- د. قاسم المحبشي
كنت أفلاطونيا معكوسا لا أجيد التفريق بين الوعي والواقع بين الكلمات والأشياء بين الحقائق والأوهام بين المُثل التي تترئي لي في خيالي والعالم كم يتنضد أمام بصري. طفل مدلل في الثانية عشر من عمري كنت هامة مخدرة أعيش اللحظة بلا شعور ولا قانون ولا سبب ولا غاية.. أن الطفل المدلل لا يكون حزينا, أنه يسأم كما يسأم الملك – كما يسأم القط. بحسب تعبير سارتر. كان كل همي ينحصر في تحقيق نتائج جيدة في الامتحانات لكي أحصل على مكافأة مجزي من أبي وأمي. حينما أخلد إلى النوم كنت أحلم بالتحليق بين النجوم والكواكب وأرى الجنة تشع بالجمال والأنوار والفرح والسعادة بما لا عين رأت ولا آذن سمعت. كانت حكايات الجن والشياطين والساحرات التي اسمعها من الكبار تكتسب في ذهني صور حسية مشخصة وكأنني أراها حقا وفعلا. لم أكن أميز بين الشعر والنثر بين الحروف والأرقام والعلم والدين. وذات يوم أهداني ابن عمي العائد من المهجر ديوان البردوني وجوه دخانية في مرايا الليل جاء فيه:
أيها الليل … أنادي إنّما
هل أنادي ؟ لا … أظنّ الصوت وهمي
إنّه صوتي … ويبدو غيره
حين أصغي باحثا عن وجه حلمي
من أنا ؟.. أسأل شخصا داخلي :
هل أنا أنت ؟ ومن أنت ؟ وما اسمي ؟
ذلك الديون كان أول اتصالا لي مع الشعر خارج النسق المدرسي. وليس هناك أفضل من قراءة الشعر بالنسبة للمراهق في لحظة ميلاد الوعي بالذات الشعور بالحاجات الحيوية ورؤية العالم بعيون شهية. قرأت الديون في ليلة كاملة وعيوني مفتحة على غير العادة فرب نص أو قصيدة تطيّر النوم من العيون. ومنذ ذلك الحين وأنا أحب البردوني وأن يدرك المرء ، بعد فوات الأوان أنه : ليس بإمكانه أن ينهل من النبع مرتين) فحين يغيض النبع ـ مرة وإلى الأبد ـ دون أن نغرف منه ؛ لا تتكشف الأسئلة الحارقة عن غياب سهولة الارتواء من النبع ؛ بل عن غياب الجدوى التي تضمر فقراً مخيفا ً ، وذهولا عن الانتباه لعابر هائل مر بنا وكما يقول النفري: ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ) لقد اتسعت الرؤية لدية ربما تكون حاصرته تلك التأويلات ، في هذه العوالم الخرساء ، وزمان النكوص ( لكم تخذل المرء سيماؤه ، ولكم يجهل الناس ما يعرفون ، وهل أنت ، إلا الذي جهلوه ؟
وهكذا هم “الحكماء العظماء دهاة وغامضون
لا يُسْبَرْ لهم غور
ولأنهم كذلك ، فإننا لا نستطيع إلا أن نصف مظاهرهم :
” منتبهون كأنهم على جدول من الثلج في الشتاء
بسطاء كأنهم كتلة من الخشب الخام ”
كما جاء في كتاب التاو للصيني لاوتسيو.
فمن هو ذلك الذي يقرأ اغنية من خشب دون أن يشعر بارتجاف العقل والجسد
لماذا العدوّ القصي اقترب ؟
لأن القريب الحبيب اغترب
لأن الفراغ اشتهى الامتلاء
بشيء فجاء سوى المرتقب
لأنّ الملقّن واللاعبين
ونظّارة العرض هم من كتب
لماذا استشاط زحام الرماد ؟
تذكر أعراقه فاضطرب
لأن ((أبا لهب)) لم يمت
وكلّ الذي مات ضوء اللهب
فقام الدخان مكان الضياء
له ألف رأس وألفا ذنب
لأنّ الرياح اشترت أوجهها
رجالية والغبار انتخب
أضاعت أزل بنيها غدت
لكلّ دعي كأم وأب
وأقعت ، لها قلب فاشيّة
ووجه عليه سمات العرب
فهل تلك صنعاء؟ يفرّ اسمها
أمام التحرّي ويعوي النّسب
وراء الستار الظفاري عيون
صليبية وفم مكتسب
عجوز تئنّ بعصر الجليد
وتلبس آخر ما يجتلب
لماذا الذي كان ما زال يأتي ؟
لأنّ الذي سوف يأتي ذهب
لأنّ الوجوه استحالت ظهورا
تفتّش عن لونها المغتصب
في تلك القصيدة كل مأساة العرب لمن يفهم السياقات والمعاني وما بينها وما خلفها وما تحتها. بحثت عنها بصوت البردوني في يوتيوب فجدتها باصوات وصور مشوهة ومقززة.