- بقلم: د. قاسم المحبشي

(طالما والكائن عاقل فاللغة والترجمة هي وسيلة التواصل)
البارحة استمعت إلى الدكتور محمد أمين الحوامدة، أستاذ مشارك متخصص في دراسات الترجمة في المملكة الأردنية، قدم محاضرة في وحدة الدراسات الترجمية بعنوان (نحو تطوير علاقة الترجمة بالبحث العلمي المكتوب باللغة العربية: التعزيز اللغوي والتمكين الفكري). أدارت الندوة بكفاءة واقتدار الدكتورة ريم الدندشلي، مقرر وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية في المعهد العالمي للتجديد العربي.
تناولت المحاضرة إشكالية تتعلق بمدى مساهمة الترجمة في إجراء مشاريع بحث علمية بما تتضمنه هذه الأخيرة من نصوص منقولة من لغات أخرى، خاصة الإنجليزية، ومدى قدرتها على رأب الصدع بين ثنائيتي الهوية والولاء، حالة صدمة الباحث العربي بغزارة معارف ثقافات الأمم الأخرى وتجاربها. فكيف يفترض تفعيل الترجمة في البحث العلمي العربي بما يعزز المخزون الفكري العربي وتمكين المنظومة اللغوية بما يلزمها من مصطلحات خاصة في مجالات علمية مستحدثة؟
استمعت عبر الزوم باهتمام شديد واغتنمت الفرصة للتعبير عن هواجسي بشأن الترجمة ومداراتها الفلسفية والثقافية؛ تلك الهواجس التي طالما راودتني منذ قرأتي لكتاب (قلق ابن رشد) للأديب اللاتيني الضرير خورخي لويس بورخيس، الذي شرح فيه محنة ابن رشد مع ترجمة كتاب الشعر لأرسطو، إذ وقف عند كلمتين مريبتين في بداية كتاب “الشعر”، وهما “تراجيديا وكوميديا”. لقد وجدهما سنوات من قبل في الكتاب الثالث من “البلاغة”، ولم يسبق لأحد في نطاق الإسلام أن خمن معناهما، وبدون جدوى أتعب صفحات كتاب لإسكندر الأفروديسي، وبدون جدوى قارن بين الترجمتين اللتين قام بهما النسطوري حنين بن إسحاق وأبو بشر متى، والكلمتان اللغزان تترددان في كتاب الشعر ويستحيل تلافيهما.
ترك ابن رشد القلم، وقال لنفسه (دون ثقة كبيرة) بأن ما نبحث عنه يكون عادة قريبًا منا (ينظر، خورخي لويس بورخيس، ابن رشد وقلق العبارة 1989).
ندوة البارحة هيجت تلك الخواطر وجعلتني أتسائل عن مصير الترجمة التقليدية كما عرفناها ما قبل عصر الذكاء الاصطناعي، وما ستصبح عليه بعده. الذكاء الاصطناعي يثير تساؤلات جوهرية حول دور المترجم البشري ومستقبل هذه المهنة. إذ مع التقدم السريع في تقنيات الترجمة الآلية، مثل الترجمة العصبية والتعلم العميق، أصبحت الآلات قادرة على تقديم ترجمات دقيقة وسريعة مقارنة بالماضي. لكن هل يعني ذلك نهاية دور المترجم البشري؟
ليست الترجمة مجرد نقل نصوص من لغة إلى لغة أو تواصل لغوي ثقافي بين الشعوب والثقافات فحسب، بل هي موقف من الحياة وتأكيد حضور الكائن وقدرته على التفاعل في هذا العالم الإنساني؛ عالم ما تحت فلك القمر والفعل والانفعال والتفاهم والحوار بين بني الإنسان في كل زمان ومكان. الترجمة حاجة حيوية لتدبر العيش المشترك بين الكائنات العاقلة، إنها تفاعل تبادلي بين الشعوب والثقافات واللغات، وبها ومن خلالها تتخصب الثقافة بوصفها قوة التاريخ الإبداعية عالمًا وفنًا وأدبًا.
والترجمة تجربة إنسانية طويلة جدًا خاضتها الشعوب منذ أقدم العصور، لا سيما بعد اكتشاف اللغة والكتابة؛ إذ لا توجد طريقة للتواصل بين الشعوب الذين يتحدثون لغات مختلفة إلا عن طريق الترجمة. والشواهد على قدم ممارسة الترجمة مازالت ماثلة للعيان في كبرى المتاحف العالمية، مثل رسائل تل العمارنة التي تعود للقرن الخامس عشر قبل الميلاد والمكتوبة باللغتين الأكادية والمصرية القديمة، وحجر رشيد الذي يعود للقرن الخامس قبل الميلاد وكتب باللغات الهيروغليفية، اليونانية، والمصرية القديمة.
بل إن بعض مصادر التاريخ الهامة مثل ملاحم هيرودتس تذكر بأن الشعب المصري كان مقسّمًا إلى سبع فئات، إحداها فئة المترجمين، ويشهد على ذلك أيضًا الكثير من الرقاع والبرديات المترجمة من الهيروغليفية إلى اليونانية القديمة المعروضة في المتحف البريطاني، فضلًا عن أن نحو ربع الألواح التي وجدت في مكتبة نينوى الملكية كانت على هيئة قواميس وكتب قواعد للغات السومرية والبابلية والأشورية. ولم يكن الاستشراق إلا حالة من حالات الترجمة؛ إذ هو حصيلة خبرة تاريخية متراكمة لشبكة واسعة من الممارسات والعلاقات الثقافية والحضارية والمدنية، بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، بين نحن وهم.
هذه العلاقة التبادلية التفاعلية التي نمت وتطورت عبر التاريخ في مسارات متقاطعة من الفهم وسوء الفهم، والشدة واللين، والحوار والصدام، والسلم والحرب، والندية والتبعية، والتكافؤ والهيمنة، والقوة والضعف، والتحدي والاستجابة، وغير ذلك من تجليات التوتر والاضطراب في جدل التماس والصراع بين الشرق والغرب، بين القوة والضعف، منذ الاستشراق الأول المحمول على رؤوس الحروف الإغريقية الأكاديمية حتى الاستشراق الأخير المحمول على رؤوس الصواريخ البالستية الأوروأمريكية.
وقد بدأت حركة الترجمة مصرية-يونانية حين ذهب أهل اليونان يطوفون بلاد الشرق بحثًا عن العلم والحكمة والخبرة والتاريخ، فقد جاء في محاورة ألطيماوس (أفلاطون) أن صولن ذهب إلى مصر يبحث عن تاريخ بلاده السحيق، فقال له أحد الكهنة المصريين:
“يا صولن، أنتم الهليين تلبثون دومًا أطفالًا.. لا تعرفون شيئًا من كل ما كان في عابر الأزمان لدينا أو لديكم، أما نحن فقد سجلنا في هياكلنا حساب السنين التي مرت على حضارة وطننا هذا” (أفلاطون، ألطيماوس وأكريتيس، ص191-192).
وكان لحركة الترجمة التي بدأت من صدر الإسلام مع الخليفة مروان بن الحكم (ت 685) والخليفة خالد بن يزيد بن معاوية (ت 704) أثر واضح في النسق الفلسفي العربي الإسلامي. إذ ترجم العرب معظم الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية وتلقفوها عبر الأفلاطونية المحدثة: المقولات، البرهان، المغالطات، الجدل، السماء والعالم، وكتاب الأخلاق. وقد بدأت حركت الترجمة من العهد الأموي: التاسوعات والربوبيات وطماس الأخلاق، إلى خيماخوس وجمهورية أفلاطون، ومنطق أرسطو، حتى حكاية موت الإسكندر المقدوني في رسالة الأحزان للكندي، وغير ذلك من علوم الأولين.
ويعد حنين بن إسحاق (ت 910م) أشهر المترجمين، وابنه إسحاق بن حنين، وثابت بن قرة. وهذا يعني أن أوجه التأثر والتأثير كثيرة وواسعة للفلسفة اليونانية في الفلسفة العربية في مختلف انساقها: الميتافيزيقية، الإلهيات، الطبيعيات، الفلك، الرياضيات، النفس، الخلود، الأخلاق، البلاغة، والمنطق الأرسطي. وكما استلهم الكندي فلسفة أفلاطون المتسقة مع العقيدة الإسلامية، كذلك استلهم الفارابي فلسفة أفلوطين في نظرية فيض الإلهي والعقول، ولم يخفي شغفه بأرسطو المعلم الأول، لهذا سمي بالمعلم الثاني.
كما استلهم جمهورية أفلاطون في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”، حيث ستبدل الملك الفيلسوف بالرسول الكريم، وحاول الجمع بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، والجمع بين الحكمة والشريعة. في الفلسفة ألف كتبًا منها: «الجمع بين رأي الحكيمين»، «الخرافة الكبرى»، «الواحد والوحدة»، «الجوهر»، «الزمان»، «المكان»، «الخلاء»، «العقل والمعقول»، «التوطئة في المنطق»، «منطق الفارابي». في الموسيقى كتب: «صناعة علم الموسيقى»، «الموسيقى الكبرى». في المنطق: «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، «العلم الطبيعي»، «الآثار العلوية»، رسالة «النفس والعالم». في السياسة والاجتماع: «آراء أهل المدينة الفاضلة»، «السياسات المدنية»، «جوامع السياسة». في العلوم: إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، وكتب: «المقولات» (قاطيغورياس)، «القول الشارح» (القضايا والتعريف)، «أنا لوطيقا الأولى والثانية» (تأليف القياس المنطقي)، «طوبيقا» (الجدل)، «سفسطيا» (السفسطة)، «ريطوريقا» (الخطابة)، «بوطيقا» (أي الشعر).
إيمانه بوحدة الحقيقة: “واجب الوجود عقل محض، يعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد.”
وفي ذات السياق جاءت فلسفة الطبيب الفيلسوف ابن سينا (ت 1037)، فلسفته مزيج من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والنزعة الغنوصية الإشراقية. ففي كتابه «الإشارات والتنبيهات» ترجم كتاب المنطق الأرسطي وكتاب الشفاء ومقال في النفس وكتاب الحكمة العروضية، وكتاب القانون في الطب. وربما كان أبو حامد الغزالي (ت 1111) الناقد الكبير للفلسفة اليونانية في صيغتها العربية في كتابه «تهافت الفلاسفة» و«المظنون به على غير أهله». كما أن الفلسفة في المغرب العربي وفلاسفتها: ابن باجة (ت 1138) في «تدبير المتوحد»، وابن طفيل (ت 1185)، والشارح الكبير ابن رشد الذي كتب: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه، وكتاب «مناهج الأدلة»، وكتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة»، و«تهافت التهافت» الذي كان رد ابن رشد على الغزالي، وكتاب «الكليات».
وقد امتد الأثر اليوناني إلى الفقه، الكلام، النحو، التاريخ، والأدب، لكن هذا لا يعني أن الجهد الفلسفي العربي الإسلامي كان مجرد رجع صدى للفلسفة اليونانية. بل يمكن القول إن أهم مؤثر في الفلسفة الإسلامية هو: القرآن الكريم، الحديث الشريف، الفقه، علم الكلام، التأويل، أهل الحديث، أهل الرأي والاجتهاد، ثم الدفعة من ترجمة التراث اليوناني: المنطق، الطبيعيات، الإلهيات، الأخلاق، السياسة، الرياضيات، الفلك، الطب، والهندسة.
في الفلسفة الأخلاقية العربية برز: يحيى بن عدي التكريتي في كتابه «تهذيب الأخلاق»، الغزالي في «ميزان العمل»، أبو حسن الماوري في «أدب الوزير»، أحمد بن مسكونة في «الأخلاق والأمم»، أبو بكر الرازي في الطب الروحاني، وبن حزم الأندلسي في كتاب «الأخلاق والسير» و«طوق الحمامة» وشرح منطق أرسطو.
كما تأثرت الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية، وأثرت الفلسفة العربية في الفلسفة الغربية. الفارابي كان له أثر كبير في فلسفة العصور الوسطى، حيث ترجم كتاب «إحصاء العلوم» إلى اللغة اللاتينية، وأصبح في المدارس المسيحية كما كان في المدارس الإسلامية، ومن المؤلفات التي لا يستغني عنها الأوروبيون، واستفاد منه «روجر بيكون». استقر عند الإفرنج اختيار فلسفة ابن سينا ممثلة «للفلسفة الإسلامية»، فقد ترجم «جنديسالينوس» كتاب «الشفاء» إلى اللاتينية، وترجم «جيراردي كريمونا» كتاب «القانون في الطب»، فأصبح كتابًا مدرسيًا يعول عليه في مختلف الكليات الأوروبية من القرن الثالث عشر حتى القرن السابع عشر. وبهذا الكتاب ارتفع شأن ابن سينا في الغرب، واتسع نطاق نفوذه حتى جعله الشاعر «دانتي» في منزلة بين أبقراط وجالينوس.
ويرى بعض الدارسين أن رواية روبنسون كروزو لدانيال دوفو مستلهمة من كتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل. وإذا ما انتقلنا إلى ابن رشد، نجد أن الإعجاب بشروحه لفلسفة أرسطو كان عظيمًا في أوروبا حتى سماه «دانتي» الشارح الأكبر. ومن المشهور أن مدرسة «بادوا» بإيطاليا كانت تنتمي إلى مذهب ابن رشد، وأن «سيجر دوبرابان» كان زعيم المدرسة الرشدية في فرنسا إبان القرن الثالث عشر. ولقد ظل المذهب المنسوب إلى ابن رشد مدار دراسة عند الأوروبيين في الكتب والجامعات من منتصف القرن الثالث عشر حتى أوائل القرن السابع عشر.
ولا يخفى أثر الغزالي في الفلسفة المسيحية الوسطية وربما أثر في ديكارت. وكان ابن خلدون هو الطائر الأخير الذي أثر في الفكر الأوروبي على نحو ليس له نظير في تاريخ الفكر البشري. ابن خلدون أعظم فيلسوف ومؤرخ أنجبه الإسلام، وأحد أعظم الفلاسفة والمؤرخين في كل العصور. ويذهب فيليب إلى أن مقدمة ابن خلدون أحد أكثر المؤلفات ضرورة وأهمية بين مؤلفات العقل البشري، إذ صاغ بها فلسفة بلا شك أعظم نتاج أبدعه أي ذهن في أي عصر وأي بلد، بحسب أرنولد توجينغا. وهكذا استأثرت آراء ابن خلدون في التاريخ والاقتصاد والفلسفة الاجتماعية باهتمام الباحثين، وهي الآراء التي تبقى بلا شك إسهامه الأساسي في الإرث البشري الفكري، بحسب جورج لابيكا.
إن الترجمة تزداد ضرورة حينما يختل مسار التناسب الحضاري بين الشعوب، إذ لا سبيل للحضارات المهزومة من فهم عوامل وأسباب نهوض الحضارات المتقدمة بوصف ذلك خيارًا وجوديًا حاسمًا ولا مفر منه أبدًا. يقول الدكتور عبد الحميد صالح حمدان:
“بفضل الترجمة تولدت الحضارة العربية والعلم العربي الذي ساهم في تكوينه مفكرون من مختلف القوميات والجنسيات، سريانيون وفرس وصابئة ومسيحيون نساطرة ويونانيون وأقباط من مصر وعبرانيون وهنادكة وأتراك وذميون، ولكن بلسان عربي، وفي ظل الدين الإسلامي الحنيف الذي لجأ إلى العقل ليحرك به الوعي الذاتي للفرد ويدفع به إلى الاستقلال في الرأي، ومن هنا تأكيد مبدأ الرأي والقياس والاجتهاد في كل العلوم، وبخاصة الترجمة التي أصبحت القوة الدافعة للمذهب العقلي، والتي ربطت اللغة العربية بالمجرى العام للفكر الإنساني في تلك العصور” (ينظر: تاريخ الترجمة بين الحضارات القديمة والحديثة، موقع Langwit، 2018).
وعبر الترجمة ازدهرت اليابان المعاصرة، إذ منذ مطلع القرن العشرين نشطت حركة الترجمة والبعثات التعليمية والتكنولوجية، وترجمة العلوم والمعارف العلمية والنظرية والتطبيقية. وقد أنشأت اليابان المؤسسة الهولندية التي اضطلعت بأعباء إنشاء حركة ترجمة واسعة النطاق، وقرأ اليابانيون إنجازات أعلام الفكر والعلم في أوروبا، وعقدت اليابان اتفاقات مع دور نشر عالمية لإصدار طبعات مترجمة من إصداراتها بلغتها الأصلية. ويقدر عدد العناوين المترجمة في اليابان آنذاك في أوائل القرن العشرين بحوالي 1700 عنوان سنويًا.
قبل أشهر، سنحت لي الفرصة للاستماع إلى ندوة عن الترجمة في صالون تفكير المستنير قدمها الأستاذ الدكتور محمد السيد، أستاذ فلسفة العلم في جامعة الكويت، عن المفكر والمترجم المصري الكبير الراحل شوقي جلال، الذي يعد أحد أهم المترجمين العرب.
وفي ذات السياق، أتذكر مؤتمرًا علميًا دوليًا بعنوان «التفلسف الترجمي وإمكان القول الفلسفي بالعربية: موسى وهبه رائدًا» بتاريخ 29 ديسمبر 2023، مكنني من الاطلاع على جهود موسى وهبه في الترجمة، وقد صاغ مصطلح «الأفهوم» موازياً لمصطلح «مفهوم» الكانطي؛ الأفهوم فعل تفكير وليس نتيجة تفكير، وأن التفكير يبلور فكرته من الواقع وليس فقط من المتخيل أو المتصور.
وقد علق أحد الباحثين قائلاً: إن كانط لو أراد أن يكتب «نقد العقل المحض» بالعربية لما تمكن من صياغة نص فلسفي أجمل من الذي سبكه وهبه (ينظر: سعد كيوان، موسى وهبه «المتفلسف» ترجل.. وهو يطلق أفكارًا ثم يعيد تفكيكها! الوطن، Jul 11, 2017).
في الواقع، ترجمة الفلسفة ترقى إلى مصاف التفلسف ذاته، إذ تعد المفاهيم المجردة من الأمور التي لا يمكن ترجمته. ويرى فتحي الميمني:
“أنا أعتبر أنّ الترجمة هي التمرين الفلسفي الحقيقي راهنًا؛ وما عداه هو اعتياش على فتات الترجمات من دون قدرة على خوض معركة تأويلية عميقة مع مشاكلها. لا يتعلق الأمر بالتنظير للترجمة أو بالحثّ الأخلاقي أو المنهجي عليها من أجل سدّ ثغرات في المكتبة الفلسفية أو الفكرية بالعربية، بل بشيء آخر أكثر جسامة: إنّ الترجمة هي نمط التفلسف الحالي، ولا يجب أن نستعمل الترجمات الرديئة أو التقنية باعتبارها دليلاً ضد ماهية الترجمة” (فتحي الميمني، الفيسبوك).
وتنبع حاجتنا العربية إلى الترجمة الفلسفية من واقع أن معظم الكلمات التي نستخدمها اليوم في حياتنا هي مفاهيم مجردة: الإنسان، الذات، الزمان، المكان، العدالة، الحرية، الوجود، الجمال، السياسة، الوطن، الدولة، القانون، التربية، الثورة، العلم، الذكاء، العقل، وغيرها.
ولا يوجد علم آخر يمكنه إشباع هذه الحاجة سوى التفلسف الترجمي، وهو مشروع موسى وهبه وعنوان المؤتمر المزمع.
وفي مقاربة الموضوع، دعوني أقول: إن تحديد المفاهيم وتعريفها هو الخطوة المنهجية الأولى في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والثقافية، ذلك كون مفاهيمها ملتبسة وغامضة وغائمة على الدوام، لأن موضوعها ذاته متحرك ومتغير باستمرار (الإنسان في المجتمع والتاريخ)، إذ لا توجد نواة صلبة قابلة للتحديد والتعريف تصلح جوهراً للمفاهيم التاريخية والثقافية الإنسانية، كتلك التي تستخدمها العلوم الطبيعية البحتة في دراسة ظواهرها وتفسير قوانين حركتها كـ(الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات). فكل مفاهيم تلك العلوم متوَاضع عليها ولا تثير الغموض والالتباس كما هو الحال في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبهذا يمكن القول إن العلم واحد والرأي كثير!
وتكمن وحدة العلم الطبيعي وحياديته ووضوح مفاهيمه في ذلك الاتفاق المدهش بين جميع البشر من مختلف الشعوب والحضارات واللغات والثقافات والمعتقدات، إذ أن 1+1=2، ومجموع زوايا المثلث 180 درجة، والخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين، والماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، ولَكل فعل رد فعل مساوي له بالقوة ومضاد له بالاتجاه، ولا شيء يحدث بدون سبب من الأسباب، ولا تشتغل السيارة إلا بالوقود والكهرباء، وقس على ذلك حقائق العلوم الوضعية التي تتميز بالموضوعية والشمولية والوحدة في كل مكان تقريبًا، في الصين أو أمريكا أو مصر أو العراق.. إلخ. الجميع يدرس ذات العلوم والنظريات والقوانين العلمية بذات الطرق والأساليب والمفاهيم والأدوات.
وبهذا يتميز المنهج العلمي في التفسير، أي تفسير العلل لمعرفة المعلولات، الأسباب والنتائج، وصياغة قوانين تجريبية للعلوم الاختبارية القابلة للحَضّ والتكذيب. أما في الظواهر الإنسانية فنحن بحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف المفاهيم والكلمات التي نتحدث عنها في كل سياق من السياقات. وكل تعريف ليس إلا تعريفًا نسبيًا ومحتملاً للمعنى، لكن أشد الأخطار هو خطر الكلمات التي تستثير في أذهاننا جواهر أو ماهيات فكرية مشخصة زائفة، تملأ التاريخ سكانًا من الأسماء الكلية المختلقة لا وجود لها في الواقع.
ولعل الحاجة إلى إعادة تحديد وتعريف الكلمات التي نستعملها في دراساتنا الاجتماعية تزداد، لا سيما مع مفاهيم أو مصطلحات تلقفناها من سياقات ثقافية مغايرة، إذ أن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية والثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة، معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة.. إلخ.
غير أن مشكلة الإنسان مع المفاهيم المجردة تكمن في اعتقاده بأنه يعرفها بمجرد النطق، وحينما يسأل نفسه عن معناها يكتشف جهله بمعناها الحقيقي، وتلك هي قضية سقراط، الذي أكد أن الفلسفة هي التي تعلمنا جهلنا، ومعرفة الإنسان بجهله الذاتي هو الخطوة الأولى لتفتح العقل وفهم العالم. وطالما الواقع يتغير ويتطور ويتجدد ويتبدل باستمرار، فمن الضروري للفكر أن يتجدد باستمرار. والفلسفة، بوصفها أكثر أشكال الفكر تجريدًا، هي أولى بالتجديد نظريةً ومنهجًا، فهي مثلها مثل أنساق المعرفة الإنسانية والاجتماعية والطبيعية، بحث في مشكلات العالم وتجاوزها.
وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار، فهي ميتافيزيقا بمعنى صبوة العقل الذي لا يكف عن استنطاق المعنى فيما وراء الفوضى واللامعنى. وبهذا المعنى نفهم تعريف جيل ديلوز للفلسفة بوصفها فن إبداع المفاهيم، تلك العلمية التي تدل على توليد فعل التفكير في الفكر بما هو كذلك، لأن الفكر ليس فطريًا ولا اكتسابيًا، بل هو توالُّدي أو تناسليّ. ويعني بالتجديد هنا تجديدًا في الأسلوب والمعنى والمبنى.
والمفاهيم هي “نظارات العقل” بمعنى من المعاني، إذ لا يتحقق التأمل والتفكير في العالم إلا عبرها ومن خلالها، وهي مفاهيم مكتسبة من اللغة والثقافة والتعليم والتربية، ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة، إذ لا تفكير إلا بالكلمات والصور الذهنية، حتى في الأحلام. وإذا كان العقل يولد صفحة بيضاء بحسب جون لوك، فهو لا يظل كذلك بعد المهد، بل تنقش الثقافة واللغة والتربية والتعليم الكلمات والمفاهيم. لكن تلك المفاهيم يمكن أن تتحول بعد الاستخدام الطويل إلى أوثان وأوهام تكبل الفكر وتعيق نشاطه الدائم في تعقل العالم، وعندما يتنكر الناس للعقل، فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والضلالات والأخطاء.
والعقل والتفكير والكلام هو القاسم المشترك بين الناس، أما العواطف والمشاعر والانفعالات والمعتقدات والإيديولوجية فهي خصوصية بالأفراد وخاصة بالجماعات. وحيثما تختلج “نحن” تكون أيديولوجيا، وحينما توجد أيديولوجيا توجد مصالح وغايات ومنافع يمكن رؤيتها وتعيينها بوضوح. فإذا اعتقدت جماعة من الجماعات بأن ما تراه وتقوله وتعتقده هو الحقيقة وما عداها باطل، فليس ثمة قوة في العالم يمكن أن تجبرها على تغيير معتقدها.
الحقائق هي حقائق طالما وثمة جماعة تؤمن بها وتعتقدها كذلك، وهذا هو سر بقاء الملل والنحل والمذاهب والفرق والمعتقدات مستمرة على مدى الألف السنين. ومن يعبد البقرة لا يرى نفسه على ضلال، ومن يعبد بوذا يراه إلهًا، ومن يعبد أي شيء يؤمن بأن ما يعبده هو الحقيقة عينها، إلا لما استمر في عبادته.
إن الحقائق لا توجد في جوف النصوص والكلمات كما توجد البذور في الثمار، بل إن الحقائق توجد باتفاق وتواضع الناس عليها، فإذا ما اتفق جماعة من الناس واعتقدوا أن ما يفعلونه أو يفكرون به هو الحقيقة ذاتها بحسب باراديم رؤية وتأويل محدد للعالم والأشياء والكلمات والدلالات والرموز والنصوص، فلا شيء يحول دون اعتقادهم بأن ما يرونه هو الحقيقة عينها! ولكل جماعة من الناس الحقيقة التي ترتضيها لنفسها وتعتقدها كذلك. فمن يعتقد أن البقرة آلهة لا يشك في صحة اعتقاده لحظة واحدة، وإلا لما اعتقد بها أصلًا! ومن يعتقد بشيء يراه حقيقة ولا يراه باطلًا أبدًا. والناس يسلكون وفقًا لما يعتقدون، فإذا اعتقد أن هذا العالم مسكون بالجن والشياطين فلن تجرؤ على الخروج من بيتك، وإذا اعتقدت أن بيتك مسكون بالأرواح الشريرة فلن تستطيع النوم فيه، وإذا اعتقدت أنك المدافع الأمين عن دين رب العالمين فسوف ترى بكل من يخالفوا اعتقادك كفرة وشياطين ومؤاهم النار وبؤس المصير!
وإذا اعتقدت أن الناس في ضلال عظيم وأنك معني بهدايتهم إلى الطريق القويم، فأمامك خياران: الأول هو إقناعهم بالتي هي أحسن، وجعل من ذاتك مثلًا أعلى للصدق والاستقامة والأمانة والزهد والتواضع والصبر والشفقة والرحمة والتسامح والعدالة والرحابة وكل القيم الفاضلة الجاذبة للناس لجعلهم يقتدون بك. والثاني هو أن تشحذ سيفك وتعلن الجهاد تحت أي رأي تحبه، حتى تتمكن من جعل الجبناء من الناس يؤمنون، وهم صاغرون لكنهم غير مقتنعين، وسيظلون يتحينون الفرصة للثأر والانتقام، وهكذا تتغذى الحروب الأيديولوجية من داخل دائرتها المغلقة.
هذا في مجال الاعتقادات والآراء والأفكار الإيديولوجية التي لا تحتمل القياس والبرهان التجريبي. أما في العلم والمعرفة العلمية فالحقائق يجب أن تكون موضوعية ومحايدة ومختبرة ومجربة في عالم الممارسة والمشاهدة بالاستقراء المباشر. فالقول بأن كل الغربان سوداء يمكن إبطاله إذا اكتشفنا أن بعض الغربان بيضاء. والقول بأن كل البشر حيوانات عاقلة، لا يمتلك قوة الحقيقة العلمية طالما أن الكثير من البشر لا يتصرفون بحسب معايير العقل والحس السليم. وهكذا هو الحال دائمًا مع الناس والمعرفة.
والفلسفة، بوصفها ربيبة الدهشة وحكمة المعرفة، هي المعنية دائمًا بتحطيم الأوثان؛ أوثان العقل ذاته، وذلك بنقدها وبيان تاريخانيتها عبر المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية وسلوكيات الموضوعات الخارجية التي يسعى إلى تعقلها ومنحها المعنى، وهذا ما يسمى بمنهجية الوعي الانعكاسي المتمثل في مراوحة العقل بين إدراك العالم وتمثله مفهوميًا، ثم قدرة العقل على وعي ذاته وتطهيره من الأوهام والأوثان، وتلك هي وظيفة الفكر النقدي بوصفه يقظة العقل الدائم التساؤل والاندهاش.
خذ أي مفهوم تاريخي كلي وحاول أن تفهم دلالته الحقيقية في سياقاته المتعينة، مثل مفهوم ثورة. جاء في لسان العرب لابن منظور أن «ثار» الغبار سطع، و«أثاره» غيره، و«ثوّر» فلان الشر هيّجه وأظهره، و«الثور» ذكر البقر، والأنثى «ثورة»، و«الثور» برج من أبراج الفلك. وعلى صعيد الاستخدام، تُطلق كلمة ثورة على ظواهر وأشياء عديدة ومختلفة: طبيعية وتاريخية؛ ثورة البراكين، ثورة الغضب، ثورة أسبارتاكوس، ثورة الزنج، الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة الزراعية في ألمانيا، الثورة الإنجليزية، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية، الثورة البرجوازية، الراديكالية، الثورة الروسية، الثورة الصينية، الثورة الثقافية، الثورة العلمية، الثورة المعلوماتية، الثورة المضادة، الثورة المسلحة، الثورة السلمية، الثورات الاجتماعية، الثورة الشعبية، ثورة البروليتاريا، ثورة الشباب في أوروبا 1968، ثورة الطلبة، الثورات التحررية، ثورة الخبز، الثورة البرتقالية، الثورة المخملية، ثورة الحرية والكرامة، ثورات الربيع العربي.. إلخ. وهكذا نجد أن مفهوم «ثورة» قد أخذ يتسع ويغطي ظواهر كثيرة ومتنوعة، لا علاقة تجمع بينها أحيانًا.
إن الثورة، من حيث هي ظاهرة تاريخية ومفهوم مجرد، تنتمي إلى العصر الحديث، وترتبط ارتباطًا عضويًا بمشروع الحداثة التي شهدتها أوروبا منذ بزوغ فجر النهضة في القرن الرابع عشر الميلادي، وامتدت لنحو ثلاثة قرون. ويمكن القول إن مفهوم الثورة لم ينشأ في الفراغ، بل نشأ وتبلور وتمت صياغته في السياق التاريخي الاجتماعي المشخص لحركة المجتمع وتطوره على جميع الصعد: الحضارية والثقافية والمدنية. إذ ما كان لفكرة الثورة أن تتوطد بالحجج المجردة والتنظيرات المنطقية، بل كان يُحكم عليها من خلال الدليل والوقائع والحقائق التي كانت تتنضد في عالم الممارسة المشخصة، في لحظة شهد فيها التاريخ أعظم عملية تحول ثوري من التقليد إلى الحداثة. فظاهرة الثورة ارتبطت بجملة من الظواهر والممارسات والأفكار والمفاهيم العلمانية، العقلانية، التقدم، الحرية، العلم، الليبرالية، الديمقراطية، الدولة–الأمة، المجتمع المدني.
كتبت حنا أرندت: «إن ما نسميه الثورة هو بالضبط تلك المرحلة الانتقالية التي أدت إلى ميلاد مملكة علمانية جديدة»، وإن ارتبطت فكرة الثورة منذ البداية بمعاني الجَدّة والبداية والعنف، فذلك لأن «إرهاصات الجَدّة الغربية التي تميز العصر الحديث قد احتاجت نحو قرنين من الزمان لتخرج من العزلة النسبية للفكر العلمي والفلسفي، ولتصل إلى ميدان السياسة»، وهو ما أكده روبسبير بقوله: «إن خطة الثورة الفرنسية كانت مكتوبة بإسهاب في كتب مكيافيللي».
ختامًا، سألت الذكاء الاصطناعي عن الترجمة، وإليكم جوابه:
مصير الترجمة في عصر الذكاء الاصطناعي يثير تساؤلات جوهرية حول دور المترجم البشري ومستقبل هذه المهنة. مع التقدم السريع في تقنيات الترجمة الآلية، مثل الترجمة العصبية والتعلم العميق، أصبحت الآلات قادرة على تقديم ترجمات دقيقة وسريعة مقارنة بالماضي. لكن هل يعني ذلك نهاية دور المترجم البشري؟
التحولات الكبرى في الترجمة:
1. تحسين الدقة والسرعة: أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على معالجة كميات هائلة من النصوص بسرعة فائقة، ما يجعلها أداة قوية للترجمة الفورية والترجمات التقنية.
2. انخفاض تكلفة الترجمة: بفضل الذكاء الاصطناعي، باتت الترجمة متاحة للجميع تقريبًا، مما يسهل الوصول إلى المعلومات بلغات متعددة.
3. التكيف مع السياقات المختلفة: رغم تطور الذكاء الاصطناعي، لا تزال هناك تحديات في فهم السياقات الثقافية الدقيقة، ما يجعل الترجمة البشرية ضرورية في بعض الحالات.
التحديات والقيود:
فقدان الحس الثقافي والمعرفي: الترجمة الآلية قد تكون دقيقة لغويًا لكنها لا تستطيع دائمًا التقاط الفروقات الثقافية والبلاغية.
الأخطاء الناتجة عن غياب الفهم العميق: قد تؤدي الترجمات الآلية إلى نتائج غير دقيقة عندما يكون النص معقدًا أو مليئًا بالمجازات.
تهديد فرص العمل للمترجمين: مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، يواجه المترجمون التقليديون خطر فقدان وظائفهم، مما يستدعي إعادة التفكير في دورهم المستقبلي.
المستقبل: تكامل بين الإنسان والآلة:
بدلًا من أن يكون الذكاء الاصطناعي بديلًا للمترجم، يبدو أن المستقبل سيشهد تعاونًا بين الطرفين. سيظل المترجم البشري ضروريًا في التخصصات التي تتطلب إبداعًا وفهمًا ثقافيًا، بينما سيتم استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لتحسين الإنتاجية ودقة الترجمة.
إذن، الذكاء الاصطناعي لن يلغي الترجمة البشرية، لكنه سيعيد تشكيلها، ليصبح المترجم أكثر من مجرد ناقل للنصوص، بل خبيرًا في التكيف والتحرير والتنقيح.