- كتب: محمد ناجي أحمد
يبدو أن محطات التغيير في اليمن دوما تنطلق من سمو التحديث بحثا عن المواطنة، دون أن يكون هناك نهضة فكرية تسبق كل فعل ثوري، حتى لا تكون الارتدادات أسوأ، والثورات المضادة أكثر استدامة وقوة.
لكن هل ينتظر الناس نهضة فكرية ثم بعد ذلك ينطلقون مستلهمين من تنوير الفكر إلى وهج الثورة؟
أليس استدامة القوى الرجعية إرجاء مستداما لفكر التنوير؟
ألا تحدث الثورات تغييرات في الوعي، وارتفاعا لسقف التغيير، ألم يكن هدف الثورة السبتمبرية ” إزالة الفوارق بين الطبقات” وعيا بما يجب أن يكون عليه المجتمع، لتأسيس وطن ومواطنة حاملها المواطن لا الرعايا. ورئيسا يُدعَى بصفة الأخ لا السيد ولا القاضي ولا الشيخ، مجتمع مواطنة، لا مجتمع سادة وأهل خُمس ,احفاد بلال، وسيد وقبيلي ومزين وقشام وأخدام، الخ؟
يصف الأستاذ عبد الله البردوني شباب ثورة 26 سبتمبر بأنهم “خرجوا إلى التغيير قبل أن يدخلهم، فليس عملهم غير نوبة عاطفية، أطلق القنبلة أو القنابل، وعاد بلاد فكرة بما فعل وبلا احتمال وقوع فعل معاكس، لأن الفكرة الثاقبة لم تتجذر بداخله وداخل غيره، لكي يكون للتغيير الأفضل تقبُّل جماعي، بحيث يحسب كل مواطن أن إبداع كل شيء جميل في صالحه، وأن الذي يملكه الفرد يملكه الجميع، كما أن الذي يملكه الجميع يملكه الفرد، لكونه من ناشئة هذا المجتمع.”ص128.
تكتلت القوى المضادة للثورة، كقوى محافظة تحارب الجمهورية من داخل ثورة 26سبتمبر، وقوى ملكية تحتشد بالمال والسلاح ضمن أهداف إقليمية ودولية .
اتخذت القوى المحافظة من الأستاذ محمد محمود الزبيري رمزا لتكتلاتها ومؤتمراتها المناهضة لضباط الثورة والدور المصري المساند للثورة، فكان مؤتمر عمران ومقرراته التي تصف الدور المصري بالتدخل الخارجي، وظاهرا تراه مماثلا للتدخل السعودي المناهض للثورة والجمهورية، وباطنا ترى الحل بالانضواء داخل عباءة النظام السعودي.
ثم كان مؤتمر خمر الذي شكلت مقرراته دستور جمهورية 5نوفمبر 1967م،برعاية الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وحضره القاضي عبد الرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان، والعديد من مشايخ حاشد وبكيل، ورموز الإخوان المسلمين من عبد الملك الطيب إلى عبد المجيد الزنداني، وعدد من البعثيين مدنيين وضباط. ومناصرة وتأييد بالمشورة من عبد الكريم الإرياني الذي كان يدرس في الولايات المتحدة، ومحسن العيني، الخ.
ثم كان مؤتمر الطائف، الذي أصدر بيانا يسلم فيه بما أرادته السعودية من إسقاط الجمهورية، وإعلان مسخ يعيد رجعية ما قبل سبتمبر، سموه بـ”الدولة الإسلامية” وقد حضر مؤتمر الطائف شيوخ من اليمن، على رأسهم سنان أبو لحوم والقيسي، كممثلين لمقررات مؤتمر خمر، مع مباركة من عبد الرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان، وحضور ابنه محمد أحمد نعمان، ومحسن العيني. وبحسب البردوني في كتابه هذا: حضر مؤتمر الطائف شيوخ من اليمن وخمسة من سفراء الجمهورية العربية اليمنية في أكثر من عاصمة.ص131
حين قامت حركة 5نوفمبر 1967م بعد هزيمة يونيو، وخروج المصريين من اليمن، أطلق عليها النوفمبريون مصطلح “ثورة”، ولم يقيموا لها عيدا سوى العيد الأول، ثم سُمّيَت لمدى ثلاثة أعياد بـ”الحركة البيضاء التصحيحية” ثم ألجموها الصمت كأنها لم تكن”ص86.
إن جغرفة القوى الملكية بأنها من شمال الشمال وهم، فقد كان العديد من أبناء المناطق الوسطى ضمن قوام جنود الملكية، لكن تسييج الصراعات بأسوار مناطقية وجهوية ومذهبية أحد أسلحة القوى الرجعية، إذ يصبح الفقراء في تلك المناطق، ضمن تحديات طائفية، لا ضمن استحقاقات التغيير الثوري الذي يعبر عنهم.
وهذه من مهازل التاريخ المؤلمة التي تتكرر دون استفادة من كوارث التاريخ ومآسيه.
بحسب ما يراه البردوني فإن “الاستخبارات رسخت في رؤوس القياديين المصريين أن من صنعاء شمالا قواعد الملكيين، وانهم إماميّون بالوراثة، وإنما الجمهوريون هم لواء تعز والبيضاء والحديدة، وهذا غير صحيح، فقد كان آل الباشا من العدين تابعين لفلول الملكية، وفي جيش الفلول إلى الآن خمسمائة عسكري تخرجوا أمس الأول من الكلية الحربية الإمامية، كلهم من المناطق الوسطى وليسوا من العشائر الحربية، ,وأغلب هؤلاء كانوا مغتربين في السعودية” ص233.
ما قاله البردوني في وصفه لصرعى 48م:
كلما قلت من يخرون صرعى
خير أهلي، قلتم تعاليم سيدي
ينطبق على عديد حروب في اليمن، لم يكن المشروع التحرري والاجتماعي جوهرها وإنما تداول غير سلمي للسلطة فيما بين قوى الاستبداد المتغلبة بالسلاح والمال وإفقار وتجهيل قوى الشعب، وجعله في عبودية يعاد إنتاجها، فيظل مستلبا وذخيرة لحروب قوى الشوكة والغلبة.
يُعلِّق البردوني منتقدا قصيدة نُسِبَت للزبيري، أثناء الاستعدادات لمؤتمر خمر عام 1965م “وكانت تنبثُّ المنشورات، وتنفر الجدليات في المؤتمرات حول الحكم العسكري والحكم المدني، ونحلوا (الزبيري) قصيدة في هذا الغرض:
هذا هو السيف والميدان والفرسُ
واليوم من أمسه الرجعي ينبجس
البدرُ في (الجرف) تحميه حماقتكم
وأنتمو مثلما كنتم له حرس
في تعريض بالرئيس عبد الله السلال الذي كان رئيسا لحرس البدر.
ويرد البردوني على هذا الانتحال الشعري بقوله “فمن أين اجتلبنا التفاضل بين الحكم العسكري والحكم المدني؟
وأول ثورة يعتزُّ بها الزبيري إلى استشهاده هي ثورة 48م التي كان قائدها العسكري جمال جميل!!”ص551.
يحيل البردوني اتفاق البعثيين والإخوان المسلمين في اليمن إلى اتفاق العراق والسعودية من أجل تقوية الأوضاع في شمال اليمن ماليا وتسليحا، لكي تتعزز جبهاتها في مواجهة جنوب اليمن. “ومن ذلك الحين تقوت الصلة بين البعثيين العراقيين والسعوديين، وجماعة(الإخوان) باليمن والرفاق العراقيين، فاتفقوا على تشكيل جبهات تنظيمية تباهي الجبهات والمليشيا في الجنوب، ودلت على نجاح الاتفاق بين الجبهة الإسلامية والبعث العراقي الذي لم يجد مجال تحرُّك في الجنوب، فرأى الشمال منطلقا من صميم قوة، ودلل على بدء التعارك انطلاق جماعات عراقية من (شرجب) وقُتل أكبرهم (أحمد سيف الشرجبي) سنة 1966م.” ص560.
بالنسبة لمقتل “أحمد سيف الشرجبي” لم يكن في عام 1966، وإنما في عام 1979، في الطريق الواصلة بين النشمة ومدينة التربة.
وأما بالنسبة للعلاقة بين حزب البعث وقوى مؤتمر خمر، من المشيخ السياسي والإخوان المسلمين والقضاة وبعض كبار الضباط والتكنوقراطيين، فقد كان منذ عام 1963م، حين قرر المؤتمر القومي لحزب البعث المنعقد بـ”عدن” ، وحضره عن القيادة القومية “الشابي”- أن يكون مع قوى خمر ضدا لجمال عبد الناصر والدور المصري في اليمن.
بخصوص الجدل الذي ثار بين غالب الشرعي وبين عبد الله السلال حول مقتل “يحيى محمد عباس” فبحسب البردوني في كتابه هذا فإن قَتْل رئيس الاستئناف في العهد الملكي “يحيى محمد عباس” تم على يد غالب الشرعي، وأن ابنه محمد بن يحيى مع العسكر وقتل جنديا فقتلوه.
لم يكن السلال وغالب الشرعي في تنظيم الضباط الأحرار، لكن الإعدامات التي تمت في الكلية الحربية تمت بوجود علي عبد المغني وأمر عبد الله السلال، كما يروي هذا اللواء “عبد الله الراعي” في مذكراته.
يقول البردوني “وكان غالب الشرعي صاحب رأي في السلال قبل رئاسته، فكان هذا من دواعي تكرار تهمة الشرعي، ولم ينتم الاثنان إلى تنظيم الضباط الأحرار الذين كانوا يملكون مقدارا يسيرا من التقاليد الحزبية” ص997.
أخطاء في التواريخ وتداخل في السياق:
عديدة هي الأخطاء في هذا الكتاب، والمتعلقة بالأزمنة، وقدر قليل من التباس وتداخل السياق.
فلم يكن تمرد مشايخ لواء تعز وتخطيطهم لفصل تعز عن المملكة المتوكلية في ثلاثينيات القرن العشرين كما ذهب البردوني في هذا الكتاب، وإنما كانت تلك الحركة في عام 1922م، ولم يكن التحاق الأستاذ أحمد محمد نعمان بالاتحاد اليمني في القاهرة عام 1957، وإنما عام 1955، ولم تكن حادثة المنشية، التي خطط فيها الإخوان المسلمون بمصر لاغتيال جمال عبد الناصر عام1956(ص115) أي في توقيت إعلان تأميم قناة السويس، وإنما كانت حادثة المنشية عام 1954م، كذلك الرئيس عبد الله السلال لم يتخرج من الكلية الحربية في بداية الخمسينيات (ص156)، وإنما درس في الكلية العسكرية بالعراق عام 1936، وتخرج منها عام 1939 برتبة ملازم ثان، ولم يكن اغتيال عبد الله الحجري في عام 1973م (ص56) وإنما في 10ابريل من عام 1977 بعد لقائه مع الملك خالد والأمير فهد بلندن، وإيصاله لهم رسالة من الحمدي يطالبهم بتحويل الأموال التي ينفقونها على المشايخ بأن تعطى للحكومة اليمنية كي تنجز بها مشاريع تنموية، ويبدو أنه في ذلك اللقاء عُرِض على الحجري مخطط اغتيال الحمدي، ولصداقته المتينة بالحمدي رفض، فكانت النتيجة اغتياله، قبل اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي بخمسة أشهر. ولم يكن اغتيال محمد علي عثمان عضو المجلس الجمهوري عام 1972 وإنما في عام 1973م، وتتكرر تلك الأخطاء في أكثر من موضع في هذا الكتاب(ص558-559).
هناك خلط في السياق بين مقتل محمد علي عثمان ومحاولة سعيد حسن فارع (إبليس) اغتيال الإمام أحمد. من خلال اتهام الاتحاد اليمني بأنه وراء محاولة اغتيال محمد علي عثمان، فالتبس الأمر، بسبب الصياغة التي تشير إلى دور للاتحاد اليمني في الاغتيال!
اغتيال محمد علي عثمان كان في 30مايو 1973م، ويبدو أن الموقف الناقد والرافض الذي أبداه محمد علي عثمان من الإعلان المشترك، الذي أعلنه عبد الله الحجري ومحمد أحمد نعمان وحسين المسوري في السعودية عام 1972، بخصوص اتفاقية الطائف، واعتبارها اتفاقية نهائية وليست مزمنة بعشرين سنة، تعطى بعدها للمناطق المتنازع عليها حق تقرير مصيرها، فالبردوني يرى أن الصيغة الحقيقية للاتفاقية تم حجبها، ونشر بدلا عنها صيغ وبنود غير حقيقية عن تلك الاتفاقية-يبدو أن موقف محمد علي عثمان الرافض والمندد بمن أعلنوا ذلك البيان، واتهامه لهم ببيع الأرض اليمنية كان سببا في اغتياله.
يخطئ البردوني في مذكراته هذه حين يتحدث عن صدور صحيفة (الأمل) بتعز عام 1959، برئاسة “عبدالله باذيب” والصحيح أنها صحيفة “الطليعة” وكذلك حين تحدث عن صحيفة الرسالة (ص567) بأنها صدرت برئاسة “عبد الله أمير” فصحيفة الرسالة التي صدرت 15يوليو 1968وقداستمرت الصحيفة من 15 يوليو 1968 إلى عام 1976 كمجلة، ثم أصبحت صحيفة. وخلال تلك الفترة وإلى الثمانينيات كانت برئاسة الأستاذ محمد عبد الرحمن المجاهد. في البدء كان سكرتيرها “عبد الله المجاهد” ثم أصبح “عبد الله أمير” سكرتير تحريرها فمدير تحريرها، ولم يترأسها “عبد الله أمير” إلاّ في تسعينيات القرن العشرين، بعد تنازل له من الأستاذ محمد عبد الرحمن المجاهد.