- رستم عبدالله
بعد أن صارت حديث الناس وشغلهم الشاغل وحيك حولها الأساطير.والحكايات.. و لاكتها الألسن كثيرا ..إنها حكاية العم محمود وصفعاته الجهنمية الرنانة ..هكذا صارت حديث كل القرية ذلك الكهل الظريف ابن البلد الشهم والأصيل الكريم والنبيل وابن النكتة ،اللطيف، حلو المعشر ونديم الجليس .وذلك بما يتمتع به من دماثة خلق وطيبة شديدتين تصل لحد البلاهة ..لكن كانت به خصلة مقيتة ومذمومة لم يستطع التخلص منها إطلاقاً ولطالما جلبت له المتاعب وأوقعته في المشاكل والورطات العويصة هي سرعة غضبه عندما يستفز وليت الأمر يقف عند مجرد الغضب لكان مقدوراً عليه ولكنه يتبعه بصفعة مباغته ومدوية من يده اليسرى السمراء الخشنة والمعروقة، ترتسم حقول أصابعه الخمس في وجه ضحيته لعدة أيام أخاديد محمرة ومتقطعة يترنح من شدتها وتصطك منها أسنانه ويرتجف جسده كالحلاوة الصوري ،ومنهم من يصاب بالحمى ويلازم الفراش لأيام.. وحالة واحدة نادرة لإمرأة إبنه شهدت إغماء فضلاً عن ذلك الدوى الذي تحدثه كطرقعة المتفجرات ،وقبل أن يستوعب أيا من الحضور الذين يصادف وجودهم مكان الصفعة يكون قد اختفى كفص ملح وذاب في الماء، وقبل أن يتمالك القوم أنفسهم ويجتمعون ويقررون لاتخاذ إجراء تأديبي بحق العم محمود ،حسب مايقتضيه العرف السائد في القرية ،يكون هو قد سبقهم وهو يقود كبشاً مقرناً يجرجره خلفه على استحياء وقد أستعاد طبيعته الخجولة الطيبة وينادي، من تحت أسفل دار المصفوع “أنا غلطت وهذا مقصدي, وذات مرة ،بعد يوم شهد مراسم الاعتذار والتسامح لأحدى صفعاته الشهيرة وبعد أن بلغت حدا التحول الى ظاهرة وعادة وصار كل شخص في القرية يحسب لكلامه ألف حساب ويراجع كل كلمة تخرج من فمه في حضرة عمنا محمود، وصارت الوجوه تخشى على نفسها أن يحرثها بتلك الأصابع الغليظة الرهيبة ،وقد شارفت زريبته على النفاد من الماشية ..قرر شباب القرية أن يذهبوا ليلة الجمعة للسمر عنده وسؤاله عن تاريخه في الصفع ،ومتى أتقن هذه العادة السيئة وبعد العشاء بقليل كان شباب القرية يغذون السير تحت قبة الليل ،ينشدون دار العم محمود وكان أول الواصلين هما فؤاد ومنير اللذان أخذا يصفران بنغمة معينة اشتهرت عنهما ويعرفها كل القرية وأطل العم محمود برأسه من غرفة المفرج التي تحتل الدور الأخير في الدار بكوفيته الزنجباري التي أكل العرق نصفها مرتدياً فانيلا بيضاء ممسكا بيده قصبة المداعة* التي أخذ يجر منها نفسا..قبل أن يصيح بصوته الجهوري الأجش ..أدخل الباب مفتوح دفع الأصدقاء الباب الخشبي الأحمر العتيق والضخم الذي أصدر أنيناً وصرير مزعجاً وتدفق خمسة عشر شاباً وآخذو يرتقون الدرج الحجري المستدير والحلزوني بلهفة ومرح والذي يوصل الى المفرج في علية الدار مجتازين عددا من الغرف والسراديب ،حتى استقر بهم الأمر في غرفة المفرج أو الديوان الطويل والضيق فتحو ربط القات وبدأت الأيدي تعمل فيها والوجنات تمتلئ بالعشب الأخضر الطري وتستدير ,وهناك سأله أحدهم لو تكرمت ياعم محمود ممكن تقول لنا متى تعلمت الصفع؟ تبسم العم محمود وأصلح من جلسته وأخذ نفساً طويلاً من أنبوب المداعة الممتد أمامه كثعبان كسول بعد زرد فريسة دسمة واستطرد هي حكاية قديمة تعود لأيام الشباب حيث ذهبت أنا وقاضي القرية الحاج عبده إلى صيد العقاب بالهيجة *البيضاء وهناك بدأنا نبحث عن طيور العقاب كانت منتشرة بكثرة حيث كان موسم تواجدها الأمر الذي يبشر بصيد وفير ولكن ! كما يأتي الحظ الطيب يأتي معه الحظ العاثر حيث حصل مالم كن بالحسبان ونغص علينا رحلة الصيد التي كانت قد كللت بالنجاح واصطدنا عدد من طيور العقاب والاوبار البرية وكنا نهم بمغادرة الهيجة لولا أن رأى القاضي عبده طائر عقاب ضخم بني اللون لم نرى له مثيلاً من قبل وكان يعطينا ظهره ومطرقا للتربة يبحث عن رزقه ونصب القاضي البندقية التشيكي فوق صخرة منخفضة وعندما أطمئن تماماً من وقوع الطائر في مرمي البندقية ضغط الزناد وسمعنا صوت إرتطام الرصاصة بجسد مكتوم ولأن مهمتي جمع الصيد انطلقت بسرعة البرق وعندما وصلت إلى حيث من المفترض وجود الطائر صريعاً صعقت وألجمت المفاجئة لساني وجف لعابي من هول مارأيت، لقد رأيت! وتوقف العم محمود عن ألحكي كمن يريد أن يلفت الشباب إلى هول ما شاهده ويشاهد وقع الأمر عليهم وبدأ يحشي فمه بأوراق القات ويرتشف جرعات من الماء اتبعها بشرب فنجان قهوة واخذ يجر عدة أنفاس من المداعة وسط صمت الجميع إلا من قرقرة المداعة التي أخذت تصدر أصوات مرعبة أشبه بحشرجة شخص يحتضر، واستطرد: صعقت وتملكني الخوف والرهبة حيث شاهدت نسناساً صغيرً يتخبط في دمائه ويرنو إليا بعيون ذابلة بدا بريقهما يخفت وفي داخلها توسل واستعطاف لي أن أنقذ حياته وبدا وجيب قلبي يرتفع حيث كان النسناس بتصرفاته أشبه بطفل من البشر لا قرد صغير وصرخت بأعلى صوتي يا عبده هذا قرد صغير مصاب وليس عقاب فلم يصدق وأشار لي الخبيث بيده أن ارفعه للأعلى ليراه، وقبل أن أخذه بحنان بالغ وتأنيب ضمير انشقت الأرض عن حلقة جهنمية حولي من عدد من القرود لايقل عددهم عن الخمسين وقبل أن استوعب الأمر أو حتى اصرخ طلبا ً للنجدة لم أدري إلا وعشرات الأيادي البشعة والمشوهة ذات الشعر الخشن والرائحة العطنة الغريبة تنبعث منها تنهال عليا صفعا بالوجه والظهر والرأس كان مهرجاناً للصفع بمعنى الكلمة منظموه أقبح وأكره الحيوانات على وجه الأرض أخبث ما خلق الله وكنت خائفا جدا من أن يتهوروا ويقدمون على أعمال شيطانية معيبة ومخجلة إذ طالما سمعت بطفولتي عن أفعالهم الدنيئة من عجائز القرية ,وقبل أن يغمى عليا من وطأة الصفع أخيراً جاء الفرج على شكل طلقة مدوية أطلقها القاضي عبده في الجو وحينها لاذت تلك الرباح اللعينة بالفرار وقد أخذوا جريحهم المدبر معهم وقد تلاشى كل اثر للرحمة والشفقة عليه من قلبي لم تكن تلك الصفعات كالتي تتلقوها وتشاهدوها مني اليوم كان وقع أياديهم كالمطرقة بوجهي وجسمي وتطلع صوت قعقعة قوية تعكس صدى في الجبال المحيطة بالهيجة وتورم وجهي وامتلاء جسمي بالرضوض كانوا أشبه بآلة صفع قردية ويصفعون بإتقان وضمير متآزرين في عملهم دون تقصير وكانوا إذا تعبوا يتناوبون الصفع يقعد القرد الذى كلت يده من كثر الصفع ليحل محله آخر قد نال قسطه من الراحة تماما كما تشاهدون هذه الأيام في مباريات كرة القدم من تسليم كل لاعب لزميله عندما يجهد وقد نال إعجابي أدائهم الباهر وبطريقة عملهم الإدارية المنظمة وكان لديهم عيلوم يقوم بتنظيمهم كأنه مدرب فريق اولمبي أربعة أربعة أثنين واحد ومنذ ذلك اليوم العجيب استقرت في نفسي رغبة عارمة للصفع خاصة وقت الغضب وأول صفعة وجهتها في حياتي للقاضي عبده لتأخره في حشو البندقية وتخليصي من براثن القردة المتوحشة – مر الليل سريعا وانفض السمر وضحك الشباب حتى الثمالة واغرورقت عيونهم بالدموع من شدت الضحك وبقيت حكاية عم محمود من أعجب ماسمعوه في حياتهم وهم بين مصدق ومشكك في تلك الصفعات
*(1)المداعة نارجيلة للتدخين من صنع محلي يتم صنعها من الاستيل والنحاس مخروطية الشكل ولها فتحة بأعلاها لوضع التبغ المحترق وآخري بأسفلها لتدخينه وجره بواسطة أنبوب وقاعدتها عريضة عبارة عن دورق به ماء لتخفيف حدة الاحتراق
*(2)الهيجة هي الفرجة بين نتوئين من جانب الجبل ومسقط من مساقط السيل التي تنحدر إلي الوديان وهي كثيرة الأشجار وقد تقام على جانبيها المدرجات الزراعية وتكثر فيها الطيور والحيوانات البرية والحطب.