- ضياف البراق
أكره لكاعة السياسيين. ومن هنا عدم كتابتي في السياسة. ومن المثقفين، أكره عديمي الأرواح، أو قُلْ أَكْتَئبُ منهم. ومن كتب التراث، أكره «الروض العاطِر في نزهة الخاطِر» للشيخ النفزاوي، المشغوف بالجنس حدَّ التعبُّد. وهذا الكتاب الجنسي يطفح بالشهوانية الذكورية التي تحتقر إنسانية المرأة بلغة لزِجة وقِحَة. وخلاصته أن النساء عقولهن بين أفخاذهن (كذا!). والخروج من مأزق التخريف الجنسي ليس سهلًا على المرء العائش في مجتمع مُغْلَق، يكبت الجنسَ ويقمعه. والجثث تصيبني بالاشمئزاز الشديد من الجنس عندما تتكلم فيه. والنفوس الجاهلة تنضح بعواطف فقيرة جدًا، ذوقيًا وجماليًا، وكثيرًا ما يأتي سلوكها أقرب إلى التوحُّش. والمهم، معدتي لا تهضم المزاح آتيًا من الشخص المُنتقِم اللئيم. ومن فلسفتي اليومية، طبعًا، أنْ لا أمزح مع جُثَّة ولا أقدّم نصيحة لمغرور. وكم أُحِبُّ أولئك الذين يُولدون جميلين بالفطرة، فالمزاح معهم لا يؤثِّر على سلامة القولُون العصبي. والصعب جدًا، هو اكتشاف الجمال، وإدمانه.
هنا، وفي ألف مكان غير هذا، شهوةُ الموتِ أكبر من وردة الوطن. وردة الحب لا تكفي لركْل كُرة الموت إلى خارج الغرفة، إلى خارج القلب. وبين تلك الغُرْفة وهذا القلب، جثثٌ متوحشة تزحف نحوَ وجهي، وترصد كلَّ كلمة تخرج من فمي، وتغرز مخالبها وأنيابها حتى في خيالي. وفِكْر هذه الجثث شديد القدرة على إخراب كل ما ينبغي إصلاحه في جسد الحياة. جثث ملء الأيام، جثث في كل المسافات تنشر سمومَها، وتغرس أعشابَها السامّة. وتتراكم الجثث، وتنهار الآمال، وتتعقّد الأسئلة، وتختفي الفراشات، وتذوي المصابيح. لا أفهم فلسفةَ الجُثثِ المُفترِسة، لكنني لا أنسى معاناة الضحية. ومع كثرة الجثث الخياليّة، بتُّ لا أستطيع النوم بسلام بين اسمي ونفسي. غير أنني لا أستسلِمُ لها، ولن أسمح لها أن تتبوّل في ماء روحي العذب. والجثث المتوحشة موجودة في كل مكان وكل زمان.
وهنالك جثث تُشَوِّه جمالَ الله الذي تزعم أنها تدافع عنه وتنشر رحمته. وإذا مشى طفلٌ يغنّي في الطريق، تغتاله، وإذا غرّدَ عصفورٌ على غُصنٍ، تكسر جناحيه، وإذا هطل مطرٌ نقيٌّ، تحرمنا من اشتمام نسيمه. جثثٌ تجيء إلى هذا العصر من أرحام تلك النصوص الغريبة، البعيدة، العارية تمامًا من عذوبة الله. والجثث المتوحِّشة تنجح دومًا في تسميمنا بعسَل الفصاحة اللذيذ، وتكتم بصراخها “النسيمي” أنفاسَنا، وتتزيّا بمظاهر العفاف أمامنا، ثم تهجم علينا من الوراء، فتقذف بأرواحنا إلى الجحيم. أنا مخنوق، حدَّ الهلاك، بهذه الروائح القذرة. تمنع الجثثُ النشيطة دخولَ نور الله إلى قلبك، وتمنعك أن تتعرف على الله بنفسك، كي تبقى هي مُسيطِرة عليك.
المصابيح، في هذا الوطن المتعوس، تبلعها الجثثُ. وكلماتي الرقيقة لا تنجو منها أيضًا. جثث ظلاميّة تتناسل في طريقك، وتتراكم فوق صدرك، وتتسلل حتى إلى فراش نومك، وتطاردك من الخلف والأمام، وتزداد انتشارًا من حولك كلما هممتَ بالفرار منها. الجثث تفترس أنباضَك، وفي جميع الطرقات أمامك جثث جاهِزة، جثث تحوم عليك دومًا. وللجثث منابر خَطِرة، هي التي تُفسِد عقولنا، وتسرق حياتنا، وتنهش كلَّ مَن يعارض هذه الشرور. أعوذ بالله من شيطانية هذه الجثث. جثث التكفير، والتكشير، والتخدير، والتكسير. جثث ضد النهارات الصافية، وضد الأحلام الجميلة، وضد أنوار العِلم والمعرفة. أحابيلها مزروعة بين الوسادة والقصيدة، وفي جميع الظلال والابتهالات والاحتمالات.
الجثث تحشو خرافاتِها من أنفك إلى رأسك. الجثث تسيطر على ينابيع قلبك وأنت لا تستطيع الفرار منها. لكنك كافرٌ حتى النخاع بثقافة هذه الجثث. هذه الأحافير الوحشية تستبِد بنا كما تشاء، ومتى تشاء، منذ وقعتْ أعانقنا تحتها. جثث تجلب الديدان إلى دواخلنا.
إلهي الحبيب، أنت لا شك تحب كل الفنون، ولا تستقبِحُ الألوانَ الرائعة، أنت لا تكره الموسيقى، ولا تُحرِّمها علينا، ولا تضيق بحرية الفكر، ولا تأمر بحبس أو قتل العاشقين. هل يزعجك أن أعيش حياتي بحرية، وأن أفكر فيك بحرية؟ يا خالقَ الجمالِ، وصاحبَ الجلال المُطْلَق، هل تمجيد الجمال كُفْر؟ هل حرامٌ عليَّ أن أشرب القهوة أو العصير مع إحدى زميلاتي في حرم الجامعة؟ هل يغضبك صوتُ الناي، وسِحر الكمنجة، وجنونُ قيس بليلى؟ هل يرضيك أن يشربوا دمي إذا شربتُ، يومًا، كأسَ نبيذ؟ هل المشي مع صديقتي في الشارع حرامٌ في شرعك؟ أأنا فاسدٌ، أو زنديق، أو ملحد، إذا دانَ قلبي، مثل ابن عربي، بدين الحب الخالِص؟ أَمِن العدل، في ميزانك، أن يُخرِسوا فمي إذا تكلّمَ بخلاف ما يتكلمون، أو أن يقمعوا صوتي إذا عارض صوت الشيخ أو الفقيه؟ أُيُسْعِدك أن يحرموني من كل هذه الحقوق البسيطة والجمالات الضرورية، لمجرد أنني أكره وجودي داخل أقفاصهم، وأرفض العيش بكرامة ناقصة؟ حاشا أن تكون كذلك. يقيني الراسِخ أنك غير ذاك الذي يتصورونه، ويعبدونه، ويحرقون أزهارنا وأيامنا، باسمه. قُبِّحَ ما يظنون، وقُبِّحَ ما يفعلون. فأنت أعظم وأجمل وأرحم. بل أنت، يا الله، كل هذا النور الذي أعجز منتهى العجز عن وصفه. وأنا لن أُهزَمَ أبدًا، ولن ينتهي شغفي بالحرية النبيلة، ما دمتُ أستمِدُّ منك إلهامي وصبري وأملي وفلسفتي الكفاحية الصادقة.
كل مَن يتشدّق بالطهارة، ويمارسها بنجاسة، وكل مَن يتطاول على حقوق وحريات أخيه الإنسان، ذكرًا كان أو أنثى، أو يحتقر كرامته، أو يستنقصها، فهذا ليس بإنسان بلْ هو جثة متوحِّشة. ويا ريحَ الحريةِ، اقلعي الأعشاب السامّة من أرضنا، وابْلعي الجثث الضارية.