- طه العامري
حين تنهار القيم الوطنية والقومية والإنسانية وتتجرد المجتمعات من هويتها الحضارية وقيمها الدينية والثقافية وتستبدل الهوية الوطنية والقومية بهويات صغيرة مذهبية وقبلية وعرقية وطائفية ومناطقية وحزبية وأيديلوجية ؛ تصبح المجتمعات البشرية على امتداد النطاقات الجغرافية بمثابة ( غابة ) يفترس فيها القوي الضعيف ويمتهن فيه الكبير الصغير ويتحكم ( الباطل ) ب( الحق ) بل ويصبح الباطل هو الحق المبين ..؟!!
في زمان طغيان الباطل يصبح ( العملاء) حكاما و( اللصوص ) رموزا اجتماعية ؛ ( وقطاع الطرق ) وجهاء المجتمعات ؛ فيما الوطنيون والشرفاء والحكماء مهمشون يعيشون حياة بائسة خلف كواليس الحياة ؛ لأن المجتمعات تصفق للأقوياء وأصحاب الثروة وأن كانوا خونة وعملاء وقطاع طرق ..؟!!!
نحن وعلى مختلف نطاقتنا كعرب وطنيون وقوميون ؛ نعيش مرحلة ( تجهيل حضاري وثقافي وحقوقي وإنساني ووطني وقومي ) ونخوض معاركنا الطاحنة في سبيل التجهيل ومن أجل تكريسه كهوية حضارية ويسعى كل مكون فينا إلى فرض خياراته التجهيلية بكل ما لديه من عوامل القوة بما في ذلك أولئك الذين يخوضون في جانب من نضالهم اليومي معارك مع قوى الاستعمار والهيمنة الغربية ؛ نجدهم يخوضون معاركهم هذه ضد المستعمر والقوى الاستعمارية بقيم وثقافة التجهيل التي يستميت دفاعا عنها ضد كل من يخالفه وفي مقدمتهم أبناء جلدته وشركائه في الوطن والهوية والعقيدة والدين والقيم الثقافية والحضارية ..؟!
ثقافة تجهيليه نؤغل في إنتاجها وإعادة تدويرها كما ( تدور النفايات والمخلفات الصعبة ) ..هويات صغيرة تحكم وتتحكم في مساراتنا الوطنية والقومية وهويتنا الحضارية ومعتقداتنا الدينية وبكثير من الحماس والهمة حتى يخيل للمراقب أن أبطال هذه المشاريع وأدواتها يعملون كأداة للقوى الاستعمارية بوعي أو بدونه لأن كل تصرفاتهم لا تخدم شعوبهم ولا مكوناتهم أيا كانت مذهبية أو طائفية أو مناطقية أو قبلية أو حزبية ؛ وبالتالي هي لا تخدم أمتهم ولا قوميتهم ولا عقيدتهم الدينية وهويتهم الحضارية ؛ لكنهم بكل ما يقومون به ويمارسونه ضد بعضهم يخدمون المستعمر الذي تمكن من جعلهم يعيشون في آتون أزمة ذاتية يصارعون بعضهم بعضا ويستنزفون قدرات بعضهم بعضا ويدمرون أوطانهم وقدراتها وأحلام أمتهم بأيديهم ويفعلوا كل ذلك باسم محاربة العدو والمستعمر!!
ثمة أزمة بنيوية تسيطر على واقعنا الوطني والقومي وتسيطر على عقولنا وطريقة تفكيرنا ورؤيتنا لأزماتنا برؤى متناقضة وكل مكون من هذه المكونات وطنيا وقوميا يقدم رؤيته لحلول واقعه وأزماته اتساقا مع قناعته الخاصة وما هو مؤمن به دون اكتراث أو توقف عند قناعات الاخر الوطني والقومي ورؤيته لهذه الحلول ..
بيد ان كل هذه المكونات الوطنية والقومية وبكل ممارساتها ودون استثناء مكون عن أخر أصبحت تشكل عائقا أمام تطلعات وأحلام المواطن وطنيا وقوميا وأصبحت هي جزءا من المشكل الوطني والقومي وأزماته وليست جزءا من ( الحل ) كما تزعم وتدعي ..؟!!
والحقيقة أن ما نعيشه اليوم من تداعيات وطنية وقومية يعد ثمرة جهود استعمارية بذلها خلال ( قرابة خمسة عقود) خلت من تاريخنا الوطني والقومي ؛ عقود بذلها المستعمر الغربي _ الأمريكي _ الصهيوني _ انتصارا لأهدافه الاستراتيجية الهادفة إلى تمزيق المكونات العربية على الصعيدين الوطني والقومي والحيلولة دون النهوض العربي وطنيا وقوميا ودون تقدم أيا من مكوناته القطرية وأن كانت حليفا لهذا المستعمر ومرتهنة لإرادته ورغباته وتنصاع لأوامره وتلبي طلباته ؛ ففي القاموس الاستعماري الغربي ( العرب لا يؤمن جانبهم وأن كانوا من حلفائنا ) وهذا ما قاله ذات يوم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ( هنري كيسنجر ) ورددها بعده في وقت لاحق رؤوسا أمريكا ( بوش ؛ وترمب ) ويرددها ( الصهاينة ) اليوم في وسائلهم الإعلامية صراحة ..؟!!
والملاحظ إنه وبعد قيام ثورة 23 يوليو في مصر بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر وتولى بعده القوميون السلطة في أكثر من قطر عربي وسطوع شمس الحرية والتحرر في سماء الوطن العربي وشيوع النزعات الوطنية والقومية والثورية في كل أرجاء الجغرافية ؛ شعر الغرب بخطورة هذا التوجه وهذا النزوع وسعى لتدميره وطمس معالمه عبر ابتكار وسائل ومفاهيم تقوم بمهمة تدمير هذا النزوع والتوجه القومي والوطني عبر ومن خلال أدوات ومفاهيم ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية من شأنها أن تدفع بالمكونات العربية قطريا وقوميا على تدمير نزوعها الوطني والقومي بطرق ( ذاتيا ) ولدوافع ومبررات متعددة ؛ وهذا ما حدث فعلا على مدى نصف قرن من الزمن ..؟!!
وقد كانت البداية من نجاح قوى الاستعمار واعوانها من الرجعية العربية وأنظمة البترودولار في ضرب الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م ؛ فقد استغلت القوى الاستعمارية ونخبها ومراكز دراستها وبتمويل من أنظمة البترودولار الرجعية على توظيف ( الانفصال ) للتدليل على فشل الوحدة بل واستحالة قيام ( الوحدة العربية ) ؟!!
وفي عام 1967م وعلى أثر نكسة حزيران _ يونيو ؛ استغلت هذه القوى الواقعة لتدلل على فشل ( المشروع القومي العربي ) لتعمم على أثر ذلك حكاية ( المشروع الوطني والهوية القطرية ) وترسخ كثقافة في أذهان الأجيال العربية قطريا وقوميا وتم تغذية هذه الشعور وترجمته على مفاهيم ثقافية واجتماعية وحضارية وهوية ذهب كل قطر يتمسك بها ويحارب كل دعوة قومية وتوجه قومي ..!!
وعلى مدى قرابة أربعة عقود ظلت الخصوصية الوطنية والهوية الوطنية هما الحاضرتان في الذاكرة الجمعية الوطنية ؛ لكن ومع بروز تطور وتقدم في بعض الأقطار ؛ كان لا بد من كبح جماح هذه الدول الوطنية العربية ؛ فكان لا بد من تحجيمها وتحجيم قدراتها ووقف نموها وتطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ؛ كانت ثمة قيم ( مادية ) قد ترسخت تحت راية ( الدولة الوطنية ) على حساب قيم اصيلة روحية وثقافية وحضارية توارت واختفت من قاموسنا الحياتي اليومي ؛ وتدحرجت قيمنا الثقافية على أثر ذلك متخذين من أخطاء ( الحاكمية والأنظمة ) ذريعة لنزاع ونوازع داخلية تحت ذرائع الحق في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمشاركة في السلطة والتنوع الحضاري والثقافي ؛ واتجهت الأنظار نحو ( الأقليات ) العرقية والدينية داخل الأقطار العربية ؛ ثم العمل داخل المكونات ( المذهبية ) و( الحزبية ) اللتان كانتا بمثابة ( حصان طروادة ) لتبدأ رحلة ( الأناء ) المكوني على حساب ( الأناء الوطني ) التي سبق وأن حلت بديلا عن ( الأناء القومي ) وهكذا وجدنا أنفسنا داخل مكونات قطرية تعيش حالة تنافر وتناحر فيما بين مكوناتها الاجتماعية لتسود ثقافة ( التخوين ) وإلغاء الأخر الوطني وتحقيره وتسفيه مواقفه والانتقاص من هويته وازدراء سلوكه ؛ وساد هذا الخطاب كل المكونات الاجتماعية دون استثناء ليتم على اثر ذلك تجريم وتخوين ( الأنظمة ) واستغلال اخطائها وتوظيف تلك الأخطاء للاستغلال السياسي والاجتماعي ؛ وقدمت القوى الاستعمارية نفسها بصورة الوسيط الناصح والمساعد الأمين والحريص على استقرار هذا المجتمع أو ذاك وأصبح لديها صلاحية كاملة في تزكية ومباركة هذا المكون الوطني أو ذاك ليصبح رموز هذه المكونات يلهثون وراء ممثلي المحاور الاستعمارية يستجدون رضائهم ومباركتهم وتقربهم ؛ متجاهلين مشاعر شعوبهم ورغباتها وميولها وغدت شرعية الحاكم العربي بيد القوى الاستعمارية وليست بيد الشعوب صاحبة الحق والشرعية والمصلحة ..؟!!
واقع مؤلم وصلنا إليه ؛ وحالة انهيار أخلاقي وحضاري وانساني وقيمي وديني وعقائدي نعيشها اليوم قطريا وقوميا وصراعات مذهبية وعرقية وأثنية وطائفية وقبلية نخوضها اليوم فيما بيننا وداخل كل مكون قطري ما يستحيل صفه من عوامل الصراع الاثني الغير مسبوق ؛ في لحظة زمنية يشهد فيها العالم ثورة تقنية وتقدم وتطور حضاريين غير مسبوقين بتاريخ البشرية ؛ فيما نحن غارقين في ثقافة الجهل وصراع التجهيل مجردين من كل القيم والمفاهيم الدينية والوطنية والقومية والحضارية والإنسانية ؛ نخوض معركة تدمير ( الذات ) بهمة وحماس منقطع النظير ..؟!!
يصعب القول وفقا للمشهد الماثل قطريا وقوميا بثمة إمكانية لتجاوز هذا المشهد أو طي ملف تداعياته والبدء بصفحة وطنية جديدة ما لم يحدث وعي جمعي قادر على كبح جماح أطراف المعادلة الصراعية وهذا ما لم يمكن حدوثه لأن الوعي الجمعي الوطني بدوره موزع الانتماءات والخيارات بين المكونات المتناحرة وهو جزءا منها ويبدو المتاح وفق المشهد هو ( كنتنة ) الأقطار الوطنية ؛ وأن توقفت الصراعات بين هذه المكونات فأنها ستجعل من الأقطار الملتهبة بمثابة مسارح متعددة الاطياف والولاءات والهويات الثقافية نموذج اليوم _ لبنان _ العراق _ ليبيا _ اليمن _ وإلى حد ماء سورية مع الاخذ بالاعتبار أن في سورية دولة قوية وجيش وشعب يتمتع بقدر من الوعي الحضاري وقد تمكنوا من صد المخطط الاستعماري التمزيقي لوطنهم إلى حد كبير بعكس بقية الأقطار التي وأن خفتت فيها أصوات ( البنادق ) لكن هذا لا يعني تلاحمها بل تم تقسيم أقطارها وفق مبدأ المحاصصة وهو المبدأ الذي يدمر ولا يعمر الأوطان ..؟!!
ويؤسفني القول أن المخطط الاستعماري نجح وبامتياز في الوصول إلى أهدافه في هذه الرقعة الجغرافية المسمى ب ( الوطن العربي ) الذي لم يعد وطن عربي بل وطن تتنازعه العرقيات المذهبية والعرقية والطائفية والقبلية والحزبية المستلبة الفكر والإرادة بعد أن تحولت هذه الأحزاب بدورها إلى أشبه ب ( محلل ) في مكاتب السجل المدني ..؟!!
خلاصة القول أن انتصارات ونجاح المشاريع الصغيرة تأتي دوما على حساب المشاريع الكبرى وطنية كانت أو قومية في مجتمعات فقدت لعوامل عدة بصرها وبصيرتها وغرتها المظاهر الزائفة عن الحقائق التي غفلها غبار الزيف وثقافة الانتهازية والأناء ( الذاتية ) ..؟!