- ضياف البراق
الحروب تندلع وتنتشر وأنتِ تركضين في رأسي، تركضين تحت جِلْدي، تركضين في فصول يقظتي الواسعة لأنني لا أنام، تتهرّبين كثيرًا من أخطائي في كل مكان، تغلقين النوافذ القليلة وتسدلين الستائر الكثيرة وتشنقين نفسكِ بنبضي المُلتهِب جنونًا.
لم يَرَني وجهي وأنا أرسمه على جداركِ الرمادي الطويل. باسمكِ أعشق رماديةَ الموتِ، وأغرقُ في أصواتكِ الداوية داخلَ قلبي. لم يرني الموت وأنا أرسم وجهكِ على وجهي القَلِق. الموت أعمى، ولكنّ مخالبه تمتدُّ إلى كل شيء بدقّةٍ متناهية. بالرسم أتخطّاكِ وأتخطّى نفسي. بكِ أتخطّى انفعالاتي وانزلاقاتِ الوجود. أرسمكِ هنا بنكهةِ السجائر، وأغسلكِ هناك، من خطايا جسدي، بهواءِ الكلمات الساحرة. جميع أصدقائي ماتوا في هذه الحرب ولم يبقَ لي سواكِ. أنا مِتُّ أيضًا، ولمْ يبقَ لي مِنّي سوى هذا الصراخ الفاتر يناديكِ إلى الحرية في الحب، إلى الحياة في الموت. أبني من تجليّاتكِ قلعةً دافئةً وأختبئ فيها من الأمس والغد والآن. أخاف على وجهي مما أكتبه عن الموت، وأخاف عليكِ من تقلّبات وجهي وقتَ شعوري بالخوف. أعرف أن الموت لا يحب الحِيادَ، وأنّ الحيادَ يزيدنا موتًا. أكره الحياد وأحبكِ، أبتعدُ عنه لأقتربَ منكِ.
لا تنغلقي عليَّ، إنّكِ تعرفين أنني مدمن على التمرد والرفض، أنني لا أستقر على شيء؛ أعشق الانقلابات الكبرى ضد لا منطقية هذا الوجود. أنا لستُ عدميًا ولن أكون عدمًا، ولكنني أرفضُ وجودًا أصغرَ من حبي لكِ، أرفض وجودًا يصير شبحًا قاسيًا يتلهمنا مع الزمن، أرفض عالَمًا يكرر الأخطاء نفسها يومًا إثْرَ يوم، أرفض تشيّؤ العالَمِ، كما يحدث الآن، أرفضُ المُستقبَلَ خاليًا من العذوبة. سأقف ضد كل شيء، وأحبكِ حتى أصير رمادًا. أنتِ تخافين العدم وأنا يُخيفني جمالكِ العميق مُتفجِّرًا في أعماقي الضاربة في هذه الهاويةِ القاتلة. يُخيفني أن تظلي مسحوقًة هكذا حتى النهاية. أخافُ ذوبانكِ في خَوائي البليد، ولا أخشى سقوطي واندثاري تحت أقدامكِ الطاهرة.
لا تخافي، أنا لطيف جدا، ساحر إلى أبعد مسافة، سريع القفز والمناورة في المناطِق الخَطِرة، ولكنّي لا أموت بسهولة، لا أتطحلب في القيعان، لا أذوب في الفناجين، سأقتلكِ طويلًا بضجيجي الخاص، سأجعلكِ تكرهين الحياة، ستكرينها بكلِّ حُبٍّ، لن تعشقي شيطانًا غيري، سأجعلكِ نوَّارةً ساطعةً بالضوء، على الدوام، أو شيطانةَ تنضح بالعطر والعذوبة، سنحطّم الأصنام معًا، سننسف أكاذيبَ التاريخِ وندفن الأشباحَ في طريقنا إلى الأبدية، في عروجنا الانقلابي إلى قمة لا شيء.
ها أنتِ تُطفئين احتراقي بماء روحكِ، تنطفئين قليلًا ثم تصرخين: لا تقرأ شوبنهاور، لا تقترب من نيتشه، لا تقرأ سيوران، لا تأخذ من بيكيت، لا ترقص مع سارتر… لا تصدّقهم، لا تساير أمثال هؤلاء العدميين، الشعراء خصوصًا، لا تأخذ الحياة من أفكارهم، ولا تأخذني معك إلى أصواتهم العالية، أريد البقاء معكَ وحدك، كُنْ لي نهارًا صافيًا طوال هذا الظلام. لا حبيبتي، هؤلاء أنبياء لا يكذبون، هؤلاء ليسوا عدميين، هؤلاء هم منافذنا الوحيدة المُمكِنة للخروج من مأزق هذا العالم الخانق، فكيف أتخّلى عن الهواء النقي! إنّكِ إذ تحدثينني عن السعادة، يزداد احتراقي الحزين اشتعالًا، وتزدادُ الحياةُ انغِراقًا في العبث.
تقفين على أوّل السطر كشجرة شاهقة، تسبحين في آخرِ الكلمةِ كسمكة. أحفرُ وجهيَ في صميميّة الموت، وأحفرُ وجهكِ في لحم حقيقتي. أُسمّيكِ بما لا أعرف، وأذهب إليكِ من دون اسم. آخذكِ من أول الحياة إلى آخرها، وأرتمي فيكِ كطفلٍ يرتمي في بحرٍ مائج. أغمّس وجهكِ في هشاشتي، ثم ألتهمه ولا أشبع. أذهب معكِ إلى المجهول، ثم أشربكِ من التعب ولا أرتوي. أعشق فيكِ جنونَ الوقتِ واقترانَ اليأسِ بالأمل. أُخبّئكِ في صمتي من الموت، موتي الشاسع، أمنحكِ الضوءَ والفرحَ وجميعَ الجهات، وأذوب تحت لسانكِ كقطرة ندى مفعمة بالفرح. أمنحكِ كلَّ اسمي وأطير عاليًا فوق أنهاركِ بلا أجنحة.
قولي لي “أحبك” من أعلاكِ إلى أسفلكِ، ومن أقصاكِ إلى أقصاكِ، بهذه الكلمة العميقة ضمّيني إلى شهوتكِ الدافقة لأموتَ تحتكِ كثيرًا وأحيا فوقكِ كثيرًا، أغرقيني في معانيها لأسكرَ وأنمو، قوليها لخوفي دائمًا، ادفعيني بها إلى الأمام، اجعليني قويًا مثلها إلى آخر العمر، انتشليني كاملًا من هذا الخوفِ الساحقِ، من وحول الماضي اللعين، تنفَّسيني عميقًا لأعيشَ بتجدُّدٍ أسطوريّ، أنتِ انتصاري التاريخي على هذا العدم المتزايد، انتصاري الوحيد على نفسي الخائرة، انتصاري الحقيقي على كل شيء.