- ضياف البراق
النضال يعني التحرُّر تقدُّميًا، أو الحرية صعودًا من حضيض البؤس إلى سقف العيش الكريم، ولا كرامة لنا بغير استمرار هذا النضال.. فهو السلاح الحقيقي القدير على استعادة حقوقنا المسلوبة، وإسعاد حياتنا الحزينة، فلا ريبَ أنه بهذا النضال، وفيه، نستطيع أن نحقق أحلامنا الجميلة، ونكون متساوين في ميزان الوطن، شركاء في كل المصالح، متعانقِين في كل المراحل..
والمُهِمّ، هل سألنا أنفسنا يومًا.. لماذا نناضل،
وكيف ينبغي أن نناضل، وما معنى أن نناضل، وما غايتنا الوطنية العليا الواحدة من هذا النضال.. متى قد تساءلنا هكذا، وهل نتساءل الآن ونحن في جبهات النضال.. ثُمَّ، هل نضالنا يصدر عن فلسفة وطنية مستنيرة نزيهة وشاملة، ويسير مدفوعًا بوعيّ شعبي مُنظَّم، وما قيمة الصالح العام في نضالنا..
نضالات وراء نضالات، وثورات فوق ثورات، وكلها تختفي في السراب القديم، أو تنتهي رمادًا تبتلعه الحروب الأهلية، ومع ذلك كله، ها نحن ما زلنا نناضل من جميع الجهات، وفي كل الميادين، ونثرثر ليل نهار عن النضال، حتى لقد حوّلنا الحريةَ إلى بالوعة هائلة تلتهمنا جميعًا، وهذه رياحُ الدمار لا تشبع من موتنا، ولا نحن نبشع من ضربات سياطها..
نحن شعب مجنون بالحرية الفارغة، حدَّ الذوبان فيها، يا سلام علينا نحن الذين لا ننام ولا نستريح بسبب إفراطنا في الحرية، فالحرية هي لعبتنا الوطنية المُقدَّسة، بنيرانها نشتوي، وبلغتها نهذي ونتكلم، إنها بحرنا الخياليّ الواسع نغوص فيه حتى نضيع في أعماقه البعيدة، ولن نتوقّف عن كوننا مناضلين مأخوذين بعشق التحرُّر، ولن نموت ما دمنا على طريق النضال نركض فارغين ونتهاوى في حماس عجيب..
ونرى شعبنا المنكوب والمُمزَّق يخوض كل يوم نضالات شتّى، للحصول على الكهرباء، والغاز، والرغيف، والصحة، والأمن والاستقرار، لكنه لا يحصل على شيء منها، ولا يشعر مع ذلك باليأس، ولا ينتصِر.. إننا نناضل بروح مستميتة، لقد خُلِقنا لكي نُناضِلَ وحسب، ونهدمَ جدران الجهل والقهر والاستعباد، ونبني دولتنا السعيدة الحديثة المنشودة، التي تعطي حياةً كريمة للجميع، دون تفضيل أحد على أحد، أملنا أن نجعل صوت العدالة فوق كل صوت، وهذا مبدأ أساسي في نضالنا الطويل.. النضال هو شُغْلنا الشاغل، النضال منهجنا ونبضنا، النضال هدفنا الأول والأخير، نَعَمْ النضال موضوع كلامنا اليومي، إذ لا شيء غيره يبعث فينا الأمل والضحك، ونحن لذلك، ولأسباب أخرى، في الصباح نناضل، وفي المساء نناضل، ونناضل ظُهرًا وعصرًا، لا يستريح المناضلون الأبطال، وكلما تقدّم نضالنا تراجع وطننا إلى الخلف إلى الجحيم..
يناضل الشعب اليمني منذ منتصف القرن الماضي، على نفَسٍ واحد، وبشهية تحرُّرية مفتوحة، ضد مغتصبي إرادته وكرامته وأحلامه، وسعيًا إلى الاستقلال والاستقرار والسعادة، وما زال نضالنا يتدفق سيولًا فيّاضة من الأصوات العالية المتناحرة إلى يومنا هذا، في شمال الوطن وجنوبه، إنه النضال القائم على الشعارات الكاذبة، والمزايدات الحاقدة، والعداوات الحزبية، والتفاهات المُتطرِّفة، والمشاريع الصغيرة والعبثية..
الساسة عندنا يناضلون لحماية سياستهم فقط، والمثقفون لحماية ثقافتهم فقط، فالمصالح الشخصية تسبق المصلحة الوطنية، والأحزاب تناضل من أجل محازبيها فقط، نضال اليمين هو الحرب على اليسار، ونضال اليسار هو الانتقام من اليمين، إنه الصراع الحامي الوطيس بين الكوابيس والضغائن، كل هذا يجري في حلبة واحدة، والكثير مِنّا يناضل لمجرد الاستعراض الإعلامي، أو لأجل التسلية وتمضية الوقت الثقيل، الحاضر هنا يحترق من أجل استعادة الماضي، هكذا مستقبلنا يتدمَّر على صخرة هذا النضال الزائف والعشوائيّ والعدمي، جميعنا إذن نخسر الحاضرَ والمستقبلَ معًا، في وقت واحد، جميعنا نخسر الوطنَ ونكسب الخرابَ والموتَ والمهانات والمخازي القاسية..
لمْ يحقق النضال اليمني الوطني أيَّ نجاح ملموس، ولمْ يغرس حتى فرحًا واحدًا على الأرض، أرضِنا، فماذا أنجزنا حتى الآن، طبعًا لا شيء، إننا إذ نناضل إنما نصنع الخسارات، ونزيدها، هذا ما نفعله دومًا، والفضيحة الخطيرة أنه لا يوجد عندنا ذلك النضال الواعي المشترَك، نضالنا ليس مُنظَّمًا ولا موحَّدًا، ولا يُوحِّد ولا يشق طريقًا للتعايش، وهذا سبب هذا التمزُّق الوطني وهذا الانحطاط الراعب والمُرعِب.. إنّ نضالنا الطويل يأكل بعضه بعضًا، كل نضالاتنا على اختلافها، وكثرتها، ليست وطنية، ولا ناجحة، إنها في الواقع مجرد انتحارات انتقامية وعبثية تحول بيننا وبين ذاك الوطن اليمني الجديد الذي نحلم به ونسعى إلى تحقيقه أو نزعم أننا نناضل لأجله..
أجل، نحن نناضل دائمًا وأبدًا.. لكننا ما زلنا غرقى كالجثث في مستنقع ظلامنا نفسه الذي نناضل لتبديده.. نضالنا من أجل الحرية ليس إلّا مجرّد دوران تكراري حول ماضينا العبودي ذاته.. نضالنا النشيط هو أن نتمزّق، أن نهدِمَ كل الطاقات والإمكانات، ولا نبني شيئًا، أن نُلوِّثَ كلَّ معدن، ونخون كل معنى، أن لا نكون متوحِّدين حول قضية كُليّة واحدة جامِعة، وفي مصير واحد، وعلى حُبِّ وطنٍ واحد، لا، بل نضالنا يعني أيضًا أن نبقى متكارهين، متفرّقين، مسحوقين، مُضَعْضَعين ضائعين في كل مكان وكل يوم، وإننا إذا بقينا مُكبَّلين بهذا الغباء الكارثيّ الشاسِع فلن نُنتِجَ سوى المزيدِ من الغباءِ والضياعِ والخرابِ واللا وطن..
نضالنا ليس نقيًا، إنه سيل من القذارات ذات الأمزجة المتناقضة.. نضالنا الوطني، نحن اليمنيين، هو هذا الصراع الأهلي المرير، هو هذا العبث الجماعي المِتْلاف، أيْ الذي يُتْلِف كلَّ ما في الحياة، كُلَّ الوطن!