- ضياف البراق
هذا الوطن رمادٌ أبديّ، فراغٌ كبير لا خير فيه، ولا معنى له. وما تريد أن تكونه، اليومَ أو غدًا، هو أمر مستحيل، شيءٌ لن يتحقق أبدًا. هذا مع أنك لم تعد تستطيع أن تكون حتى أي شي. فلا تحاول. ابتسم قليلًا، وعانِقْ خيباتك عناقَ الوداع الجميل، ثم انفصِلْ عنها، ولا تعد إليها بعد الرحيل. يؤلمك أنه كلما كبرتْ حُريّتكَ، زادت مخاوفك، وتمكّن أعداؤك من السيطرة عليك.. أنت المهزوم الآن، وها هم يضحكون من تمزُّقك نفسيًا تحت ضربات سياطهم. لكن، لماذا تحاول التمسُّك بالخواء، بينما تبدو قادرًا على الخلاص منه؟ حسنًا، لا تكترث لهزيمتك الشاسعة، وانتصِرْ عليهم بهذا المنطق البسيط: عدم الاكتراث لأي شيء. ولكن حتى المنطق لا يعجبك، ولا يروي عطشك التساؤلي. أنا مثلك أيضًا، فلستُ أحب المنطقَ، ولا أثق به، إنني أحب الجنونَ، الجنونَ فالِتًا من أغلال وأمراض الوطن، ساحِقًا العتمات والرتابة والخِطَابة الكاذبة، زارِعًا وردةَ الحياة في صحراء الهاوية، ناشِرًا أغنيات المحبة في ساحات الكراهية اللعينة..
جدار روحك المليء بالثقوب، دعه يسقُطْ كاملًا، دعه يَرْتَحْ منك، لا تحاول عدمَ الاستسلامِ، فلن ينفعك الانتظار وقد تلاشت أحلامُك، وضاق الأملُ عليك، ومات أصدقاؤك الطيّبون، لا تحاول. ومن تلك الثقوب المتسعة، تتسرب الرياحُ إلى داخلك، فلا تترك لك شيئًا رائعًا، وليس من الممكن تصريفها عَبْر فمك إلى سلة فارغة، بالتأكيد يصعب عليك إخراجها من أعماقك المنهَكة، فاثبت في مكانك، واصمت لا أكثر، فالصمت وحده مفتاح النجاة من بشاعة الكلام. تبدأ هزيمتك القاسية عندما يبدأ صياحك الغبي، وينتشر الموت الساحِق مع انتشار الأمل الفاسد. على أنّ اليأسَ ليس ثقيلًا على دماغك المفتوح على العدمية الساخِرة، لكنه أقل اتساعًا لك من الأمل الذي أنت تركله بقدميك. في الحقيقة، حتى إذا انتهت كآبتك، فسيبقى العالم كما هو، لن يتغير أي شيء. معك حق، فالغباوة خطر فتّاك على الوجود كله، الأغبياء هم المشكلة الضاريّة، وسوف يهزمونك لا محالة. والتذاكي هو دائمًا أسلوب الأغبياء في تدمير الأرواح الطيّبة، وإفساد الأشياء الجميلة، وإغلاق نوافذ الأمل. وهذا العالَم يموت دائمًا، نفسيًا وجماليًا، من التذاكي الذي يمارسه الأغبياء علينا. والغبي إذ يمارس عليك التذاكي، إنما يثبت لك بالتجربة الواقعية أنه، بحق، مخلوق غبي بلا حدود. غباوة الصغار ليست مؤذية، لكن غباوة الكبار لا تُطاق، يا لبشاعة هذه الأخيرة..
لِمَ تُكَرِّر المحاولةَ، وقد انتهى وقتها؟ دع قلبك ينمْ نومًا أبديًا، لا تخنقه بأنقاض وجثث اللحظة الراهنة، وبالتالي فلن تحتاج حتى إلى نفسِك المُرتعِشة بين مخالب الضياع الوحشيّ، هذا هو المخرج الوحيد أمامك، فصدِّقني لمرّةٍ فقط، لا تُعطِ جراحَك الجديدة فرصةً أخرى لاستعادة ماضيك الثقيل، المُتصِّحر، المتكظ بالكوابيس الطويلة. امسح وجهك بزيت النسيان، امحُ الأشياء الخاطئة والطموحات من ذاكرتك المُختنِقَة، ليس هذا أوان التحدي الحقيقي، ثُمَّ ألمْ تخذلك المواجهةُ مَرّاتٍ لا تُحصى.. إذن فابحث عن الظلام الهادئ، ذاك الذي لا يعرفونه، غُصْ فيه عاريًا وخفيفًا، وأنت تضحك ملءَ الفراغ، انطوِ هناك على صمتك النقي، اترك لهم الضوءَ الزائفَ، واتركهم إلى غرورهم الغبي فسوف يبتلعهم بدلًا عنك. ولكنني، أيضًا، سمعتُك بالأمس تقول، وكان صوتك يتمزَّق وصدرك يصرخ من الألم، نَعَمْ سمعتُكَ تقول إنّ أقسى ما يُبتلى به الرجل الطيّب، أن يتعلق قلبه بامرأة أنانية وكذّابة ولها وجوه متعددة..
ثُمَّ، وأنت تنتصر عليهم، ولو بعد فوات الأوان، لا تعاملهم بشهوة الانتقام، وأدواتِ النفي والجر، تمهّلْ، ولا تثق بالتسامح ولا بقاموس العنف ولا بأيٍّ من هؤلاء الأغبياء، بل لا تثق حتى بأنك سوف تنتصر ذات يوم، غنِّ لهم أغنيةَ الصمتِ الناضِج، وارقص لنفسك، وارقص للجميع أيضًا، وارقص مع الحياة دون تكلُّف، دعك من فكرة العودة إلى نقطة الصفر، وانسَ فكرةَ النهاية، ابتسِمْ حيثُما أنت الآن، تواضع قليلًا، ما زلتَ بخير، فالهزيمة ليست النهاية، إنها لرائعة حقًا هذه الحياةُ الباردة، وتعني: لا تحاول! فلا أحد سينتصر على أحد، كلكم في آخر المطاف سواسية في معدة تلك الهاوية السفلية نفسها. لقد قال لي اليومَ ذاك الرصيفُ المُتعَب: عش ودع غيرك يعش. لا غنىً عن التسامح، ولا حياة إلا به. عش الحياة بفلسفة التسامح. عشها وكفى. إنها حلوة أحيانًا. لا تنتقم من أحد، ولا تكره شيئًا، وليكن التسامح وطنك البديل، إنه وجودك الأفضل. اسمحوا لي أضحكْ عليكم، وأتمرّدْ على الحرب، هكذا..