيل تجرف ما أمامها…
بحسب جار الله فإن منهج العنف كان سائدا في اليمن قبل الثورة وبعدها، سواء من قِبَل الإمامة أو من قِبَل الثوار.
باعتقادي أن العنف الثوري لثورة 26سبتمبر كان الأقل، وفي حدوده التي لا تقارن مع حركات ثورية عربية وغير عربية. بل مقارنة بعنف النظام الذي أسقطه، أي المملكة المتوكلية كان عنف ثورة 26سبتمبر لا يقارن معه.
وفيما يتعلق بموقف المجتمع الصنعاني من الثورة والقضاء على الإمامة، كان الشباب الشباب المتعلم والمنخرط في الأحزاب السياسية يقف إلى جانب الثورة، ولكن كان قسم كبير من أبناء صنعاء وخارجها، يؤيد الإمام ولا يرحب بالثورة. وفي الحقيقة كان الانقسام حقيقي في المجتمع، وإن كان يختلف بين منطقة وأخرى، فكان التأييد للثورة كبيرا في مناطق تعز وعدن والمناطق الوسطى والشرقية لكن في المناطق المحيطة بصنعاء كان التأييد للثورة يقتصر على بعض أبناء المشايخ، الذين دخلوا في صدام مع الإمام، وساهم بعضهم في الثورة، بالإضافة إلى بعض الضباط الذين انخرطوا في الجيش، أما سائر المواطنيين في المناطق الوسطى فلم يكونوا يؤيدون الثورة بصورة تلقائية، لكن الأمور كانت تتغير بين يوم وآخر. ص35.
عن المآخذ التي رددها البعض في نقدهم للرئيس السلال واعتماده على المصريين، يرى جار الله عمر أن السلال كان واقعيا باعتماده كثيرا على المصريين “يدرك أنه لولا التأييد المصري للثورة، لسقطت في عامها الأول، أو الذي يليه، وأنه دون الوجود المصري ما كان للثورة أن تستمر، ولذلك كان البديل للجود المصري هو تسوية مبكرة مع المملكة العربية السعودية ومع القبائل المحيطة بصنعاء، وهذا ما حدث بعد ذلك، وجميعنا يعرف نتائجه. وإذا ما نظرنا إلى تعامل السلال مع القبائل المحيطة بصنعاء لاعتقاده أنها السبب في وقوع العديد من الانتكاسات للثورة، فأنا اعتقد أن هذا أمر كان يعبر عن حالة واقعية، فإذا عدت إلى تاريخ اليمن منذ ألف عام، فستجد أن القبائل كانت تُصعّد إماما وتُسقط إماما آخر طبقا للمصالح”ص37.
لقد كانت الغنيمة هي الأساس في مواقف القبائل ” وما حدث بعد الثورة لم يكن استثناء لهذه القاعدة إلاّ من حيث وقوف بعض القبائل إلى جانب الثورة. فمثلا قبيلة حاشد وقفت إلى جانب الثورة لأن الإمام كان قد قتل مشايخها، وأعدم حسين بن ناصر الأحمر وأخاه حميد(يقصد ابنه حميد، اخو الشيخ عبد الله الأحمر) أما بقية القبائل ، فقد كانت ذات مواقف متنقلة بحسب المصلحة وبحسب تأثيرات المشايخ، وبحسب الظروف القائمة. بمعنى آخر لم تكن القبائل تحارب عن عقيدة أو عن اقتناع لا مع الإمام ولا مع معارضيه طوال التاريخ” ص37.
موقف حركة القوميين العرب من انقلاب 5نوفمبر 1967م:
على النقيض مما ترويه العديد من المذكرات ومنها كتاب يحيى مصلح، والذي يؤكد فيه وقوف الفرق العسكرية التي يقودها ضباط ينتمون لحركة القوميين العرب مع انقلاب نوفمبر1967، فإن جار الله عمر يؤكد أن قيادة الحركة المتواجدة في صنعاء كعبدالله الأشطل ومالك الإرياني قد اجتمعوا في بيت علي قشعة وهو من أبناء صنعاء وكان من قادة حركة القوميين واتخذوا قرارا بمقاومة الانقلاب، وبناء على ذلك تحرك أحمد قاسم دماج واتصل ببعض الشخصيات من المشايخ المؤيدين للسلال كالشيخ مطيع دماج واحمد عبدربه العواضي والشيخ أمين أبو راس، وبسبب عدم جدوى المقاومة، تراجعت الحركة عن مقاومة الانقلاب في اللحظات الأخيرة “فقد اجتمعنا في الساعة الحادية عشرة من مساء 4نوفمبر، قبل ساعات قليلة، واستعرضنا الوضع من جديد، ومدى قدرة قواتنا على التصدي للانقلاب ومدى قدرة المشايخ المؤيدين للسلال إيصال بعض القبائل إلى صنعاء في الوقت المناسب فوجدنا الإمكانية ضعيفة، وان الوقت قد تأخر… لهذا اتخذنا قرارا عند الساعة الحادية عشرة والنصف بالامتناع عن مقاومة الانقلاب والاكتفاء بمقاومته سياسيا، كما قررنا أن يختفي بعض القادة البارزين حتى لا يتعرضوا للاعتقال” ص42-43.
شهادة جار الله تبين أن موقف حركة القوميين كان ضد الانقلاب، وبسبب عدم توفر عوامل نجاح مقاومة عسكرية لمواجهة الانقلاب اتخذت الحركة موقفا مناوئا في مواجهة الانقلاب.
هذا يعني أن موقف الملازم عبد الرقيب عبد الوهاب وقوات الصاعقة التي كان يقودها، في مساندتهم لانقلاب 5نوفمبر لم يكن محسوبا على حركة القوميين، وكذلك قوات المظلات. فعبد الرقيب عبد الوهاب برواية لحمود ناجي إجابة لسؤال من يحيى مصلح عن انتماء عبدالرقيب لحركة القوميين العرب، أوردها الأخير في مذكراته، فنى ناجي ال كان مستقلا ولم يكن منتميا للحركة، كان وطنيا وعروبيا في توجهه العام.
لكن السؤال لماذا حمود ناجي وقوات المظلات مع الانقلاب؟
ربما يحيلنا هذا التساؤل إلى أن موقف قيادة حركة القوميين لم يكن موحدا إزاء انقلاب 5نوفمبر.
فجار الله عمر وهو يروي لنا موقف الحركة المناوئ للانقلاب، يشير كذلك إلى ان قيادة حركة القوميين العرب كانت حينها خارج صنعاء، فسلطان أحمد عمر كان في عدن، وعبد الحافظ قائد كان في الحٌديدة، وعبد القادر سعيد كان في تعز، وغيابهم أربك وأجل اتخاذ الموقف مما جعل إمكانية مقاومة الانقلاب ضعيفا، فالانقلابيون كانوا أسرع في السيطرة على المدرعات وتفكيك مقاومة الحرس الجمهوري.
أحداث مارس وأغسطس 1968:
يوصِّف جار الله عمر أحداث أغسطس والصراع على السلاح السوفيتي في مارس 1968 بأنه كان صراعا على السلطة، واستعداد كل طرف لإزاحة الآخر، إنها أحداث “ذات دلالة على عدم النضج السياسي وسيادة العاطفة والرغبة الثورية المتأججة في تحقيق الانتصار بالقوة، كما أنها صراع على السلطة أيضا.” ص47.
ويرى ان “التفكير بالتصالح والسماح للملكيين بالعودة كانت فكرة صحيحة لأن هؤلاء مواطنون يمنيون وكان يجب حل القضية سلميا، لأن الحل العسكري لا يمكن أن يحل أي شيء” جار الله مع فكرة المصالحة، لكنه ليس مع الممارسة التي سارت عليه تلك المصالحة، وهذا نفهمه من إشارته إلى ذلك حين تحدث عن أن غياب الدور المصري في اليمن كان يعني تسوية مع المملكة العربية السعودية ومع القبائل المحيطة بصنعاء، وهذا ما حدث وجميعنا يعرف النتائج، حسب تعبيره الرافض لهذه النتائج. ص36-37.
حديث جار الله عن أحداث أغسطس كان مقتضبا، وبأحكام تعميمية وتعويمية.
فالتنافس على السلاح السوفيتي، في مارس، بحسب رأيه، كان صراعا على السلطة، أخذ شكل الاندفاع الثوري مع عوامل جغرافية ومذهبية… مع خوف القوى التقليدية من هذا الاندفاع الثوري، وكذلك عوامل جغرافية ومذهبية.
في شهادة جار الله نجد موقف القوى التقليدية خوفا ونتيجة وليس فعلا استباقيا للتخلص من الشباب الثوري. إنه خوف القوى التقليدية من اندفاع الشباب الثوري، وبناء على ذلك كان توجههم التخلص منهم ، وقد أخذ الصراع شكله الحزبي والجغرافي والمذهبي.
ما يرويه جار الله عن مشاعر محمد خميس تجاهه بأنها كانت بحسب تعبير الأخير مزيج كراهية واحترام، “أكرهه وأحترمه” وباعتقادي فإن اختزال قتل محمد مهيوب الوحش، وعبد الرقيب عبد الوهاب بقرار من حسن العمري ليس فحسب يحمل في طياته مشاعر كراهية خالية من الاحترام يحملها جار الله لحسن العمري، بل الأمر يصل إلى إعفاء القتلة الآخرون من هذه الجريمة، التي لم تكن فحسب صراعا على السلطة وإنما كذلك إبداء حسن النوايا للسعودية والتقرب منها ونيل رضاها وذلك بالتخلص من الشباب الثوري الموصوف باليساري داخل الجيش، فهم بحسب مذكرات الأستاذ أحمد محمد نعمان ومذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ومذكرات الشيخ سنان أبو لحوم ومؤلفات عبد الملك الطيب- جيش يتبع الخارج، أي مرتزقة، إنهم ليس الجيش الوطني، فجيش القبيلة الذي تم التوجه لتأسيسه منذ مؤتمر عمران وخمر هو جيش الوطن.
حرب 1972:
في عام 1972أرسلت قيادة الحزب الديمقراطي الثوري اليمني بجار الله عمر كي يبلغ السلطة في عدن عن احتمالات الحرب التي سيشنها نظام صنعاء ضدهم، “حملت الرسالة إلى قيادة الدولة بطريقة سرية عن طريق جبال الحُجرية في محافظة تعز.
في عدن قابلت رئيس الدولة سالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل وكنت أعرف الاثنين من قبل. وقابلت علي ناصر محمد أيضا وكان وزيرا للدفاع(أعتقد البيض في حرب 1972 رئيسا للوزراء) وشرحت لهم الأوضاع في الشمال وقلت لهم إن احتمال الحرب قائم. وبهرني سالم ربيع عندما رد عليّ أن احتمال الحرب أفضل من أي وقت لاحق :”نريدهم يشنون الحرب الآن” فاندهشت أنه يرحب بالحرب وليس خائفا من أن الشمال أقوى” ص71.
العلاقة بين الحزب الديمقراطي الثوري اليمني والسلطة في جمهورية اليمن الديمقراطية تعود إلى علاقة الجبهة القومية بحركة القوميين، بل وانتماء الجبهة القومية كأفراد وفرق فدائية إلى حركة القوميين.
لكن العلاقة بعد أن كانت توجيهية من قيادة حركة القوميين للمسار الفدائي التحرري للجبهة القومية أصبح الآن يأخذ شكله المعكوس، فالجبهة القومية كتنظيم سياسي لسلطة ودولة أصبح هو من يوجه ويستقبل المعلومات الاستقصائية بما يتعلق بالشمال من الحزب الديمقراطي الثوري، الذي هو امتداد وتحول عن حركة القوميين العرب.
كان الحزب الديمقراطي الثوري في الشمال يرسل بالمعلومات لسلطة الجنوب، ويتلقى التعليمات بما يجب عليه فعله، وبالتالي كان الصراع مع الحزب الديمقراطي في جانب منه جزءا من الصراع بين نظام صنعاء ونظام عدن؛ أي صراع سلطتين ونظامين، وكان الحزب الديمقراطي يقدم ضريبة هذا الارتباط وهذا الصراع من دماء كوادره وأمنهم ومعيشتهم واستقرارهم.
وكان وضع الفارين من نظام عدن هو العمل وفق استراتيجية وتوجيه نظام صنعاء.ص73.
لقد حصل النظام في عدن على استعدادات نظام صنعاء لشن حرب 1972م من عديد أطرف وأفراد، ومن ذلك شريط التسجيل الصوتي لمجلس الشورى للجمهورية العربية اليمنية، وفيه كان قرار الحرب، قام عبدالله الراعي الذي كان حينها عضوا في المجلس بإرسال الشريط إلى السلطة في عدن، واستلمه علي ناصر محمد كما يذكر الأخير ذلك في كتابه “ذاكرة وطن” بل وصل الأمر إلى أن ينقل جار الله معلومات غير صحيحة وغير ممكنة وقتها، مفادها أن النظام في الشمال يستعد لتركيب مدفعية في قلعة المقاطرة، لضرب عدن والمصفاة، لكن قيادة الأركان هناك ضحكوا من عدم دقة هذه المعلومات، لعدم امتلاك الشمال حينها لسلاح مدفعية يتجاوز مداه 15كيلو إلى 20كيلومتر.ص71.
من أسباب هزيمة النظام في الشمال بحرب 1972 بحسب شهادة جار الله عمر “أنه ما زال لليسار قياديون في الجيش وفي طيران الشمال ولم يكونوا يضربون الأهداف بصورة دقيقة فجيش الشمال كان لا يزال هو جيش الثورة، ثورة 26سبتمبر.” ص72.
الصراع بين نظام صنعاء ونظام عدن كان صراع سلطة “فالشمال يعتقد أن الجنوب متمرد ولازم أن يُضَم إلى الشمال وتحقيق الوحدة بالقوة. والجنوب بقيادة الجبهة القومية- التنظيم السياسي وبقية الأحزاب المعارضة في صنعاء، يعتقد أنه لازم إسقاط النظام في صنعاء لأنه رجعي موال للسعودية وتوحيد اليمن تحت قيادة الأحزاب القومية والماركسية وبالذات التنظيم السياسي والحزب الديمقراطي الثوري المؤيد له هنا في صنعاء وكل الشخصيات اليسارية والتقدمية الموجودة في الشمال”ص73.
مقتل عبد الرقيب عبد الوهاب:
في مذكراته هنا يحصر جار الله عمر أمر قتل عبد الرقيب عبد الوهاب قائد قوات الصاعقة بحسن العمري، الذي أمر بتطويق علي سيف الخولاني، بعد لجوء عبد الرقيب إليه، وطلبه منه أن يوصل رسالته إلى العمري بأنه يريد أن يعيش في وطنها وليس في المنافي، لكن علي سيف الخولاني أخلى بيته من أسرته، ثم ذهب ليبلغ العمري، فكان التطويق والقتل ومن ثم سحل الجثة بالشوارع، ابتداء من شارع الشرطة ووصولا إلى ميدان التحرير. كذلك اغتيال محمد مهيوب الوحش، وهو من أبطال المظلات وأبطال حصار السبعين يوما، يحيل جار الله أمر قتله إلى حسن العمري، و”الأشخاص الذين سلموا أنفسهم للدولة قتلوهم في الشارع بأوامر حسن العمري” ص53.
شهادة جار الله تغفل موقف الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، والمجلس الجمهوري، فقد كان مقتل عبد الرقيب وابطال السبعين يوما بتوجيه من بعضهم وموافقة من بعضهم الآخر.