- ضياف البراق
الهمجية المعتدية المسلحة لا توقفها وردة ولا قصيدة ثورية طويلة ولا أي اعتراض سلمي ولا بيانات إدانة وشجب. الحق تحميه القوة، وتستعيده القوة. العدوان الذي لا يعترف لا بقوانين ولا بأخلاقيات الحرب، وحدها المقاومة القوية هي التي تستطيع زعزعة مشاعره وردع أهدافه ورده مسافات إلى الوراء. أمّا الروح الكفاحية السلمية فيستغلها هذا العدوان المدجج بالسلاح، المشحون بالحقد، ويجهز عليها في أقرب لحظة يجدها مناسبةً لذلك. الوردة لا تتغلب على الرصاصة عندما تتواجهان، مهما كانت درجة الصراع بينهما. المغلوب ظلمًا يحق له أن يواجه ظالمه بالكلمة والقوة وبكل ما يستطيع. هذه حقيقة بسيطة. وليس من العدل في شيء، أن نطالبَ المقتولَ بدفع الدية للقاتل، أو بمسامحته، بدافع أننا ننشد السلام!
قرأتُ ذات مرة مقالًا عجيبًا كتبه “أدونيس”، عنوانه “غاندي لا غيفارا”، فلم يعجبني قط. قال في مطلعه بأنه معجَبٌ “بشخص غيفارا، بحضوره الجمالي، بحبه للمرأة والحياة”. ولكنه ليس معجبًا “بالطريقة التي اتبعها غيفارا في العمل التحرري”. لأن هذا الشاعر المُفكِّر يرفض “العنف بأشكاله جميعًا. مهما كانت أهدافه. مهما كانت مسوّغاته. سواء كان فرديًا أو جماعيًا”. ثم قال “تحرريًا، أفضّل غاندي: رؤية، ومنهجًا، وممارسة”. فالحرية، بتعبيره، لها كذلك سلاحها، وهذا السلاح هو “السلام”. وبمجرد أن يلبس هذا السلاح رداءَ العنف، ينقلب عدوًا للحرية نفسها… كذا يقول تمامًا. ونقرأ في ختام مقاله قوله: “أكرّر: نعم، نحن في حاجة إلى غاندي، لا إلى غيفارا”. وأنا شخصيًا أعارضه بشدّة. وخلافًا لقوله أقول: أعداؤنا في هذه المنطقة لا ينفع معهم كفاح ألف غاندي، كيف لا وهم كل يوم يغتالون كلَّ من يحاول انتهاج الغاندية ضدهم، بل ويسحقون بسلاحهم كل من يعترضهم ولو بكلمة عفوية لم تعجبهم. ولذا، فإننا في أشد الحاجة إلى غيفارا، وإلى روحه الحقيقية، وإلى جميع وسائل وأساليب الكفاح الغيفاري. أمّا غاندي فسوف يُقتَل أو ينهزم بسرعة، لو حاول فقط أن يرفع صوته في وجه جندي إسرائيل يؤمن بأنه وحده على حق، وأن كل ما عداه فعلى باطل!
بما أن القضية الفلسطينية عادلة، فإنها لن تنتصر إلا بالكفاح السلمي، لأن الكفاح المسلح يلطّخ وجهها الأبيض ويبعد عنها المتضامنين معها. القائلون بهذا أو هكذا، يا سلام عليهم! حتى المجنون لن ينطلي عليه منطقكم الخفيف هذا. قولوا هذا لطفل فسلطيني محروق، واستعدوا لأن يلعنكم وهو يُقهقِهُ بغضب! ومثلًا سيرد عليكم قائلًا: المرأة تحبل من المضاجعة وليس من مجرد المداعبة. هذا هو الفرق بين الكفاح المسلح والكفاح السلمي. والذي لا يستوعب دروس التاريخ، يبقى خارج التاريخ بائسًا مهزومًا. والتجرية تقول للمظلوم بكل إقناع: ما أخذوه منك بالقوة، استرده منهم بالقوة. وقد قالها الزعيم الخالد جمال عبدالناصر. وهذا الكيان الصهيوني المتغطرس سرق أرضًا ليست له، اغتصبها اغتصابًا، بالحديد والنار وأمريكا وتوابعها، وقتلَ وعذّب وهجّرَ ملايين من أهل هذه الأرض، ويقمعهم هذه الأيام في عدة شوارع هناك، ويخنق مظاهراتهم من جميع الجهات، يرعبهم بجميع وسائل العنف، ويقصف قطاع غزة بطيرانه الحربي، فيقتل المدنيين بلا هوادة، ويهدّد باجتياح غزة بقواته الجوية والبرية والبحرية والأساطيرية، فما أوسخه! ومع كل هذا، تطلبون من الفلسطيني أن يقاومه بالموسيقى والدبكة والطرق السلمية؟ آهِ منكم! هذا الموقف هو الظلم بعينه.
بالصراخ وإصدار البيانات المتشنِّجة الطنّانة، فحسب، لا يكون النصر. ولا يكون بالهتافات والقصائد والورود. ولا يكون بالكفاح السلمي وحده. لن تنتصر فلسطين إلا بالعمل التحرري الموحَّد المسلّح، الممنهَج ذي النفَس الطويل. فلسطين ستنتصر بقوة الحق والإرادة والسلاح، وليس بضجيج الشعارات المكرّرة والتصفيق وخطب المساجد.
في المعارك المصيرية، لسنا بحاجة إلى الكفاح السلمي، بل إلى الكفاح المسلّح المكثّف الشديد. وهذه هي معركة الفلسطينيين الأحرار مع الصهاينة الغاصبين. إنّ المقاومة الفلسطينية إذا سلكت طريق النضال السلمي ستفقد كل شيء. على الفلسطينيين أن يستوعبوا هذه الحقيقة. ومهما يكن، فليس الكفاح السلمي بأجدى من الكفاح المسلّح.
الحقيقة أنني أكره جميع أشكال العنف. غير أنني لا أعترض على الكفاح المسلّح إذا كان بدافع الضرورة الإنسانية والحضارية وتحقيق العدالة. العمل التحرري السلمي لا ينتصر أبدًا إذا كان يواجه عدوانًا متوحشًا، كهذا الاحتلال الصهيوني البغيض. إن العدو الهمجي لا يحترم قواعد الكفاح السلمي ولا يعترف بنتائجه. عدو كهذا، لا يرحم خصمه الضعيف، أو المُسالِم، وإنما يسحقه بأقدامه عندما يجد فرصته.
الكفاح قول مصحوب بفعل. إنه حركة دؤوبة قوية وسريعة على أرض المعركة وجهد متدفِّق. إنه كر وفر، دون كلل ولا يأس. الكفاح بالكلمة وحدها، ليس كفاحًا حقيقيًا، لأنه يفشل أمام العدو العنيف. الكلمة الحُرّة، ومهما كانت، فلا تحقق هدفها على أرض الواقع، إذا لم تكن لديها قوة سلاحيّة تحميها وتسندها من الظهر. هل رأيت في حياتك كمانًا يتصدّى لبندقية تهجم عليه، ويكسرها؟ وهل المعزوفة أقوى من القنبلة؟ في الحرب تنتصر القبضة القوية الواقعية، لا الفكرة الخيالية الخاوية.
عندما يحتدم الصراع بين كفاح سلمي وكفاح مسلح، فإن النصر، في أغلب الأحوال، يعانق السلاح. ولا يوجد صراع نظيف، يخلو من الدماء والدمار، فتّش في جميع صفحات التاريخ، فلن تجد أمامك سوى ما يرعبك! لكن المقموع المدافع عن نفسه، عليه أن يتحمل المسؤولية وحده، هذا هو عهر التاريخ!
وأخيرًا، هذا هو الواقع. وخذوا الحكمة المكثَّفة من لسان شاعرنا الوطني سلطان الصريمي:
والذي لا يصفي حسابه مع ظالمهْ
أو يصدّق بأن المسامِحْ كريمْ
مات من غير ثمنْ!