- عبدالحليم سيف
الآن الساعة الرابعة والنصف ، بعد عصر يومنا هذا الثلاثاء الأول من يونيو 2021م.، رن جهاز الهاتف المحمول ..لمحت على الشاشة اسم الصديق الدكتور أنور عبد القادر مغلس..بعد التحية والسؤال عن الحال يأتي صوته بنبرة حزن وأسى على غير عادته !!
- قلت له : خير يادكتور أنور..مالك.. صوتك مش عاجبني.
- قال بعد تنهيدة من الأعماق : أيش أقول لك يا أستاذ ..أنا مصدوم…!
- قلت له مقاطعا: سلامات..سلامات.. فجعتنا. ماذا حدث لك ?.
- قال : أنا الآن خارج من صالة الجامعة الواقعة بالخط الدائري الغربي أمام المباني القديمة لجامعة صنعاء ..كنت أعزي في وفاة صديقنا وزميلنا أخصائي العظام الدكتور مرتضى سعيد الاغبري الذي غيبه الموت بالأمس …تخيل وجدت الصالة فارغة من الناس إلا من عدد قليل جدا لا يتجاوز أصابع اليدين..حتى زملائه من جمعية جراحي العظام..أو ممن عمل معه في المستشفى الجمهوري بصنعاء ..عندما كان رئيسا لقسم العظام..وكذا من معارفيه من الأطباء..لا نفس.. ولا صوت لهم..مع أن علاقة الفقيد بأصدقائه طيبة ..والرجل هادىء ويحترم الجميع..مع هذا مؤلم والله أن يتخلف من كان عزيزا عليه في أداء واجب التعزية لأسرته وأقاربه ..حتى من باب المجاملة.. وليس الواجب الأخلاقي والمهني والإنساني .
- قلت : لربما أنت رحت قاعة العزاء في وقت متأخر .
- قال: لا..لا والله .. فقد ذهبت الساعة الثالثة ..وخرجت الآن الساعة الرابعة والنصف..كنت أنتظر أن يأتي أحدهم من الزملاء..ولكن للأسف..ولا ظهر أي طبيب أو صديق من بوابة الصالة…!!
- قلت: قد يكون المانع من عدم حضور البعض العزاء سببه الخوف من شبح كورونا المميت واللعين .
- قال : لو كان السبب فيما تقول فالعذر مقبول…لكن الدكتور مرتضى ليس مصابا بفيروس كوفيد 19..ولم يعاني من أي مرض..توفي بشكل مفاجىء وهو يتهيأ للذهاب إلى عيادته في صنعاء بعد ظهر أمس …ثم فسر لي كيف بالله عليك عند الوفاة لا يحضر الا القليل.. وفي الأعراس لا تجد لك مكانا في الصالة من الزحام..ولا موقف لسيارتك من شدة زحمة السيارات.. وهذا ماحدث لي يوم الخميس الماضي في عرس نجل أحد الأطباء..كان الأطباء بمختلف تخصصاتهم وأعمارهم موجودين وبكثافة..وأين هي الاحترازات من كورونا… !!
- قلت : طيب ..قد يكون السبب عدم معرفة زملائه بزمان ومكان تلقي أقارب الفقيد للمعزين ?
- قال: هذا ليس مبررا ..فقد تم الإعلان في المقبار صباح اليوم الثلاثاء بأن العزاء سيكون في صالة الجامعة ولمدة يوم..وأيضا نشرت نفس الخبر في المجموعة الوتسية الخاصة بأطباء وأخصائي جراحة العظام.
- عدت وقلت له : قد يكون كل واحد من الأطباء في حالة الانشغال بعيادته ومرضاه ?
- قال: وهذا ليس عذرا أيضا ..أي طبيب سيأتي لصالة العزاء لمدة دقيقتين وهو في طريقه إلى عيادته .ان كان حريصا على الوفاء لزميله…اليوم رحل صديق له ..غدا قد يكون أحد أقاربه..أو هو.. من يدري ..الأعمار بيد الله.
أنهيت الحوار الخاطف مع الصديق الدكتور أنور مغلس.. بدعوتنا للفقيد الراحل الدكتور مرتضى الاغبري بأن الله يرحمه ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ..وأن يلهم أطفاله وزوجته الصبر والسلوان .
وبدأ التفكير بما بعده ..بقيت في حالة “حوار” مع نفسي والتأمل بما قاله صديقي أنور..ولماذا حدث..! وما الذي جرى لنا..?! وهل جفت مشاعرنا الانسانية ?!.و أنا في حالة توهان وحيرة ..قفزت إلى رأسي حالات مماثلة لما جرى للفقيد مرتضى..فهنا أشخاص فتحوا “صالة لتقبل العزاء في وفاة عزيز عليهم..والفاجعة ..لا قريب ..ولا حبيب جاء..على أن الشعور بالمرارة تزداد عندما تسمع أن شخصا ما له مكانة وشهرة في المجتمع.. يقابل بعد رحليه بالنكران والجحود والنسيان في غمضة عين..وتذكرت هنا ما عدته على مسامع الدكتور أنور في سياق حديثنا المشترك..ما قاله لي الصديق الأستاذ القدير عبد الباري طاهر في 26 يوليو 2019م.. أن عدد من حضر تشييع جثمان الأستاذ الكبير والشخصية الوطنية المرموقة أحمد قاسم دهمش كان قليلا بالنظر إلى سمعته العطرة و مواقفه الشجاعة ورصيده الوطني الكبير وبصماته الرائعة والمضيئة في سفر العمل الوطني..معلما وصحافيا ووزيرا ونقيبا للصحافيين…يومها قلت للأستاذ طاهر أطال الله في عمره إذا كان الحال مع قامة كبيرة وفذة بحجم الأستاذ دهمش فما هو حالنا نحن البسطاء…أصبح الواحد منا يخاف أن يموت ..ولا يجد من يحمل نعشه إلى المقبرة لدفنه!! خاصة مع اجتياح كورونا لديارنا المنهكة..وهو الوباء المفترس الذي حصد -ولم يزال- أرواح المئات من اليمنيين من الأطباء والصيادلة وأخصائي المختبرات والفنيين والممرضين..والأكاديميين وأساتذة الجامعات والمعلمين والفنانين والصحافيين والاعلاميين والمثقفين والمهندسين والمحامين والسفراء والسياسين والعسكريين والمواطنين..، هولاء وغيرهم رحلوا عنا بدون وداع.. ولا استئذان.. ولا عزاء.. ولا بيانات نعي ..ولا يحزنون..عدا خبر مقتضب ..اوتعزية متواضعة في وسائل التواصل الإجتماعي.
في واقع الأمر أن نكران الجميل وعدم الوفاء بحقوق الزمالة لم تعد موجودة.. فحلت الخصومات الفاجرة محل الإحترام المتبادل… ويرجع ذلك إلى جملة أسباب وعوامل أهمها أن الحرب القذرة أحدثت انقلابا كارثيا ومخيفا في حياة المجتمع..حرب ملعونة اضرمت النار في العلاقات الإجتماعية ..حرب عبثية زلزلت أركان الأسرة الواحدة.. وأشعلت النزاعات والخلافات والتباعد والتنافر بين زملاء المهنة ..استبدلت الأنانية والفرقة بالتضامن والوئام…!!
على أن الأنكى من كل ذلك ان المصائب تتوالى على رؤوس الجميع.. في وقت نحن كمجتمع وأسر وزملاء وأصدقاء وبشر بأمس الحاجة إلى تعزيز قيم الراوابط والتعاون والتفاهم والتعاضد والمحبة والتسامح..حتى تنقشع عنا هذه الويلات.. وما أكثرها !!
ربنا يسترنا ويحفظنا وشعبنا ووطننا من المجهول.!!