- كتب: محمد ناجي أحمد
صورة إبراهيم الحمدي كما تتشكل في “محطات” سلطان أحمد زيد:
من مداد الجرح الفاغر بحجم زنزانة الأمن الوطني حين تم اعتقال صاحب “المحطات” في فبراير 1976م، وقضى فيه قرابة ثمانية أشهر، وبرماد عقب سيجارة “محمد خميس” التي أطفأها في رأس “سلطان أحمد زيد” ومن ضيق الزنزانة وظلمتها التي لا يُستبان فيها زمن ولا ملامح ضوء تتسع الذاكرة بالألم الشخصي لتكون هذه المحطة آلية من آليات الاقتصاص عبر الذاكرة من منظورها الناطق وصمت الخصم.
من كل ذلك يخط “سلطان أحمد زيد” ويرسم منه صورة لإبراهيم الحمدي مغايرة لما كتبه الآخرون عنه في ضفافهم المختلفة.
فإبراهيم الحمدي بحسب المؤلف يمثل الجناح الأكثر رجعية في نظام الرئيس عبد الرحمن الإرياني، والعمل التعاوني “الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير” ليس سوى “بهرجة خطابية” يدار بأجهزة الاستخبارات ” ولكن دون رؤية أو خطط برامجية” فلقد كان الرئيس-بحسب المؤلف- “يهدف من خلال انعقاد المؤتمر التعاوني “تعويم” أعماله بخطاب سياسي وإعلامي مضاد لتبلور الوعي الوطني الجديد المتشكل حينها بتأسيس وإطلاق مسمى التحالف الوطني الديمقراطي “الجبهة الوطنية الديمقراطية”. و “لجان التصحيح المالي والإداري” يتحكم بها جهاز خميس. فبحسب المؤلف “اللجنة العليا للتصحيح وكذا اللجان الأساسية للتصحيح، تم التحكم برسم تحركاتها وأعمالها من قبل أجهزة خميس، ووجهت أنشطتها السياسية والإعلامية في عداء الحركة الوطنية”.
مع عودة “سلطان أحمد زيد” من موسكو إلى صنعاء عام 1971م والتحاقه بوظيفة في معهد الإدارة العامة والسكرتارية “المعهد القومي للإدارة العامة” لاحقا- تبدأ محطة جديدة من محطات هذا الكتاب.
يرسم صاحب “المحطات” صورة قاتمة لإبراهيم الحمدي “في تلك الفترة الحرجة كان جهاز الأمن المتكفل بحماية النظام برئاسة إبراهيم الحمدي، وكان “محمد خميس” “أحد أبرز الوجوه الحاضرة في إدارة ذلك الجهاز، ويطلق مظاهر صلفه وعنجهيته البوليسية حد الرعب”.
لم يكن إبراهيم الحمدي في عام 1971م رئيسا لجهاز الأمن، وإنما وقتها كانت صفة العقيد إبراهيم الحمدي نائبا لرئيس الوزراء للشئون الداخلية، بما يعني أن “محمد خميس” وجهاز الأمن الوطني يندرج ضمن السلطات الإشرافية لإبراهيم الحمدي، فقد كان الحمدي هو من رشح “محمد خميس لرئاسة الجهاز. وربما كان اسمه وقتها “الأمن القومي”.
“في نادي الخريجين” الذي أسهم صاحب “المحطات” في تأسيسه، وتم اختياره في لجنته التحضيرية التي شملت “عبد القادر السنباني، سلطان أحمد زيد، ومحمد الشامي”- كان الذهاب إلى وزير الثقافة “عبد الله حمران” لأخذ التصريح للنادي الذي اختاروا له اسم “اتحاد” لكنهم اصطدموا بوكيل وزارة الثقافة حينها “الكبسي” لم يذكر المؤلف اسما للكبسي مكتفيا باللقب، وربما المقصود هو “إسماعيل حسين الكبسي الريمي” الذي توفي قبل سنوات. ويصفه المؤلف قائلا :”أتذكر وكيله “الكبسي” الذي لا تستطيع تعريفه بشيء سوى كونه تعبيرا “كاريكاتوريا” وفي أحسن الأحوال “أحفورة” ناطقة تسير على قدمين قادمة هرولة من زمن الارتكاس إلى مغطس “خميس”. اعترض “الكبسي” على تسمية “اتحاد” كونها تسمية شيوعية حسب رأيه، فقد زار ألمانيا ووجدهم يستخدمون هذه التسمية هناك !ّ فتم تغيير الاسم إلى “نادي الخريجين”.
ومن دور النادي في المطالبة برفع الرواتب إلى موقفهم الرافض لإخصاء الشهادات وتخفيضها للخريجين القادمين من منظومة الدول الاشتراكية، فـ”لجنة المعادلات” التابعة لوزارة التربية والتعليم كانت “تحت مسؤولية وإشراف رموز أصولية متشددة كـ “الصباحي، وعبد المجيد الزنداني”.
في عنوان فرعي “أبو لحوم يشد قميص الحمدي” يتحدث المؤلف عن انعقاد المؤتمر الثاني للخريجين، في نهاية عام 1974، وكانت أجهزة الأمن قد اعتقلت عضو النادي عبد العزيز محمد سعيد الأغبري، وفي كلمة رئيس النادي طالب “سلطان أحمد زيد” بإطلاق سراح عضو النادي عبد العزيز الأغبري، وقد حضر المؤتمر الرئيس إبراهيم الحمدي ومحسن العيني رئيس الوزراء وسنان أبو لحوم “حينها التفت العيني إلى الحمدي، وقال له : اكسب الخريجين وأطلق سراح المعتقل عبد العزيز لا تفضحونا، فقام الحمدي واتصل بمحمد خميس، آمرا بإطلاق سراح المعتقل عبد العزيز فورا، وبعد شد وجذب مع خميس، وافق على إطلاقه…”
وفي 28سبتمبر 1977م تم اتخاذ قرار وزاري من الشئون الاجتماعية والعمل مُوقّعا من نائب الوزير بإيقاف النادي ومصادرة ممتلكاته. عند العودة إلى القرار المرفق في وثائق الكتاب نجده يبرر ذلك بـ “توقف نادي الخريجين عن مزاولة نشاطه وفقده لصفته القانونية”.
يبدو أن قصة العنوان “أبو لحوم يشد قميص الحمدي” قد سقطت من متن الكتاب عند تحريره وتحويله من حوار إلى سرد بضمير المتكلم، ومن دلالة العنوان نستطيع أن نؤول الحكاية ونملأ ذلك الفراغ بأن سنان أبو لحوم طلب شيئا من الحمدي أو لفت نظره لشيء ولكن من خلال لغة شد قميصه، فقد كان الشيخ سنان أبو لحوم يرى في نفسه بأنه القائد الفعلي للانقلاب على الرئيس عبد الرحمن الإرياني، وكان تقييمه للحمدي حين أراد سنان أن يقنع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر أن الحمدي شخصية ضعيفة ويمكن تغييره في أي وقت، كما يشير إلى ذلك الشيخ سنان في مذكراته.
يرى المؤلف ان السلطة ضاقت بنشاط نادي الخريجين “ليس فقط من قبل جهاز الأمن التابع لمحمد خميس، حسبما جاء في مذكرات محسن العيني “خمسون عاما من الرمال المتحركة” بل شارك في رسم حبال ودوائر ذلك الضيق والإجراء السياسي القمعي كل المشائخ وضباط الجيش، بحجتهم المطروحة دائما :هؤلاء شيوعيون.” وبدلا من تشجيع مثل تلك الاتحادات والأندية حتى يتم تعريف الناس بمهنهم وفرديتهم، كان الإغلاق، ليكون التعريف “من خلال تمثلاتهم الأسرية والقبلية والجهوية”.
وعن حرب 1972 بين شطري اليمن يرى المؤلف أن “الحمدي هو المتحمس الأول لها، وبدعم من السعودية، التي أوعزت للمشايخ ورجالها بغزو عدن”.
لكننا نجد اللواء “حسين المسوري” في مذكراته التي تنضح انتقاما وحقدا على الحمدي لاستبعاده من قيادة حركة 13يونيو، وتعيينه سفيرا في مصر- يتحدث عن الحمدي ويصفه بانه تخاذل وتواطأ مع سالم ربيع علي حين التقاه في قعطبة، وان الحمدي كان سببا في هزيمة حرب 1972م.
قرار الحرب كما هو معلوم أصدره قوى المشيخ من خلال “مجلس الشورى” حين قرروا ضم الجنوب بالقوة. وفي مذكراته “ذاكرة وطن” يشير الرئيس علي ناصر محمد إلى أن عبد الله الراعي سجل محضر الجلسة وأرسله بشريط كاسيت إلى القيادة في الشطر الجنوبي، وقد استلمه علي ناصر محمد الذي كان حينها رئيسا للوزراء. ويذكر الشيخ سنان أبو لحوم في مذكراته أنه كان يوزع أموالا على الضباط والمشايخ مرسلة من السعودية مكافأة لهم على خوضهم الحرب، وأن إبراهيم الحمدي الوحيد من الضباط رفض أن يستلم المبلغ المخصص له مما اضطر سنان أبو لحوم إلى أن يعطي المبلغ بعد اغتيال الحمدي لأخيه.
في كتابه “محطات حياتي” للأستاذ حسين علي الحبيشي بجزئه الثاني- يصف الرئيس إبراهيم محمد الحمدي بأنه كان متحررا من العقد التقليدية، ربما أكثر مما هو مطلوب، وكان معدا للحكم منذ رأيته مديرا لمكتب الفريق العمري. ورأيه هذا يتوافق مع رؤية الأستاذ أحمد قاسم دماج بخصوص جاهزية الحمدي و قدراته للقيادة وثقافته ووطنيته، وكذلك رؤية يحيى المتوكل عن طموح الحمدي وعاطفته، ومذكرات محمد عبدالله الإرياني التي تصف الحمدي بأنه ليس دمويا ولا من صفاته الغدر. وكان الحمدي بحسب مذكرات حسين الحبيشي يحترم الرئيس عبد الرحمن الإرياني، وكان نشيطا في قمع تمرد ( 68 أغسطس).
أصدرت فصائل اليسار بيانات تندد فيه بما وصفته “انقلاب 13يونيو 1974” الرجعية، ووصفت الحمدي بشرطي السعودية، وأن هذا الانقلاب يمثل الجناح الأكثر رجعية في نظام 5نوفمبر1967م. لكن العديد من قادة اليسار قد كتبوا بأثر رجعي عن قيادة الرئيس إبراهيم الحمدي بأنه كان يريد بناء دولة يمنية حديثة لكن من حوله من الضباط الذين قربهم لم يكونوا مع مشروعه الوطني، على طريقة “بناء الاشتراكية بدون اشتراكيين”.
إلاَّ أن صاحب “المحطات” “سلطان أحمد زيد” لا يرى في ذلك النظام سوى زنزانة “محمد خميس” و”عقب السيجارة” الذي أطفأه في رأسه، و”استبدادية” و”رجعية” بل و”انتهازية” “إبراهيم الحمدي” الذي قام بحسب المؤلف بـ “بانقلاب رجعي مدَّعم من دوائر النظام السعودي” وإذا كنتُ قد كتبت عديد مرات بأن إبراهيم الحمدي وحركة 13يونيو 1974 خرجت من معطف الشيخين سنان وعبد الله بن حسين الحمر وبقرار سعودي إلاَّ أن تحرك إبراهيم الحمدي من الممكن السياسي في التحالفات إلى صناعة المشروع الوطني وتأسيس مداميك الدولة الوطنية الحديثة كان هو المستحيل الذي أراد اهتباله من بين مخالب الرجعية، وتلك مغامرة ثورية لا يقوم بها إلا من وهب روحه للوطنية اليمنية.
لقد كان نهج الحمدي سواء في الحركة التعاونية أو إعادة بناء الجيش والأمن أو لجان التصحيح المالي والإداري او التخطيط الاقتصادي والتنموي، سواء باستكمال الخطة الثلاثية أو الخطة الخمسية، أو السير بالخطوات الوحدوية، وأمن البحر الأحمر كشروع في جعله بحيرة عربية السيادة، أو تنديده بنهب الدول العظمى ثروات دول العالم الثالث أو السير في طريق الحياد الإيجابي والمشروع التنموي لدول عدم الانحياز.- كل ذلك كان نهجا ثوريا بمقاييس الممكن الوطني آنذاك والاندفاع نحو تحقيق المستحيل بإرادة وطنية ساطعة.
وقد انعكست تلك الروح الوطنية في الفضاء العام، في القرى والمدن، واستطاع الحمدي ان يجعل أهل المدن أكثر انتفاضة وحزنا على موته، حين اندفع الناس إلى الشوارع في تعز وصنعاء والحديدة منددة بقاتله، بل وقذفت رأس قتلته بالأحذية.
تظل صورة “إبراهيم الحمدي” كالحة بالاستبداد والرجعية في “محطات” “سلطان أحمد زيد” وحين يريد أن يخرج من هذا الإطار “الزنزانة” المغلقة “بعقب سيجارة خميس” لا يجد سوى القول بأن طريقة اغتيال الحمدي تجعل من الحمدي شهيدا “فطريقة تصميم مخطط التآمر الذي بموجبه تمت تصفية الحمدي، بتلك الدرجة الهائلة من الدناءة والرخص، يحق لشعبه أن يعده شهيدا وطنيا”.
لا تتسع “محطات” “سلطان أحمد زيد” للحديث عن أجهزة القمع وزنازين الأمن الوطني والاغتيالات والاخفاءات القسرية وعسكرة ومشيخة الوظيفة العامة طيلة عقود ما بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، سوى بضع عبارات مجملة وذات صياغات عمومية. فالذاكرة التهمتها زنزانة محمد خميس وعقب سيجارته.
حين تكون الكتابة داخل إطار الألم والمظلومية الشخصية فإن هذا المنظور أراه مبررا ومتفهما ومفهوما، من واقع ان زنازين القهر تلتهمنا حين تتلذذ بسحق آدميتنا، في المعتقل الضيق وفي والوظيفة العامة وفي الفضاء العام، والقلة النادر هم أولئك الذين حرروا أنفسهم من اعتقال الذاكرة وضيق دائرة ضوئها المحجوب بظلام السجن- نحو الكتابة الضوئية واسعة المدى والتي تهدف إلى “تنوير الأجيال” كهدف أراده المؤلف في “محطاته” في مقاربة أظنها لم تصل لغايتها فذلك يحتاج إلى رحَّالة متخفف من الألم الشخصي ومترجم له إلى نور تستضيء منه الأجيال في سيرها نحو أفق إنساني يحيا فيه الناس مواطنين، قيمتهم بإنتاجهم وجهدهم لا بمصادرة قوت الناس وقدرتهم وكفاءتهم وملكيتهم لشغلهم وإبداعهم.
يتحدث المؤلف “سلطان أحمد زيد” في محطاته هذه عن شيوع ثقافة التخوين والارتياب والتخوين، كنتاج لسلطة القمع والمطاردات ” ولعب قرار الكفاح المسلح من قبل المقاومين الثوريين والحزب الديمقراطي دورا سلبيا. كان لذلك العمل دوره في عرقلة نمو العمل السياسي، وهز النضال في الداخل، وكان من يتعرض للمطاردة في الشمال لا يجد سوى الهرب إلى الجنوب.. أسوأ من ذلك كان كل شخص منَّا يرتاب من الآخرين بسبب بذر عوامل التفرقة من قل أجهزة الأمن وسماسرة الليل.”.
يكتب قادة فصائل اليسار باثر رجعي موقفا ناقدا لخيار الكفاح المسلح، وكذلك بما يتعلق بتوحيد الفصائل في الحزب الاشتراكي اليمني، ويراه بعضهم بأنه توحيد قسري أسهم في إلغاء التعدد السياسي وتنوع أشكال النضال، لكنهم حينها كانوا منخرطين في مسار الكفاح المسلح وفي مسار توحيد الفصائل في حزب واحد ووحيد. أي مسار الضم والإلحاق في دولة الشطر الجنوبي من الوطن، وفي نفس الوقت انتقاد استبداد الشمال، وغض الطرف عنها في الجنوب. وقد أشار المؤلف إلى هذه المفارقة في نقد الاستبداد في شطر والسكوت عنه في الشطر الآخر.
إن انتهاج العنف العدمي بشكل فوضوي ومنفلت ومستعل عن الواقع وممكنات تحوله وقواه- رغم اتكائه على منطلقات ثورية على المستوى النظري والنصوصي، بل و بسبب ذلك- فقد أدى إلى نفور قوى اجتماعية وشخصيات كان يمكن أن تكون في الصف الثوري، فدفعها ذلك العنف إلى التكتل خوفا على مصالحها طالما وان العنف العدمي لم يؤسس لمصالح جديدة.
العنف العدمي جهل بالواقع وبآليات تغييره، وهو في عدميته تعال على الواقع بما يكرسه من تلاحم قوى الرجعية، بدلا من تثوير المجتمع من داخل بنيته الاجتماعية.
لقد تم تجريد الواقع بانتهاج النضال المسلح دون أن يكون هذا الخيار نابعا من جدل مع الواقع، بل كان رد فعل نتج عنه منظمة المقاومين الثوريين بعد أحداث أغسطس ومطاردات 1969م.
لقد كان الوعي الجدلي بالواقع لدى الحزب الديمقراطي الثوري خلال السنوات الأولى من تأسيسه وتوسعه داخل بنية المشيخ والضباط والتجار والطلاب والمثقفين والتجار ترجمة ثورية ووعيا بالجدل المادي الذي يؤدي إلى تثوير المجتمع بما يحمله من وعي به وتوجيه له، لكن هذا النهج بما يكتنزه من وعي بالواقع تم القضاء عليه بانتهاج طريق الكفاح المسلح واستخدام لغة السلاح لا لغة التثوير للمجتمع. مما أدى بالمحصلة إلى تصلب قوى المشيخ وتماسك مصالحها، وقطع الطريق على النهج السلمي في التثوير، والذي كان سيؤدي حتما إلى توسيع القاعدة الاجتماعية الثورية، مما يجعل خيار الكفاح المسلح مرتبط حينها بقوة فاعلة على الأرض، لا عدمية تعيق طريق التثوير وترتد بالمجتمع نحو أزمنة ما قبل وطنية.
ولعل أفضل توصيف لهذه العدمية ما عبر عنه في مذكراته القيادي في الحزب الديمقراطي الثوري والحزب الاشتراكي اليمني الشيخ يحيى منصور أبو اصبع ، والتي عنونها بـ “دمعة حزم ووفاء على ضريح الشيخ الرفيق أحمد علي عبد الباقي الشهاري-الحلقة الخامسة- المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي. يقول فيها:
“.. وجاءت أحداث العدين والفرع والحزم ومذيخرة بدءاً من عام 1971 وذلك بانتشار عناصر المقاومة المسلحة والتي كان على رأسها منظمة المقاومين الثوريين بدعم من الجنوب، ويتعرف محمد عايض على بعضهم وينصح أصحابه بالالتحاق بالمقاومة من منطلق أنه جزء منها لأنه عضو في الحزب الديمقراطي، كنت قد توليت مسؤوليته في بداية عام 1970 ثم سلمته للرفيق عبدالحفيظ بهران والذي أصبح في هذا العام عضواً في مجلس الشورى وفرح الشيخ محمد عايض بهذه النقلة لأنه يعجبه الظهور والاستفادة على مستوى مجلس الشورى..
في أوائل 1972 أرسله عبدالحفيظ إلينا ليشرح لي الوضع في حزم العدين مع وجود المقاومة المسلحة المدعومة من بعض أوساط النظام في الجنوب، قال أن هذه المقاومة ليست التي كنا نحلم بها ونتوقعها وأن أفرادها في سلوكهم وتصرفاتهم لا يختلفون عن جيش السلطة وقبائل الحداء وعنس وحاشد وبكيل إلا من حيث الشعارات، كما أنه التقى ببعض القادة وسمع منهم كلاماً مسيئاً على الحزب الديمقراطي الثوري الذي لم ينهج بعد الكفاح المسلح ولا زال يؤمن بالكفاح السياسي فقط، واكتشف أن عناصر الحزب الديمقراطي يعانون من الاضطهاد وهم غير قادرين الإفصاح عن أنفسهم خشية البطش بهم من رفاقهم المقاومين، ويقول أن تصرفات بعض قادة المقاومة ونظرتهم للشخصيات الاجتماعية وميسوري الحال وأصحاب الأراضي تختلف من قيادي الى آخر حول الإعلانات الثورية عن مصادرة الممتلكات وتأميمها وتسليمها للفلاحين الثوريين المعدمين تحت شعار الأرض لمن يفلحها لا لمن يملكها، وقال كل هذا سابق لأوانه وأشار أنه هو من عمل مع العديد من المشايخ على دخول المقاومة المسلحة في مختلف مناطق ناحية الحزم.. المهم عملت تقرير وأرسلت بصورة إلى قيادة تعز وكان حينها المسؤول الأول الرفيق ظهير (عبد الرحمن غالب) وصورة أرسلتها إلى عدن للرفيق سلطان أحمد عمر وجار الله عمر، جاءني الرد بعد شهر من عبدالرحمن غالب أن مقاومة العدين بكل مديرياتها وشرعب يغلب عليها منظمة المقاومين الثوريين، وأن الكثير من قادتها يتهمون الحزب الديمقراطي اليمني بأنه حزب مساوم ومنظر للإقطاع وداخل صفوفه مشايخ وبعضهم ملاك أراضي، ويعتبرون الحزب في صف القوى المعادية، ونصح بالتعامل الهادئ وعدم الاستجابة لأي استفزاز لأننا غير قادرين على التأثير في أساليبهم (كان الحزب الديمقراطي حتى نهاية عام 1972 لم يعلن تبنيه الكفاح المسلح كشكل من أشكال النضالات المتعددة حتى اضطر تحت ضغط الأحداث إلى تشكيل منظمة جيش الشعب الثوري التابع للحزب الديمقراطي) وللعلم أن إعلان منظمة جيش الشعب قد جاء بغرض وقف النزيف الخطير لكوادر الحزب وخاصة العسكريين من الالتحاق بمنظمة المقاومين الثوريين لأن مزاج الناس في تلك الفترة التاريخية كان مع العمل الثوري المسلح وخاصة العسكريين فموضة حرب التحرير الشعبية كانت طاغية على الساحة الدولية أعني آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.”
من المغالطات التي تحتال على النقد الذاتي لدى العديد من قيادات فصائل اليسار التي وقعت على الدمج -أن نجدها تكتب منتقدة ذلك الدمج بل وواصفة له بالدمج القسري، ومسار الكفاح المسلح الذي انتهجته “منظمة المقاومين الثوريين” و “الجبهة الوطنية الديمقراطية” رغم ان مداد توقيعاتهم هو من رسم تلك المرحلة، التي باتوا يصفونها بالشمولية والدمج القسري، المؤسس لمزيد من التناقضات، ليصبح الحزب الاشتراكي اليمني مجمع التناقضات القديمة ومنتج لتناقضات جديدة، اتخذت لنفسها لبوس الحداثة وظلت تتكئ في صراعها على أدوات وقوى وانتماءات عصبوية تقليدية، مما جعل الحداثة قشرة هشة تلاشت في محطات دموية عديدة بلغت مجمعها مع أحداث 13يناير 1986م.
إن النقد من موقع الحكيم المتعالي لا من موقع النقد الذاتي لمسار تاريخي كانت الذات جوهرية في إسهامها بتلك التناقضات المميتة-لا يمثل احتيالا شخصيا فحسب لكنه يفضي بالنتيجة إلى أن نظل نراوح في مكاننا دون إنصاف من ذواتنا ودون إنصاف لذاوتنا.
فدون النقد الذاتي تجاه الآخرين لن نقتص وننتصف منهم طالما ان الذات ترى نفسه صائبة في كل المراحل وتسرد الأحداث في شهاداتها من موقع الأنا الحكيمة والآخر هو الجحيم.
إن النظرة المانوية في رؤية القوى الاجتماعية المشيخية كطبقة مغلقة وشر مطلق يسهم في تصليب القوى المضادة للتثوير الاجتماعي بدلا من تفكيكها ونقل التثوير والتغيير إلى داخل بنيتها.
كل تلك العدمية التي اختارت الكفاح المسلح طريقا للتغيير دون وعي بممكنات وغياب الوعي في كيفية تثوير المجتمع لم تصنع حاضنة اجتماعية لمنظمة “المقاومين الثوريين” والجبهة الوطنية الديمقراطية” بل ظلت محصورة وبندقيتها في مناطق التماس، مما جعل الكفاح المسلح ذراعا متقدمة لدولة ونظام في مواجهة دولة ونظام، وضحية الخصومات والمصالحات بين نظامين متماثلين في رفض التعدد وفي بنية التخلف الاجتماعي، وفي نفي المختلف وإقصائه بالقتل، في صراعات متتالية بينية أو داخل بنية كل نظام.