- كتب: قادري أحمد حيدر
لقد تحددت نصيحة القاضي/ الرئيس، عبدالرحمن الإرياني للرئيس إبراهيم الحمدي (مذكرات الرئيس القاضي)، في ضرورة تغيير أمرين:
الأول: أن يستبدل القبيلي البندق بالقلم، والجهل بالمعرفة.
الثاني: أن لا أرى يمنياً واحداً يمد يده للخارج في سبيل الحصول على المال ، وتكون النتيجة السياسية فرض الوصاية على اليمن.
وكما ترون أن الأمرين اليوم ما يزالان يفسران ظاهرة التبعية للخارج، وتحول الداخل السياسي الرسمي إلى وكيل للخارج، وبالنتيجة تحول الوصول إلى السلطة إلى حلبة صراع (محاصصة متخلفة) بدعم من الخارج لبعض الداخل ضد بعضه البعض، وهو ما نشهده اليوم في صورة الانقلابات الميليشوية، التي عمت البلاد، خلال الست السنوات المنصرمة، بعد أن ساعد دعم الخارج أو الاستنجاد به في تحول الدولة إلى ميليشيات.
كان الرئيس/ عبدالرحمن الإرياني متوجساً مما سيواجهه الرئيس / إبراهيم الحمدي،بعد “الحركة التصحيحية”،أو “الانقلابية/ الإنقاذية” ، على نظامه ، متوجساً وخائفاً من التحديات التي سيواجهها الرئيس الشاب (إبراهيم الحمدي)بعد استقراره في قمة الرئاسة، ولذلك كتب إليه بعد استقراره في الحكم رسالة من منفاه في سوريا شرح له فيها بإيجاز تشخيصاً سياسياً عميقاً لجزء هام من “المشكلة اليمنية” جاء فيها :
“كنت على ثقة أن الشيخ عبدالله الأحمر، ومن ورائه الإخوة في المملكة لن يتركوا لك فرصة كبيرة حتى تستكمل بناء دولة يمنية قوية، وفاعلة وغير قابلة للابتزاز، وتعدد الزعامات والسلطات الحاكمة وهو ما حدثتني به نفسي بعد يوم من خروجي من السلطة، وخشيت أن أنبهك إليه حتى لا يعتقد البعض أني غادرت السلطة، وفي نفسي منها مثقال ذرة واحدة، لكني تابعت ما وصلت إليه الأمور بينكم وبين الشيخ، وأشفقت عليكم من متاعب كبيرة خصوصاً بعد وصولكم إلى عند الحاجز الذي توقفت أنا عنده وعجزت عن تجاوزه، وان كانت ظروفك أنت أفضل، فأنت ولد شاب ونشيط، ومثقف وصاحب جاذبية وحظوة عند مكونات الشعب اليمني، مجتمع الثقافة والحرية وليس مجتمع القبيلة، لكن الجيش الذي تحت سلطتك الآن ومصدر قوتك لايزال جيش القبيلة الذي يحتاج إلى التحرر والثقافة لمعرفة أهمية الدولة”.
إن خبرة وتجربة الرئيس/ عبدالرحمن الإرياني من قبل الثورة (الفترة الإمامية) وما بعدها حتى قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وما بعدها، أكدت له بالملموس أننا لن ندخل العصر بدون دولة وطنية يمنية قوية، دولة مشاركة شعبية ديمقراطية، والبداية في تحررنا من الجهل المسلح، “لتنمية وتطوير وتعليم القبيلة”، وكل أبناء اليمن، من خلال تنمية المجتمع اقتصادياً وتنموياً.
وأن البداية للدخول للحداثة والتحديث (العصر الجديد) لن تكون تكون بغير سلاح التعليم والمعرفة، وبدون الدولة الديمقراطية التي تعني الاعتراف بالآخر (الإقرار بالمواطنة)، أي من خلال شراكة ومشاركة الجميع في بناء المجتمع والدولة، وبغير ذلك لن نصل إلى الاستقرار السياسي، وإلى السلام المنشود، وهو ما يجب أن يكون مستوعباً ومفهوماً للجميع .
ولذلك كانت أولى خطوات الرئيس الشهيد/ ابراهيم الحمدي،التوجه الجدي نحو بناء الدولة المركزية الحديثة،ضداً على دولة” المركز/ العصبية/ دولة التغلب”، وكانت بداية تحركه العملي في اتجاه بناء جيش وطني يمني،يكون ولاءه للدولة،وهي ذات النصيحة التي ألمح أو نبهه إليها، الرئيس/ عبدالرحمن الإرياني،من أن الخطورة تكمن في واقع جيش موزع الولاء بين الهويات المتخلفة، وبدون استراتيجية وطنية قتالية،من يقرأ ما بين سطور الرئيس الإرياني،سيجد اشارة ضمنية لذلك،وهو ما حاوله الرئيس الشهيد/ ابراهيم الحمدي،فسبقه لذلك الإغتيال الجبان .
(2)
كانت، وما تزال الحرب/ الحروب الداخلية (اليمنية / اليمنية)، هي القاطرة والبوابة التي تدخل منها المشاريع الأجنبية(الرجعية والاستعمارية، وحتى الصهيونية كما كان الحال ضد ثورة سبتمبر، وكما نحن اليوم ، في صورة ما يجري في جزيرة سقطرى والمهرة) ،وفي غيرها من محافظات البلاد.
قد تكون ظاهرة التدخل الأجنبي، عبر الاستنجاد به من بعض الداخل، ضد بعضه البعض، حالة قائمة ومعروفة في تاريخ دول وممالك العالم القديم، بما فيه تاريخ اليمن القديم، بهذا القدر أو ذاك، ( قبل ثلاثة أو الفين من السنين)، حين لم تكن تطورات مفاهيم “السيادة” و”الحدود”، و”الاستقلال”، و”الوطن”، و”الوطنية”، و”الدولة”، قد تبلورت، وأخذت معانيها ودلالاتها الحديثة والمعاصرة، بفعل تاريخ من الكفاح السياسي والوطني والحقوقي، للشعوب والدول. على أن استجرار البعض ذلك التاريخ القديم على هذا المستوى حتى اليوم، ليس له من تسمية سوى أنه إفراط في التفريط بالسيادة، والاستقلال، وبكيان الدولة السياسي، والوطني، حتى لا نقول أكثر من ذلك.
اليوم- في تاريخنا المعاصر- القبضة العدوانية السعودية حاضرة في كل حروب اليمن، من حرب الطائف 1934م، إلى انقلاب/ حركة، 1948م الدستورية، ودور السعودية في المساعدة في إفشال حركة،1948م الدستورية، إلى دورها الرجعي الاستعماري في الحرب على ثورة 26 سبتمبر 1962م، وعلى ثورة 14 أكتوبر 1963م، فقد اشتغلت السعودية من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م،لتأجيج ودعم الحروب الداخلية، بدءاً من أحداث 23/ 24 أغسطي1968 م، حتى تتويج ذلك بما أسمته “المصالحة الوطنية” في اتفاق جدة مارس 1970م، التي جاءت لتخدم في جميع تفاصليها تكريس التدخل السعودي في شؤون اليمن، وتعيينها من بعد ذلك، مندوباً سامياً لها في اليمن، هو الذي كان فعلياً،يدير البلاد من خلال أتباع/ الوكلاء،بدءا من/ صالح الهديان إلى السفير محمد آل جابر ،الذي كما يبدو أنه قد استنفذ دوره والمهمات المرسومة له حتى يجري التفكير باستبداله بمندوب سامي جديد.
فالسعودية طرف أساسي داعم “لحرب المنطقة الوسطى” في صورة دعمها المزدوج لأتباعها في النظام، وفي “الجبهة الاسلامية”.. ولا يمكننا- وفقا للوثائق والوقائع- قراءة الحروب الشطرية (بين دولتي اليمن) بعيداً عن الأهداف السياسية والعسكرية السعودية، والقوى الدولية التي تقف خلفها.. فالحروب هي الأداة الرابحة التي توظفها السعودية لتفكيك اليمن، وتقويض تنميته الاقتصادية، للوصول إلى أضعاف بنية الدولة وتدميرها.
فالسعودية في حرب 1994 لم تقف فعلياً وسياسياً مع أي طرف إلى النهاية، ولكنها وقفت مع الحرب، واستمرارها التي وجدت فيها فرصتها لتدمير مشروع الدولة الوطنية/ الجمهورية اليمنية، والأهم فرصتها في القضاء على الديمقراطية والتعددية، حتى الوصول إلى الغاية المشتركة مع الأطراف الاستعمارية الدولية في تدمير ترسانة وآلة الحرب السوفيتيه في جنوب البلاد، كما أشار إلى ذلك محقاً د. عبدالسلام نور الدين، في واحدة من مقالاته.
ولا أقرأ استمرار الحرب الجارية اليوم، دون أفق سياسي، أو عسكري للحل، سوى أنها واحدة من الأهداف الاستراتيجية للسعودية/ والإمارات، في إنهاك اليمنيين مع الحفاظ على حالة من “توازن الضعف” فيما بينهما، متوهمة أنها بذلك ستخرج قوية في نهاية المطاف.
إن موقف السعودية من اليمن، دولة، وشعب،هو موقف عدائي، فالمملكة ترى في وجود دولة يمنية قويةفي جوارها وعلى تماس مباشر معها حدودياً،ترى في ذلك- مع الاسف- مساً بمصالحها، وتهديداً لأمنها الوطني، وهو ما ألمح اليه الرئيس/ عبدالرحمن الإرياني، وما أوردناه في مستهل حديثنا،وكان، اغتيال الرئيس/ ابراهبم الحمدي، هو العنوان السياسي البارز لذلك العداء، الذي وصل بهم حد التخطيط، بل والمشاركة الامنية/ اللوجستية في التنفيذ، لاغتيال رئيس دولة، فالإغتبال ما كان ليتم لولا الأمر والقناعة والمصلحة السعودية بذلك.
إن الموقف الإستراتيجي للسعودية من اليمن هو العداوة والكراهية، أما موقفهم التكتيكي، فمحكوم بالشروط السياسية الأنية، في كل وضع وحالة على حده.
لقد طردت السعودية بعد حرب الخليج، أكثر من مليون من العمالة اليمنية، والهدف تعميق حالة الحرب: اقتصادياً واجتماعياً،باضافة البعد الاقتصادي للأزمة، وحتى اليوم والبلاد تعيش حالة انقلاب وحرب منذ اكثر من ست سنوات والسعوديةمستمرة في ترحيل المئات في كل شهر، وعلى دفعات، ولم تفكر في تقديم تسهيلات خاصة للعمالة اليمنية،
” التاريخية” بل هي تتشدد في التضييق عليهم، وبصورة قسرية، وفي الغالب لاتفه الأسباب، وكأنه تقصد للمضاعفة من معاناة الناس اقتصادياً،واحتماعباً، فهي اليوم ترحل شباب يمنين ولدوا في السعودية وبعضهم لم يزر اليمن سوى مرة واحدة في حياته.. واستكملت السعودية حملة كراهيتها لليمن واليمنين، بطرد اكثر من ( 106)، من حملة الدكتوارة من الجامعات السعودية، بدأت بمحافظات الجنوب، واتسعت لتشمل كل الجامعات السعودية، بل وكل من يعملون في المستشفيات، وفي المرافق المهنية المختلفة.
والكارثي، حد الانحطاط، أن كل ذلك يتم ولاتقول الرئاسة المغيبة، والحكومة اليمنية كلمة واحدة حول كل ما يجري، بل وحتى قيادات المكونات السياسية التزمت الصمت كعادتها.”من يهن يس هل الهوان عليه …”، فمن يسكت عن انتهاك السيادة، ويفرط بالاستقلال الوطني، ويقبل بمصادرة قراره السياسي الوطني المستقل، فكل ما يجري بعدها تحصيل حاصل.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل ذلك يكشف عن صورة دولة استقدمت لاستعادة الدولة اليمنية، ضمن ما يسمى ” التحالف”، أم هي حضرت لترسيم حالة الاحتلال؟!
وكيف نفهم أن “تحالف”، وظيفته السياسية، والعسكرية استعادة الدولة، وهو عمليا من يحاصرها،ويلغي معنى وجودها في واقع الممارسة، بل هو عملياً من يمنعها من العودة إلى بلادها؟
إنها الحسابات التكتيكية غير المحسوبة النتائج بدليل ما يحصل اليوم على الأرض، وانعكاساته السلبية على كل المنطقة.
لقد كانت رؤية القاضي/ الرئيس الإرياني، ثاقبة وعميقة وصائبة تاريخياً، من أن السعودية لن تترك اليمنيين يبنون دولتهم الوطنية/ القوية التنموية الديمقراطية، ومن هنا كانت رسالته، للرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، وهي ذات الرسالة التي نعيد توجيه إرسالها اليوم للجميع، بالتخلي عن المراهنة على الخارج، أي كان هذا الخارج: سعودياً أو إماراتياً، أو إيرانياً، أو أمريكياً ..إلخ
هل نستوعب الدرس؟