- كتب: ضياف البراق
حرية الفكر أساسُ كلِّ تنوير حقيقي، وروحُ كل ثقافة حقيقية. ويفشل التنوير في مجتمعنا لأنه، ربما، لم يستوعب بعدُ هذه الحقيقة. المشكلة أن السلطة والمجتمع يتحالفان دائمًا ضد الحرية الفكرية وضد حرية التعبير. والسلطة السياسية القاسية في مجتمعنا هي في أساسها روح دينية مُنحرِفة. وبدل أن يقف مجتمعنا مع المثقف الحر ضد سياسة القمع، يتحالف معها ضده. وإذا لم يفتح مجتمعنا صدرَه لحرية الفكر وحرية التعبير معًا، فإنه سيظل يتمرّغ في الوحل ويتقلّب في الحضيض. فالمجتمع الذي لا يعترف بالمثقف الحُر ولا يحميه من سياسة القمع والاضطهاد، كيف سينهض ويتقدّم؟ الأمر مستحيل. إن المثقف روح كفاحية تناضل باستمرار من أجل المجتمع ضد الاستغلال السياسي المتدثِّر بلباس الدين كي تسهلَ له السيطرة على عواطف الناس. فليستجبْ مجتمعنا للتنوير إذا أراد أن ينطلق فعلًا نحو الحياة الإنسانية الكريمة. والتنوير هو نقد ثقافي فلسفي جريء وعميق، هدفه التغيير والإصلاح وخلق الروح الفلسفية الثورية داخل المجتمع. وعلى النقد الثقافي أو التنوير أن يخلق هذه الروح الفلسفية الثورية المستنيرة في مجتمعنا الهامد، ما لمْ فإن التقدم مستحيل. التنوير الذي ننشده، ليس ضد الروح الدينية، لا، بل هو في الحقيقة ضد الثقافة الدينية المُسيَّسة الكاذبة التي تزرع الجهل في نخاع مجتمعنا، كي تلتهمَ أرواحَنا، وتعبث بحرياتنا وحقوقنا، حتى أصبحنا اليومَ بلا كرامة. التنوير في حقيقته، يدافع عن شرف الدين وشرف المجتمع وشرف الحياة. وفي مجتمعنا هذا، خصوصًا، لا بُدَّ أن تكون مهمة التنوير الأولى هي أنسنة الدين وأنسنة السياسة وأنسنة الثقافة. لماذا تخافون من التنوير؟ ولماذا تدافعون عن الثقافة الدينية الزائفة، أو غير الإنسانية، مع أنها هي التي تهين شرف الدين إذ تُحوِّله إلى سلاح للقمع والبطش والسرقة؟ التنوير ضد هذا العبث والعنف، ضد هذا الجهل والتجهيل والاستغلال والقمع، ولكنكم تظلمون أنفسكم إذ تحاربون التنوير أو تهربون منه. أترضون بالعنف والتسلُّط والعنصرية والاستغلال باسم الدين؟ استنيروا. افتحوا عقولكم وقلوبكم، حتى تعانقكم الحياة الكريمة. إن التنوير يسعى لجعلكم إنسانيين، حضاريين، ليس أكثر. فهل لديكم استعداد لهذا؟
الثقافة العمياء هي التي تولد من صميم الجهل والظلام. إنها ثقافة الباطل. الثقافة التي لا تولد من صميم حرية الفكر، لا تتقبل النقد والانفتاح، تظل واهية من الداخل، تنمو على قاعدة هشّة، وهي لذلك لا تتحمّل الأسئلة الثقيلة، فتلجأ إلى استخدام العنف للدفاع عن نفسها. وهذه الثقافة حقيقتها أنها قامِعةٌ ومقموعةٌ في آن، لأنها مقيّدة بظلامها، فتبقى تتخبّط فيه، وتتخبّط حتى إذا مشتْ في الضوء. ظلامها يخنقها وهي تنتقِم لنفسها من النور بخنقه. إذنْ، هذه الثقافة ضد حرية الفكر، وتحارب كل من يفكر بحرية أو يتكلم بحرية. ومن هذه الثقافة تكوَّن مجتمعنا هذا، لقد نشأ عليها وترعرع في حضنها، وصار يُقدِّسها أيّما تقديس. ومن الشرف والإنسانية أن ننتفض عليها ونغيّرها بثقافة عصرية مستنيرة تحتضن الجميع رغم الاختلافات. يستحيل علينا التعايش والتقدم في ظلال ثقافة خاطئة، جامدة، مُتطرِّفة، تحارب حرية الفكر، وتخلق بشرًا جاهلين منحرفين. لا تنوير ولا ثقافة ولا مجتمع بغير حرية الفكر. وهذه مسؤوليتنا الأساسية والإنسانية، نحن حملةَ الأقلام جميعًا: تنوير مجتمعنا بثقافة عصرية نبيلة.
لا ينهض المجتمع الذي يقمع حرية الفكر، وإنما يظل يغرق في التفاهة الصارخة التي تجلب له كلَّ أشكال الجنون والبؤس. وأنا لا أثق أبدًا بثقافة غير مبنية على حرية الفكر. فحرية الفكر تؤدي إلى خلق ثقافة حقيقية طاهرة، لا نجد فيها النفاق والدجل والتدليس والتفاهة والتبرير القذر. والثقافة القائمة على حرية الفكر، هي، من حيث إنسانيتها، أعمق وأصدق من تلك الثقافة الخالية من حرية الفكر. فهذه الأخيرة تردّد مفردات الإنسانية، وترتدي لباس التقوى والعفاف، لكنها في حقيقة الواقع تسير في طريق الوحشية، وتمارس كلَّ أنواع الفساد الذي هي تسنتكِره في خطاباتها، أي إنها تقتلك وتمشي في جنازتك، كما يُقال. الثقافة التي نشأت وترعرعت بين جدران العبودية، ورضعت من مستنقعات الكذب والوهم والزيف، هي النجاسة مرتدية لباسَ الطهارة، وهي اللغم مُتقمِّصًا شخصيةَ الوردة، وهي السم المغطّى بطبقة من العسل، وهي ذلك الديناميت الذي يؤدي دور حمامة السلام. الثقافة التي داخلها أضيَق من خارجها، وصوتها أعلى من حقيقتها، وصدقها أكذب من كذبها، هذه الثقافة تقتل الحياة حتى إذا ردّدتْ صوتَ الحياة. نحن بحاجة إلى ثقافة الحياة، لا ثقافة الموت. ليكن هذا هدفنا على الدوام.