- بقلم: محمد علي اللوزي
في الفضاء الثقافي الافتراضي اليوم، تتجلى ظاهرة لافتة يمكن أن نسمّيها بـ”البطريركية الفكرية”، حيث يصرّ بعض الكتّاب والنقّاد على احتكار الحقيقة، وإطلاق الأحكام الجاهزة على الآخرين في بضعة أسطر، وكأنها وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هذه الأحكام السريعة التي تُنشر على صفحات التواصل الاجتماعي لا تحمل من النقد سوى قشرته، وهي أقرب إلى “كتابة فيسبوكية” أو “سندويشية” كما يمكن وصفها، تفتقر إلى العمق، وتغيب عنها الرؤية النقدية المؤسسة على قراءة واعية للنصوص والأفكار.
ليست المشكلة في إبداء الرأي، بل في التعالي على الرأي الآخر، وفي ظنّ البعض أن كلماتهم تمثل القول الفصل، وأن أحكامهم معصومة من الخطأ. تلك النزعة السلطوية في الكتابة تُعيد إنتاج نمط قديم من التفكير الأبوي الذي يوزّع الصواب والخطأ كما يشاء، ناسياً أن الثقافة المعاصرة لم تعد تتحمل هذه “الوصاية المعرفية”.
لقد غيّر العالم الافتراضي طبيعة التفاعل الثقافي؛ لم يعد هنالك من يمتلك سلطة الإفتاء النقدي أو احتكار المعنى. صار الفضاء مفتوحاً للجميع، من المتخصص إلى القارئ العادي، وكلٌّ بات قادراً على الوصول إلى المصادر وتحليل النصوص والاطلاع على السياقات. المعرفة لم تعد امتيازًا مغلقًا، بل أصبحت ملكًا مشاعًا يتداولها الجميع، مما يعني سقوط فكرة “المعلم الكبير” أو “المرجع الوحيد” الذي يحتكر الرؤية والقول.
غير أن بعض المثقفين لم يدركوا بعد هذا التحوّل، فظلّوا يكتبون من علٍ، متكئين على خطاب متعالٍ يعتقد أن الصواب حكر عليهم، وأن الاختلاف ضرب من الجهل أو سوء الفهم. هذا الوعي البطريركي في النقد والفكر هو ما يعطّل الحوار الحقيقي، ويُسقط قيمة التعدد المعرفي الذي نحتاجه لتجديد أدواتنا في الفهم والتعبير.
إننا بحاجة إلى وعي جديد بالنقد والحوار، يقوم على التواضع الفكري، والاعتراف بأن الحقيقة ليست مطلقة ولا نهائية، بل نسبية ومتعددة بتعدد زوايا الرؤية. فالناقد الحقيقي ليس من يُصدر الأحكام، بل من يُضيء الفكرة ويفتح أمامها آفاقاً للنقاش. أما الناقد الأبوي، فهو الذي يختزل النصوص في جمل متعجّلة، وينزع عن الكاتب حقه في الاختلاف والإبداع، ظانًّا أنه وحده من يملك مفاتيح الفهم والمعرفة.
الكتابة الحقيقية، في المقابل، هي فعل إصغاء وتأمل، لا فعل وصاية أو استعراض. من يكتب بوعي، يعرف أن الكلمة مسؤولية، وأن الحكم لا يكون إلا بعد فهم، وأن الحوار أساس كل نهضة فكرية. أما من يكتب بعجلة في العالم الافتراضي، فغالبًا ما يُسهم – من حيث لا يدري – في تعميم الجهل وتفريغ النقد من معناه.
في زمن يتسارع فيه تدفق المعرفة، لم يعد هناك “تابو” يمنح صاحبه قداسة فكرية. سقطت فكرة المعصوم ثقافيًا كما سقطت سلطة الكهنوت معرفيًا. ومن ثم، فإن التمسك بالرأي المنغلق، والرفض المسبق للحوار، يمثلان أزمة وعي حقيقية تحتاج إلى مراجعة عميقة.
ما أحوجنا اليوم إلى ثقافة تُنصت لا ثقافة تُصدر الأحكام، إلى عقل نقدي يتأمل لا عقل أبوي يتعالى. علينا أن نتعلم أن التواضع المعرفي ليس ضعفًا، بل هو قمة القوة، وأن الحوار لا ينتقص من أحد، بل يرفع الجميع نحو فضاء أوسع من الفهم والمشترك الإنساني.