- بقلم: د. قاسم المحبشي

ما يشبه الحوار الفكري مع الدكتور خضير المرشدي
مرض، داء، علة، سقم، عجز، ألم، وجع وصب، خلل، نقص ، وهن ، ضرّ، ضنى، سوء، عجز، وعك، وباء، كشف، تعاسة، إبتلاء، شر، موت، ضمور اضمحلال.الخ من الأسماء والصفات التي يطلقها الناس على الأمراض التي تصيب الأجساد والنفوس والمرض نقيض الصحة والعافية والسلامة والشفاء والسعادة والحياة، والنجاة واللذة والمتعة والقوة والنماء والإزهار. وقد تلازم المرض مع الصحة كما تلازمت الحياة مع الموت منذ بداية الحياة على هذا الكوكب وبالاتساق مع قانون الحياة الجوهريّ( الحفاظ على البقاء ومقامة الفناء) حلم الإنسان منذ اقدم العصور بالعثور على وصفة سحرية للخلود وديمومة الشباب والصحة والعافية والقوة فيما عرف ب (أكسير الحياة) أو حجر الفلاسفة, وهذا ما حملته لنا اقدم اساطير حضارات بلاد الرافدين وحضارة مصر القديمة. ورغم التاريخ الطويل لحياة الإنسان على كوكب الارض وصراعه مع الأوبة والإمراض والموت المبكر إلا انه ظل يجهل الاسباب المحتملة للصحة والمرض وتكشف الأنثروبولوجيا التقليدية إن التوقف من أجل تعيين الكائن الإنساني في ماهيته قد أنساها مسألة كينونته إذ اعتبرت هذه الكينونة بمثابة تحصيل حاصل؛ فالإنسان وفقاً للتصور التقليدي ينقسم في كينونته الى شطرين لا يلتقيان (روح وجسد) جسد ينتمي إلى (عالم ما تحت فلك القمر) بحسب أفلاطون؛ عالم دنيوي حسي زائل يعتريه الكون والفساد، و( روح ، أو نفس أو عقل) ينتمي إلى (عالم ما فوق فلك القمر ، عالم المثل) متعالى الهي أزلي خالد ثابت لا يعتريه التغيير والكون والفساد، هذا (الباراديم ) أو التصور اللاهوتي الميتافيزيقي الكلي للإنسان المشطور، إلى الروح والجسد، الفكر والامتداد، الذات والموضوع، النية والفعل..الخ هو الذي ساد الفكر ما قبل الحديث إذ “اعتبر الجسد في مختلف التصورات الميتافيزيقية موطنًا للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة، لهذا تمت معاملته باحتقار كبير وتم السعي فيما بعد إلى ستر عيوبه، ولازال الحديث عن مفهوم العورة لصيق به في كثير من الثقافات المجتمعية” ولما كانت الروح ذات طبيعة غير حسية وغير متاح مشاهدتها واختبارها في الواقع ظلت مثار دهشة الانسان وحيرته وحظيت باهتمام العلوم والأديان والفلسفات، في حين أن الجسد لم يحظ إلا بالقليل القليل من الاهتمام والقيمة والأهمية “فإذا لم يكن في الإمكان التعرف على شيء بصورة حسية واضحة فلن يحدث آنذاك إلا أحد أمرين: إما ألا نصل أبدا إلى المعرفة، وإما إلا نصل إليها إلا بعد الموت” ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وهنا تتجلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والعادات الثقافية التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك أو ” هابيتوسات” حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو, يقول عالم النفس التربوي الأمريكي ” أرثر كوفر” في كتابه ” خرافات في التربية” “يسلك الناس وفقاً لما يعتقدون..وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة, نستطيع أن نحدث قدراً كبيراً من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتعرقل صيرورته , وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر”ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره, فحينما اعتقدت الحضارات القديمة ان الروح أو العقل هي الجوهر الخالد في الإنسان الذي يبقى بعد موت الجسد الفاني الفاسد الملوث بالآثم والخطيئة والرغبة والشهوة والطمع كان من شأن هذا الاعتقاد؛ أن عمق الهوة بين الإنسان وجسده، بين روح الإنسان وجسمه، فحينما اعتقد الصينيون القداماء أن الكون ينقسم إلى (Yin) الين واليانج (Yang), أي الأنوثة والذكورة، اليانج يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والروح والحياة, والـيين يرمز إلى الأنوثة العنصر الحسي,الأرضي السلبي المنفعل، عنصر الظلمة والبرودة والعجز والموت فالإنسان في فلسفة اليين-اليانج يُفهم ضمن هذا التوازن: الجسد والروح، العقل والعاطفة، الداخل والخارج.
وحينما اعتقد قدماء الهنود أن الجسد وشهواته الحسية هو مصدر كل الالام والخطايا ازدهرت لديهم ثقافة (النيرفانا) البوذية الجاينية، بمعنى بلوغ الروح اقصى حالات الصحة والسعادة بعد انطفاء الرغبات الجسدية. وحينما اعتقد اهل اليونان أن العقل يحكم الكون وانه من عالم المُثل, وان الرجل هو الكائن العاقل الوحيد وان المرأة كائنا حسيا غير عاقل لم يكتفوا بترير النظرة الدونية للمرأة والعبيد وكل ما يتصل بالجسدية العضوية بل ذهبوا إلى تأسيس منظومة فلسفية ثقافية متكاملة لشرعنة هذا الاعتقاد والنظر اليه بوصفه حقيقة بديهية ومسلمة طبيعية لا تحتمل الشك والتساؤل، ومن هذه الاسطورة الافلاطونية التي تحتقر الجسد تناسلت فيما بعد مختلف المدارس والاتجاهات الفلسفية واللاهوتية الابقورية والرواقية والمسيحية والافلوطونية والقنوصية والإسلامية التي نظرت إلى الإنسان وحياته وصحته من زاوية احتقار الجسد وتعظيم الروح، بما يعني أيلى كل الاهتمام لعالم الموت وما بعد الموت والخلود السرمدي وإهمال عالم الحياة الدنيوي السريع الزوال. تلك النظرة العامة هي التي هيمنت في فضاء الثقافة والفكر الإنساني حتى مطلع العصور الحديثة. وهكذا يتضح أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة, في عملية الممارسة الظاهرة للعيان بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها, من المنطلقات الإعتقادية الايديولوجية والفكرية أو بكلمة واحدة (الثقافة السائدة) إذ أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة, بل هي نتاج قوى وسياقات اجتماعية وسياسية وثقافية نشاءت وترسخت عبر مسار طويل من الممارسات والخبرات والتجارب في أنماط سلوك وعادات وتقاليد أو على حسب بورديو (هابتوسات) بمعنى عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية الثقافية الانثربولوجية التي تبقى بعد نسيان كل شيء . فكيف فكيف نظرت الحضارت والثقافات القديمة ولحديثة للإنسان وحياته وصحته ومرضه ؟ هذا هو السؤال الذي يستحق المناقشة والحوار ولم يكن الطب في أغلب الثقافات عبارة عن ممارسة علمية منضبطة كما يكتب فوكو في »الانهمام بالذات” « بل كان شبكة من المعارف المختلفة التي تشمل علوم الجسد والنفس والفلك والأخلاق والنباتات والفلسفة والمعارف الدينية والسحر والكيمياء وحالات البيئة (برودة, حرارة..) وحتى الهندسة والخطابة. لقد لخص ميشل فوكو وضع الانسان في العصور الحديثة بعبارة ذات دلالة عميقة حينما كتب ان الانسان اكتشاف حديث العهد إذ انه لأول مرة في التاريخ يجد نفسه بازاء قوى التناهي والاشتباك معها كقوى خارجيه عن ذاته الانسانية المتناهيه, اذ ذاك كان على قوى الانسان ان تتصدى للتناهي خارج ذاتها, ومن تم لتجعل منه في مرحلة ثانية, تناهيها هي, فتعيه حتماً كمتاه خاص بها. وحينئذ كما يقول فوكو, يركب معها الشكل – الانسان (وليس الشكل الله) وتلك بداية الإنسان.وبهذا نفهم أن مسألة نمو وازدهار خطاب الطب والصحة ليست مسألة علمية فنية تقنية علمية تتصل بالمجال الصحي بل تتعين في تلك المجالات التاريخية الحضارية والمدنية والثقافية الواقعة خارج النسق الطبي حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً، وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها.
في ذات السياق الذي طالما وقد شغلني منذ زمن طويل جاءت محاضرة الدكتور خضير المرشدي رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي ليلة الاربعاء ٢٤ سبتمبر ٢٠٢٥م بعنوان( هل الدين وصفة طبية؟ من منظور الأديان (الإسلام، المسيحية، اليهودية، الهندوسية، البوذية)
بمشاركة الدكتور محمد أحمد الرواشدة،
و الدكتورة إقبال الغربيّ، أستاذة تعليم عال في علم النفس والأنثروبولوجيا بجامعة الزيتونة.
والدكتور صابر مولاي أحمد، باحث مغربيّ مختصّ في قضايا الفكر والدراسات القرآنيّة. أدارت الندوة بكفاءة واقتدار دكتورة هاجر المنصوري. أستاذة الحضارة والدراسات النسوية في الأكاديمية التونسية. كانت ندوة مهمة جدا. وضع فيها المحاضر، دكتور المرشدي الخبير في المجال النقاط على الحروف مستهلها بالسؤال التالي: ” تخيّل لو أن طبيباً، بعد أن يفحصك جيداً، يكتب لك على ورقة الوصفة الطبية: “الرجاء قراءة كتاب من كتب الفلسفة، أو الجلوس في غرفة للتأمل يومياً لكذا ساعة، أو حتى أداء الصلاة بانتظام”!! أو اقرأ عشرة آيات من القرآن؟ هل هذا قرار طبيعي؟ لقد اعتدنا أن الوصفة الطبية تحتوي على أدوية كيميائية وإرشادات أخرى، لكننا اليوم سنغوص في سؤال أعمق وأكثر إثارة: هل يمكن أن يكون الدين، بكل ما يحمله من قيم وروحانيات، وصفة طبية حقيقية؟” ( ينظر، المحاضرة، في صفحة المعهد العالمي للتجديد العربي بالفيسبوك)
هذا التساؤل البسيط الواضح يحمل معاني ودلالات بالغة العمق والتعقيد لاسيما في عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي. تكمن أهمية هذه المحاضرة في طابعها الشمولي إذ اشتملت على تاريخ الطب منذ أقدم العصور وحتى اللحظة الراهنة التي بات الطب فيها يتحول إلى دين جديد. قال المحاضر ” هل أصبح الطب، بالفعل، ديناً جديداً؟ والأطباء اليوم هم الكهنة الجدد؟؟
•يملكون ادوات مدهشة وغريبة (تحاليل، جينات، أشعات، ميكروسكوبات إلكترونية، خلايا جذعية، استنساخ، والان تكنولوجيا متطورة وذكاء اصطناعي )!!
•يتخذون قرارات مصيرية،
•ويمثلون قوة قد تحل محل الدور التقليدي للروح والدين في حياة الإنسان..في الماضي، كان الكاهن هو الذي يحدّد مصير المريض من خلال الصلاة والطقوس. اليوم، الطبيب يحدد مصير الإنسان من خلال الميكروسكوب والمشرط والتقنيات الحديثة”( ينظر، المحاضرة، في صفحة المعهد العالمي للتجديد العربي بالفيسبوك)
لا اعلم كيف وقعت تلك المحاضرة على اذهان الذين شاهدوها ليلتها أما أنا فقد احدثت عندي ما يشبه العصف الذهني لاسيما وقد سبق وأن فكرت في فلسفة المرض وكتبت دراسة بعنوان ( الأسس الفلسفية للصحية الأجتماعية) نشرته في الحوار المتمدن قبل سنوات. اشرت فيه إلى ما شهده إذ شهد المجال الصحي من اهتمام منقطع النظير، لا سيما منذ منتصف القرن العشرين بما جعلنا نتوافر اليوم على خطاب غني بالدوال والدلالات وبالفاعلين والأفعال والقوى والعلاقات والمؤسسات والممارسات ( الصحة والمجتمع ، الصحة العامة ،الصحة والمرض، الوقاية والعلاج الصحي، الوعي الصحي، الثقافة الصحية، الحياة الصحية، صحة المرأة، الصحة الإنجابية ، صحة الطفل ، التغذية الصحية ، الصحة المدرسية، صحة العائلة، السياسة الصحية، التأمين الصحي، الاقتصاد الصحي ، الإدارة الصحية، العلوم الطبية، الطب الشعبي، الطب البديل، الطب الحديث، حقوق الإنسان الصحية، علم اجتماع الصحة، الديمغرافيا الصحية ، السكان والصحة ، علم اجتماع الجسد ، علم الأوبئة ، فلسفة الصحة ، علم النفس الصحي، الانثروبولوجيا الصحية، علم التربية الصحية، الصحة المدرسية، الخدمة الاجتماعية الصحية، سوسيولوجيا المؤسسة الطبية، علم الاجتماع الطبي، علم اجتماع الجريمة ، علم اجتماع الإدمان، والانحراف. فضلا عن مجالات التطبيب والعلاج والأدوية والأدوات والأجهزة والتشريعات الصحية والمؤسسات الرسمية و المدنية ( منظمة الصحة العالمية، والهلال الأحمر، وأطباء بلا حدود، ووزارات الصحة ، والنقابات الصحية، والإعلام الصحي المكتوب والمسموع والمرئي .. الخ )على هذا النحو أضحت الصحة وخطابها تتخلل مختلف مجالات حياة الإنسان المعاصرة (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والأخلاقية والجمالية والدينية..الخ) فعلى الصعيد الإبستيمولوجي غدت الصحة ومشكلاتها لأول مرة في تاريخها موضوعاً للعدد واسع من العلوم الاجتماعية والإنسانية ولم تعد حكرا على العلوم الطبية كما كانت في الماضي. وهكذا بدأ الأمر وكأننا بإزاء اكتشاف جديد للكائن الإنساني وحياته وصحته بوصفه كائنا جديرا بالحياة الصحية الطيبة كحق من حقوقه الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية. والسؤال هو: كيف يمكن فهم وتفسير هذا التحول الثوري في خطاب الصحة الاجتماعية والطب المعاصر ؟ وما هي الأسس الثقافية التي مهدت السبيل لنموه وتبلوره وازدهاره في الحضارة الحديثة والمعاصرة ؟ وما معايير قياس صحة الفرد والمجتمع ؟ وكيف هو حال صحة مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم ؟ هذه الأسئلة وما يتصل بها من مشكلات هي ما سوف نوليه عنايتنا في بحثنا الموسوم ب ( الأسس الثقافية لخطاب الصحة الاجتماعية) لقد تسأل احد الباحثين العرب “هل للمناخ الثقافي العام .. تأثير في الممارسات أو التصورات الطبية عن المرض والصحة أو الجسد والنفس؟ هل للطب علاقة بنوع الرؤية الكونية التي يتبناها المجتمع؟ هل بالإمكان معاينة الطب بوصفه ممارسة تأويلية, يكون الجسد هو نصها, والشفاء هو بمثابة البحث عن المعنى, وعمليات العلاج هي ذاتها عمليات قراءة النص؟ هل بالإمكان معاينة الطب من منظور علاقات القوة والمعرفة, بحيث يكون الطب معرفة وأداة من أدوات الهيمنة؟ هل بالإمكان المقارنة بين “التعددية الثقافية”, وما يمكن تسميته بـ”التعددية الطبية”؟ وأخيرا هل بإمكاننا النظر الى الطبوالممارسة الطبية من منظور مغيار ومن أفق مختلف عما هو سائد اليوم؟”
ومنذ جائحة كورونا كوفيد ١٩ وأنا اجمع المعنى في فهم خطاب الصحة وثورة الأهتمام بصحة الجسد الصحة في ظاهرها حالة جسدية، لكنها في حقيقتها سرّ وجودي وروحي عميق. هي النعمة الكبرى التي يعيشها الإنسان في صمتٍ فلا يشعر بها، حتى يُصاب بغيابها. عندها فقط، كما يقول نيتشه، يتعرّف المرء على الحياة وكأنه يراها لأول مرة: «أنا أعرف الحياة معرفة جيدة، لأني كنت على وشك فقدانها». إن المرض هنا ليس عدوًا فحسب، بل هو كاشفٌ، يخلخل وهم الاعتياد، ويوقظ الإنسان من غفلته، ليُدرك أن الصحة لم تكن يومًا شيئًا عاديًا. كتبت الفيلسوفة الفرنسية كلير ماران، في كتابها المهم ( عنف المرض أم عنف الحياة؟) “إن تعبير “سقط مريضًا” يوضح الطريقة التي نتفق بها على التفكير في المرض: باعتباره حدثًا طارئًا، أو خطًّا على طول الطريق، خارج تعريفنا، أو تغييرًا مؤسفًا ومؤقتًا “ننهض منه”، “نتجاوزه”، “نتعافى”، وعلى الرغم من أنه غالبًا ما يقدم على أنه عكس الصحة، فإن المرض هو أيضًا مظهر من مظاهر الوجود على قيد الحياة، ومهما حاولنا أن ننسى ذلك، فإننا ننتمي إلى مملكة المرضى بقدر ما ننتمي إلى مملكة الأصحاء، فأن تكون على قيد الحياة يعني أنك قد تكون مريضًا، ولكن من الواضح أن هذا الانتماء إلى الحياة لا يطالب به الإنسان الذي يفضل إخفاء حقيقة وأهمية المرض في الوجود، إن السقوط مريضًا هو التردي بالفعل، فقدان التوازن، فقدان السيطرة على النفس، فقدان الوقوف مستقيمًا، المرض هو إذلال الرجل على الأرض أمام الرجل الواقف، لكن المرض لا يأتي بشكل غير متوقع إلا لأننا نرفض أن نتوقعه، أو أن نستعد له، إنها مفاجأة لا ينبغي أن تكون كذلك”
( ينظر، الفلسفة في مواجهة المرض، ترجمة ، لطفي السيد منصور ، الثقافة الجديدة – العدد 420 أغسطس 2025)
ختامًا
لا تعني الصحة كما هو شائع انتفى المرض العضوي أو العقلي فحسب بل تعني الاشباع الكامل لكل حاجات الانسان الاساسية الجسدية والنفسية والعقلية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والجمالية وكل ما يتصل بحياة الانسان ونموه وتمكينه وتنميته تنمية صحية مستدامة بما يحقق له السعادة والرفاه والقدرة على التمتع بالحياة الطيبة ، وعلى الرغم اختلاف وتعدد تعريفات مفهوم ( الصحة) إلا ان هناك شبه اتفاق بين الدارسين حول المعاني العامة للمفهوم إذ يرى البعض ان الصحة تعني “حالة من العافية الكاملة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية” بينما يذهب آخرون إلى ان “الصحة هي ابعد بكثير من ان تكون الوقاية من الموت المبكر او انتفاء المرض او العجز بل هي حالة ديناميكية كاملة من الرفاه الجسدي والنفسي، الروحي والاجتماعي”. ووفقًا لتعريف منظمة الصحة العالمية، تصف كلمة (صحة )”حالة اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية للإنسان، وليس مجرد الخلو من المرض أوالوهن” .
ولإغراض هذا البحث يمكننا استخلاص تعريفاً اجرائياً للمفهوم على النحو الآتي:
تعبر كلمة صحة عن حق تمتع كل فرد من افراد المجتمع الإنساني بحالة من العافية البدنية والنفسية والعقلية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والجمالية وغير ذلك من مناحي وشروط حياة الإنسان الاجتماعية الشاملة المستدامة بما يمكنّه من العيش والتمتع بالحياة الطيبة التي تتضمن بالضرورة الاشباع الكامل للحاجات الاساسية بحسب إبراهام ماسلو.
والصحة لغز مثل الموت ذاته لا نعرفها إلا إذ اصابنا المرض فهي الحضور الغائب، النعمة الصامتة، والسرّ الذي لا يُفصح عن نفسه إلا عندما يوشك الإنسان على فقده. فإذا وعينا هذا اللغز في حياتنا اليومية، تحوّل المرض من نقمة صرفة إلى مناسبة لتجديد الوعي، وتحولت الصحة من عادة مملة إلى نعمة نعيشها بامتنان عميق.