- كتب: ماجد زايد
بعد إفتتاح جامع الصالح بصنعاء في العام 2008، كان أهم وأبرز ما حشد الناس وأغراهم للمداومة والحضور للمسجد دروس العلامة محمد بن إسماعيل العمراني الأسبوعية مع نخبة من العلماء البارزين، في تلك الحقبة الزمنية الحافلة بالصراع الخفي بين الإعتدال الديني الناتج عن إستقرار سياسي ديني ظاهري، وحروب مذهبية مطلة برأسها تنتمي للزيدية السياسية في أقصى الشمال، والشافعية السنية في أقصى مناطق الشرق والجنوب، كانت آنذاك المخاوف والتهديدات تلوّح برأسها في كل زاوية من زوايا الوطن، وهو توقيت متمثل بذروة الإعتدال الديني السلطوي والمجتمعي العام الممزوج بالتوجس الشعبي العام من مستجدات خفية وقادمة..
في تلك الحقبة من حياتنا كان العمراني يقيم دروسه الأسبوعية متنقلًا بين الفقه والأحكام الشرعية، ومصحوبًا بالدردشات العامية والحكايات البسيطة والمبسطة والملهمة لكثير من الحاضرين، كنت أحد الحاضرين في دروسه تلك، ضمن جموع شعبية فائقة التنوع والبساطة والشغف الديني المعتدل، في أحد دروسه تحدث العلامة العمراني بشكل واضح عن غاية الدين والتدين، وضرورة الإعتدال الديني بمعنى أوضح، والفرق الجوهري بين الثقافة والدين من ناحية، وفلسفة الدين في حياة الناس من ناحية متصلة، يومها كانت الفلسفة واللغة العمرانية مبسطة ومفهومة للإنسان العامي البسيط، بشكل لا يحدث في عالم الفكر والتفلسف العلمي الفقهي أمام الحاضرين..
في خلاصة دروسه وفلسفته، لا نتجاوز فكرة الإصرار العمراني على ضرورة استعادة الإسلام المعتدل الذي تم اختطافه لفترات طويلة، معززًا ذلك بحاجة الشعب والوطن لخلق ثقاف معتدلة قادرة على احتضان الدين من جذوره كليًا، وبدون هذا سيظل الجميع يدورون حول أنفسهم وقناعاتهم الموجهة مسبقًا. وبشكل عام، التوازن في كل الأمور يخلق العدل، وكذلك التدين باعتدال يخلق العدل والرضى النفسي للعنصر البشري، وهو ما دار حوله العمراني صانعًا مدرسته اللاحقة لذكراه ووجوده..
ذات يوم سئل القاضي العمراني عن شعار الموت لأمريكا واسرائيل، كيف يظنه ويراه..؟! إبتسم قائلًا: يجب أن يكون الموت في واشنطن ونيويورك مش في صنعاء وباب اليمن.. ويوم أخر سئل عن غياب دور العلماء بل وإنخراطهم ضمن التحريض على الصراع الديني.. ؟! صمت لبرهة، ثم فرك إصبعه الإبهام بالسبابة وحركها مشيرًا بهما قائلًا: “الزلط ما سواها”!!
كانت مجرد كلمات للرد الذكي عن أغراض سياسة خالصة، لكنها تعني في براعتها عشرات السطور من الشرح والتدوين، وهي طريقة عمرانية عن بداهة الرد الذكي المختصر والمضحك، هذه الطريقة لا تعني التهرب بقدر ما تعني الإختصار والتلويح بالخلاصة من وراء كل شيء، العمراني كان بالفعل أحد أدهى علماءنا وأبرزهم فهمًا لحيثيات الواقع والتداخلات المعقدة، لكنها لا يهتم بإقحام ذاته فيها، كان روحًا عن البسطاء في ذكاءهم وفهمهم لما يحيط بهم..
أخيرًا
محمد بن إسماعيل العمراني، مثل في حياة اليمنيين وبلا منازع فكرة الاعتدال الديني الأوحد، فكرة الوسطية المرغوبة في كل أصقاع الوطن وإنتماءات الشعب والبسطاء، عن حقيقة الإسلام وشكله العام في مفهوم الناس للدين، ورغباتهم الروحية فيما يخص حياتهم وتعليمهم وإقتداءاتهم، حدث هذا بعد سنوات طويلة قضاها اليمنيون كضحايا من مدارسهم الدينية ومساجدهم الموجهة، ومدرسيّهم الذين أودعوا فيهم كراهية الحياة وحب العنف والرعب في أذهان المراهقين، مدارس القيامة التي ستقوم الان، والعذاب المخيف للقبر والجحيم، والتهويل العاطفي في قلوب وعقول الطلبة الصغار الذين لاحول لهم ولا قوة في تحمل ذنوب العالم والحياة بكل ضخامتهما، مدرسة العمراني الدينية المعتدلة كانت النقيض الفعلي لسنوات التعليم والتجيير الديني الممنهج، التعليم الذي أهدر منا سنوات طويلة ضمن غايات إستغلالية لجماعات مرتبطة بالسياسة والسلطة، هذه الغاية الشعبوية المستوحاة من مدرسة الأمام الشوكاني والمنفتحة على كل المذاهب الدينية بشتى توجهاتها، مثلت الملاذ اليمني الأخير والمتوسع والمتجذر في قناعات الجميع، وهي بلا شك الملاذ الهادئ للمستقبل والدين، ومع تعمقها واقعيًا ستصبح حالة من السكون البشري والإطمئنان المعيشي والرغبة الجامعة للتوحد الديني العام بين الناس..
رحم الله العلامة محمد بن إسماعيل العمراني..
كان ضوئنا وصراطنا الديني المستقيم، في ذروة التطرف والترهيب من الدين والجحيم..
رحمة الله عليه..