- قادري أحمد حيدر
طالبان بين الديني والسياسي والوطني:
“يبدو أن قدر افغانستان، أن تكون نقطة البداية في انهيار النظام الدولي المستند إلى الثنائية القطبية، في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم وقدرها أيضاً، أن تكون بوابة الانتقال إلى مرحلة تعدد الأقطاب في النظام الدولي المرتقب” (1).
وهذا يعني أن الحركة الطالبانية كانت وما تزال تعمل، وتتحرك في واقع سياسي اجتماعي صراعي داخلي متوتر ومضطرب .. ظاهرة وحركة عقائدية وعسكرية وسياسية وقبلية ممتلئة بالعنف، وبالكراهية للٱخر، ومتداخلة بكل ما يدور في داخلها الأفغاني، وفي محيطها الأقليمي والدولي.
حركة عقائدية عسكرية “جهادية” سياسية تتأثر بما يجري من حولها، وليست كتلة عقائدية أيديولوجية صماء، مثلها مثل أي كأئن سياسي حي، يخضع للحركة وللتحول، ولا يكفي أن تقول إنها حركة عقائدية/ مذهبية/ قبلية ومن أنها نشأت مذهبياً وسياسياً وعسكرياً مرتبطة بباكستان وفي أحضان الاستعمار الجديد وكفى، للذهاب لإصدار حكم مسبق نهائي عنها وحولها.. هكذا هي نشأت وبدأت، ولكن السؤال الذي له عن إجابة : إلى أي مدى هي مصرة على الحفاظ على الهيئة العقائدية، و”الجهادية”،اللاوطنية، لتكوينها القديم، لمرحلة النشأة؟، هذا الأمر لا نستطيع الإجابة عنه بصورة مسبقة ونهائية، إلا وفقاً لمؤشرات سياسية وأيديولوجية وعملية تقدمها حركة طالبان في سياق ممارستها على أرض الفكر السياسي، والممارسة العملية، ومدى استعدادها لتقديم مراجعة ذاتية أيديولوجية للمسألة المذهبية / الدينية، أي مدى انفتاح الديني/ المذهبي، على السياسي؟ ومدى انفتاحها على الأطراف والمكونات المذهبية والسياسية الوطنية والقومية في الداخل الأفغاني؟ ومضمون الإجابات السياسية والوطنية والعملية التي ستقدمها حول جملة من الأسئلة: الموقف من فكرة وقضية الإمارة الإسلامية؟ ومن خطاب “تطبيق الشريعة الإسلامية” الجامد، ومن موقفها من الجيش الأفغاني، وهل ستحله وتستبدله بميليشياتها المذهبية والقبلية، الخاصة بها؟ وما هو مستقبل علاقتها وموقفها من تنظيمات “القاعدة” و”داعش”، ومختلف التكوينات الإرهابية؟ ومدى استعداداتها الداخلية للتحول إلى حركة سياسية؟ وقدرتها على تغليب السياسي والوطني والقومي الأفغاني على العقائدي والجهادي؟ ما هي مصداقية اعلاناتها حول المرأة والمدى السياسي، والعملي والاجتماعي الذي ستسمح فيه لنشاط حركة المرأة على مستوى المجتمع ، وعلى مستوى مشاركتها في السلطة ؟
إن التاريخ لا يعيد نفسه، مع أفغانستان المجتمع، والسلطة والدولة، ولا كذلك مع طالبان.
فطالبان اليوم تقول أو تزعم أنها حركة سياسية، ولها مجلس سياسي أعلى، وهذا أمر جديد، قد يشكل – إن صدقت – بداية افتراق نسبية، وأولى مع مرحلة النشأة وما بعدها ، إلى حد ما، وكل ذلك الحراك السياسي في داخلها إن تحقق بهذا القدر أو ذاك، لا يخولنا بالقول أنها “حركة تحرر وطني” .
أي أن طالبان اليوم- كما يبدو- تتخفف وإن على استحياء وببطء شديد، من بعض اشتراطاتها الأيديولوجية والعسكرية “الجهادية”، والسياسية القديمة، وإن كانت على المستوى العقائدي/ المذهبي، والجهادي، ما تزال في حالة استمرار لما كانت عليه في مرحلة النشأة مع بعض التحويرات الطفيفة، هنا أو هناك على الصعيد السياسي، -قياساً على ما كانت عليه خلال الثلاث العقود المنصرمة- بما يتناسب مع الواقع السياسي الجديد.
فطالبان لا تعيش في فراغ، بل هي تتأثر بما حولها وسيكون الحكم السياسي عليها بقدر استجابتها الواقعية والتاريخية مع ما يجري في الداخل الأفغاني، ومع الخارج العالمي والعولمي.
الشيء الأكيد الذي يمكننا قوله، مع بعض التحفظ أو الحذر النقدي، هو أن العلاقة بين العقائدي والسياسي والميليشوي، يتحرك نسبياً لصالح تغليب السياسي، وهنا يكمن الفارق السياسي النسبي بين طالبان الأمس ، (الجهادية الميليشوية/ التكفيرية)، وبين طالبان اليوم في بعدها السياسي الجديد على الأقل وفقاً لما تقوله وتعلنه في خطابها الإعلامي، وهو ما نتمناه، وواضح أن طالبان (الحركة السياسية)، تعمل إزاحة نسبية لهيمنة البعد العسكري “الجهادي”، باتجاه تغليب البعد السياسي على العمق العقائدي فيها وإن ببطء شديد، لا يتناسب مع حجم التحولات الجارية على الأرض ، ما يعني – ولو نسبيا -أن حركة طالبان استفادت من تجربة السقوط القديم، والإدارة الإرهابية للسياسة والمجتمع والسلطة (الدولة) فإعلامها السياسي المعلن يقول –أقول يقول- بمد يد الحوار -هذا ما تصرح به – عن امكانية التشارك مع الآخرين على مستوى الإدارة التنفيذية (الحكومة) أي صناعة حكومة شراكة محدودة مع الأطراف الافغانية الذي نتمنى أن لا تحصره في مشاركة التكوينات الجهادية الآخرى خارج طالبان، وفي بعض رموز السلطة الأفغانية السابقة فقط وتتجاهل قوى حركة التحرر الوطنية الفعلية في الداخل الأفغاني،كما تعلنها مؤشرات تشكيل الحكومة التي أعلنت عن قيامها في تاريخ، 7/سبتمبر،2021م ،باغلبية/ طائفية ، باشتونية، وهي تسوية في صورة (حكومة)، تكون لها اليد الطولى فيها وفي كل ما يجري، وليس ذهاباً للقبول حتى بالحد الأدنى من التعددية الفكرية والسياسية والحزبية، سماح فرضته ضغوطات الواقع، والاشتراطات الاقليمية والدولية.
إن طالبان تدرك أن مصلحتها السياسية والعملية المباشرة هو في تقديم التنازلات السياسية والوطنية، ليس فحسب على المستوى السياسي، بل وعلى المستوى الثقافي/ الاجتماعي، وهي في العموم تنازلات هي مضطرة ومجبرة للقبول بتقديمها، لأنها بحاجة لاعتراف المجتمع الدولي بها، كما هي بحاجة حتى تستمر وتبقى في المسرح السياسي السلطوي إلى الدعم المالي والاقتصادي للمجتمع الدولي، والصناديق المالية والنقدية الدولية.
فدرس تجربة طالبان في الحكم: من سنة 1996م إلى 2001م، تقول لها بضرورة تغليب السياسي “البرجماتي” ،والوطني،على العقائدي والعسكري “الجهادي”، ومن أنه لا يمكنها الاستقرار في الحكم/ السلطة بدون الدعم المالي والاقتصادي من المجتمع الدولي، وبدون الانفتاح على الداخل السياسي والاجتماعي،والمذهبي، والقومي الافغاني، والأهم بالمشاركة الفعلية لجميع المكونات السياسية الافغانية في السلطة.
وفي تقديري أن تجربة السقوط المذل الأخيرة للحكومة الأفغانية التابعة للأمريكان قد أقنع الجميع أن لا حل إلا بالتقاء وتفاهم جميع المكونات السياسية الأفغانية على إنتاج تسوية سياسية وطنية أفغانية شاملة مقبولة من الجميع في حدها الأدنى ، تسوية يصنعها أبناء افغانستان أنفسهم، والبداية لتجاوز ما كان، يكون بالقطع السياسي والعملي مع حالة التقوقع والانغلاق الاستبدادي على الذات، والتخلص من وهم امتلاك طالبان للحقيقة المقدسة في ذاتها، والتي ما تزال تعيشها طالبان حتى اليوم، بعد أن أكدت لها التجربة السياسية والعملية أن الاستنجاد بالأجنبي ليس سوى عبث وجنون لا يقود سوى إلى استدامة الحروب الداخلية على طريق تحويلها إلى حروب أهلية / طائفية قبلية ، وهو ما نشاهده في أكثر من حالة عربية.
إن الدرس الأفغاني الذي لم تتضح لنا مآلاته السياسية النهائية بعد، مهم لنا جميعاً للاستفادة والعبرة منه، وتحديداً على مستوى التأكيد أن الاستنجاد بالأجنبي خطأ سياسي وتاريخي، أياً كان هذا الأجنبي، والذي لا يعني سوى فتح الباب واسعاً أمام دورات عنف داخلية لا تنتهي، الخاسر الأعظم فيها هو الشعب .
إن الاستخلاص الذي نستنجه من تجربة الصراع الأفغاني، ومن صراع طالبان مع الآخرين في الداخل والخارج، هو أنها لم تك في يوم من الأيام “حركة تحرر وطني”، ومن أنها حركة مذهبية قبلية عسكرية أوصلتها تجربتها الذاتية / السياسية والعملية المباشرة إلى أن لا خيار أمامها سوى التحول إلى حركة سياسية وهو ما يحصل، أو ما نتمنى أن يحصل اليوم، مع جماعة طالبان التي ما يزال أمامها طريق طويل طويل، إن أرادت، وقررت، لتتحول إلى حركة سياسية تقبل بالشراكة السياسية مع الآخرين في السلطة، وما يزال الحكم عليها بأنها “حركة تحرر وطني”، بعيداً في الأمس واليوم، لأن مسمى “حركة تحرر وطني”، لا يتناسب مع هيئة وتركيب وتكوين جماعة طالبان من جميع النواحي.
ولا يعنيني هنا الدخول في بحث أو نقاش، أن هناك تنسيقاً وترتيباً أو تعاوناً بين الأمريكان وطالبان، ومن أن أمريكا أرادت بالانسحاب المفاجئ والسريع، والسقوط الأسرع للولايات والمناطق من أنها محاولة أمريكية لخلق وضع غير مستقر في خواصر الدول الثلاث: الصين وروسيا وإيران والذي قد يكون أحد الأهداف السياسية الاستراتيجية البعيدة للأمريكان، ولا أرى ذلك يدخل ضمن نطاق “نظرية المؤامرة” وفقاً لما يجري من قتال وصراع .. “نظرية المؤامرة” التي لا أنكرها بالمطلق، ولا أوافق عليها بالكلية، ك. ” نظرية مستقلة تتحرك بذاتها “،لأنها في الواقع تعبير وتجسيد لجريان حركة المصالح السياسية والاقتصادية، أي المصالح المتغيرة أبداً على الأرض “فلا عداوات دائمة ولا صداقات أبدية”. فكل طرف يبحث في كل ما يجري عما يحقق مصالحه وغاياته السياسية والاقتصادية والأمنية الاستراتيجية، ومن هنا تبدل وتحول حركة المصالح بين أطراف الصراع في كل مرحلة على حدة.
- الهوامش:
1-د. يوسف مكي/ صحيفة الخليج/ الإماراتية 17/أغسطس،2021.